رغم التراجع الملموس في أعداد زيجات القاصرات المصادق عليها قضائياً في المغرب خلال السنوات الأخيرة، إلا أن وزارة العدل دقّت ناقوس الخطر مجدداً بشأن استمرار تفاقم هذه الظاهرة داخل الأوساط القروية، ما يُبرز الحاجة إلى تدخلات شاملة تتجاوز الأبعاد القانونية إلى معالجة الاختلالات الاجتماعية والثقافية والاقتصادية المرتبطة بها.
فبحسب المعطيات الرسمية التي قدمها وزير العدل، عبد اللطيف وهبي، في جواب كتابي على سؤال برلماني، انخفض عدد زيجات القاصرين من 26 ألفاً و298 حالة سنة 2017 إلى 8 آلاف و955 حالة في سنة 2024، أي بتراجع يقارب 66% خلال سبع سنوات. وهو ما اعتبره الوزير تطوراً إيجابياً يعكس بداية استيعاب خطورة الظاهرة وتقييد شروط تزويج القاصرين.
إلا أن الصورة تبدو أكثر تعقيداً عند فحص الأرقام بحسب التوزيع المجالي، إذ تظهر معطيات الوزارة تفوقاً لافتاً للطلبات المقدمة من القرى والمناطق النائية مقارنة بالمناطق الحضرية. ففي سنة 2021، تم تسجيل 15 ألفاً و150 طلباً لتزويج القاصرين في العالم القروي، مقابل 6 آلاف و283 طلباً في المدن. ولم يختلف الوضع كثيراً في سنة 2024، إذ بلغت الطلبات في المناطق القروية 11 ألفاً و325، بينما لم تتجاوز 4 آلاف و100 في المدن.
هذا الفارق، وفقاً للوزير، لا يعكس فقط التفاوت الجغرافي في التعاطي مع الظاهرة، بل يُظهر بوضوح أن تزويج القاصرات لا يزال يُنظر إليه كـ”حل اجتماعي” في بعض المناطق، بسبب الفقر، الهشاشة، ضعف الوعي بحقوق الفتاة، إضافة إلى تأثير العادات والتقاليد الراسخة، التي تعيق الارتقاء بحقوق الطفلات في الأوساط الريفية.
تعديل قانوني.. لكنه غير كافٍ
وفي هذا السياق، شدد وهبي على أهمية المراجعة المرتقبة لمدونة الأسرة، موضحاً أن التعديلات الجديدة تتجه إلى حصر سن الزواج في 18 سنة شمسية كاملة، مع إمكانية منح الترخيص في سن 17 سنة فقط وفق شروط صارمة، تُبقي الاستثناء في حجمه الطبيعي، ولا تسمح بتحوّله إلى قاعدة.
وقال الوزير إن الهدف من هذا التعديل هو “تطويق الظاهرة قانونياً، مع ضمان أن كل استثناء يتم تحت رقابة قضائية دقيقة، تحفظ حقوق القاصرين وتراعي مصلحتهم الفضلى”. لكنه في المقابل، أكد أن معالجة الظاهرة لا يمكن أن تقتصر على المقاربة القانونية وحدها، بل يجب أن تشمل إصلاحات أعمق تشمل التربية، التوعية، وتمكين الأسر في المناطق الفقيرة، حتى لا يتحوّل الزواج المبكر إلى خيار اضطراري تمليه الظروف الاقتصادية والاجتماعية.
دعوة لتدخل متعدد الأبعاد
وإزاء هذا الوضع، يُجمع عدد من المهتمين بقضايا الطفولة وحقوق النساء على أن تراجع الأرقام لا يعني نهاية الظاهرة، بل يستدعي تفعيل سياسة عمومية شاملة ومندمجة، تتدخل فيها قطاعات متعددة كالصحة، والتعليم، والشؤون الاجتماعية، والتضامن، والتنمية القروية، بهدف تعزيز مكانة الفتاة، وتمكينها من فرص التعليم والتكوين، وبالتالي تأخير سن الزواج بشكل طبيعي دون الحاجة إلى تدخل قضائي.
ويرى مراقبون أن نجاح أي إصلاح قانوني يظل رهيناً بمدى قدرته على التفاعل مع الواقع الاجتماعي، مشددين على ضرورة تقوية التحسيس بمخاطر تزويج القاصرات، خاصة في الوسط القروي، ودعم الأسر الهشة من خلال برامج الدعم المباشر والمواكبة النفسية والاجتماعية.
رغم الإشارات الإيجابية التي تعكسها أرقام وزارة العدل بشأن تراجع تزويج القاصرين في المغرب، إلا أن استمرار هيمنة المناطق القروية على النسبة الأكبر من الطلبات يثير تساؤلات عميقة حول مدى فعالية المقاربة الحالية في التصدي للظاهرة. ويبدو أن الحل لن يتحقق بتعديل بنود القانون فقط، بل بضرورة إحداث تغيير حقيقي في العقليات والمفاهيم السائدة، عبر سياسات تربوية وتنموية طويلة الأمد، تُعيد للفتاة القروية حقها الطبيعي في التعليم، والاختيار، والحياة الكريمة.