تحل الذكرى السادسة والعشرون لاعتلاء الملك محمد السادس عرش المملكة، والمغرب يواصل تثبيت موقعه كفاعل وازن في المشهد الرياضي الإقليمي والدولي. فمنذ توليه الحكم في يوليوز 1999، حرص جلالة الملك على جعل الرياضة جزءًا لا يتجزأ من المشروع الوطني للتنمية، رافعة للتأهيل البشري، وأداة للدبلوماسية الناعمة، ومجالا استراتيجيا للتخطيط والاستثمار.
بين تثبيت دعائم البنية التحتية، وتحفيز الإنجازات الفردية والجماعية، وتعزيز الحضور المؤسساتي على الصعيد القاري والدولي، يتجلى بوضوح أن التحولات التي عرفها القطاع الرياضي في المغرب ليست طارئة، بل نابعة من رؤية شمولية تُدار من أعلى هرم الدولة، وفق منهجية بعيدة المدى.
البنية التحتية: من التحديث الداخلي إلى الجاهزية العالمية
منذ مطلع الألفية، أولت التوجيهات الملكية أهمية قصوى لتأهيل وتوسيع البنية التحتية الرياضية. وقد تم إطلاق عدد من الأوراش الكبرى في هذا الصدد، همّت مختلف الجهات، وأخذت في الاعتبار توزيعًا ترابيا متوازنًا، ومقاربةً تستند إلى المعايير الدولية.
في صلب هذه التحولات، برز المشروع المتكامل لتأهيل ملاعب المملكة استعدادًا لاحتضان كأس إفريقيا للأمم 2025 وكأس العالم 2030، حيث تسير الأشغال بوتيرة عالية في عدد من الملاعب الكبرى التي تم اختيارها ضمن الملف الثلاثي المغربي-الإسباني-البرتغالي.
يتصدر هذه المشاريع “الملعب الكبير للدار البيضاء”، الذي يُشيد بمنطقة بنسليمان بطاقة استيعابية تناهز 113 ألف متفرج، مما يجعله أكبر ملعب في إفريقيا والعالم العربي، ومن المنتظر أن يحتضن إحدى مباريات افتتاح كأس العالم.
إلى جانبه، يخضع ملعب الأمير مولاي عبد الله بالرباط، لعملية تأهيل شاملة هي الأكبر منذ افتتاحه، تشمل تحديث أرضيته، توسعة المدارج، تحسين الولوجيات، وتطوير مرافق الإعلام والبث والتجهيزات الطبية. وقد زار رئيس الاتحاد الدولي لكرة القدم، جياني إنفانتينو، هذا الورش خلال الأيام الأخيرة، وصرّح بأن ما أنجزه المغرب في هذا الصرح يجسد “تحولًا نوعيًا يجعل المملكة في مصاف النخبة العالمية لكرة القدم”.
وتواصل المملكة، بنفس الدينامية، تأهيل ملاعب مراكش، طنجة، أكادير وفاس، من خلال تحسين الطاقة الاستيعابية، وتجديد المرافق الداخلية، وتركيب أنظمة متقدمة في الإضاءة، الصوت، والفيديو، إلى جانب تطوير المحيطات الخارجية، وهو ما يضع هذه الملاعب في قلب شبكة احتضان متكاملة، مؤهلة لاستقبال كبرى التظاهرات الدولية، وفق دفتر التحملات المعتمد من قبل الفيفا.
في موازاة هذه الأوراش، تمثل “أكاديمية محمد السادس لكرة القدم” بسلا محطة مرجعية في مسار التكوين الرياضي بالمملكة. الأكاديمية، التي تأسست بناءً على رؤية ملكية واضحة، تمثل اليوم منصة نموذجية لإعداد اللاعبين الشباب، وتكوين الأطر، وتعزيز تكوين النخبة، وقد أثمرت عن بروز عدد من اللاعبين الدوليين في مقدمتهم نايف أكرد، يوسف النصيري وعز الدين أوناحي.
يمثل أيضا مركب محمد السادس لكرة القدم بسلا أحد أعمدة السياسة الرياضية الجديدة في المغرب، حيث يُعد من بين أفضل المراكز التقنية على مستوى القارة الإفريقية والعالم العربي. وقد تم افتتاحه سنة 2019 بتوجيهات ملكية سامية، ليشكل منصة عصرية تجمع بين التكوين، الإعداد، والإقامة، وفق معايير الفيفا والكاف. يمتد المركب على مساحة تناهز 30 هكتارًا، ويضم أربعةملاعب رئيسية، قاعات للعلاج الطبيعي والطب الرياضي، مركزًا للبحوث، مرافق للإيواء من فئة خمس نجوم، بالإضافة إلى فضاءات للمنتخبات الوطنية بجميع فئاتها، نساء ورجالًا.
وقد أثبت هذا الصرح العملاق دوره الاستراتيجي في تأطير جيل جديد من اللاعبين، وتأهيل المنتخبات الوطنية في أفضل الظروف. احتضن المركب معسكرات حاسمة خلال استعدادات المنتخب الأول لمونديال قطر، وكان محطة رئيسية في تحضيرات المنتخب النسوي قبل كأس العالم 2023، ما جعل الفيفا تُشيد في أكثر من مناسبة بجودة تجهيزاته ونجاعة برامجه. وبات المركب اليوم واجهة للرياضة المغربية الحديثة، ومركزًا للتعاون الإفريقي في مجالات التكوين والتطوير.
اليوم، أضحى المركب يستضيف ضمن مرافقه، مقر الاتحاد الدولي لكرة القدم “فيفا” الإقليمي، والذي تم تدشينه بحضور انفانتينو وشخصيات بارزة في التسيير الرياضي قاريا ودوليا.
وفي هذا السياق، اعتبر فوزي لقجع، رئيس الجامعة الملكية المغربية لكرة القدم، أن تدشين المقر الجهوي للاتحاد الدولي لكرة القدم (فيفا) بالعاصمة الرباط، “يشكل لحظة تاريخية واستثنائية”، تعكس وفق تعبيره “المسار المتميز والرؤية المتبصرة لجلالة الملك محمد السادس نصره الله، الذي جعل من الرياضة رافعة حقيقية للتنمية ومنصة للرقي بالشباب المغربي والإفريقي”.
وشدّد لقجع على أن المملكة المغربية، تحت القيادة الرشيدة لصاحب الجلالة، أصبحت علامة مرجعية في المجال الرياضي والتنموي خلال العقود الأخيرة، مجسدة بذلك العناية الخاصة التي يوليها الملك لقطاع الرياضة، وبوجه خاص لكرة القدم، التي أضحت اليوم أحد عناوين التميز المغربي على المستويين القاري والدولي.
تشجيع الإنجاز: دعم ملكي ثابت للرياضيين والمنتخبات الوطنية
إن ما يميز السياسة الرياضية في عهد الملك محمد السادس هو المزج بين العناية بالبنية التحتية ودعم الأداء الرياضي، في بعديه الفردي والجماعي. وقد شكل البطل الأولمبي والعالمي سفيان البقالي نموذجًا حيًا لهذا التوجه، حيث حظي بتهنئات ملكية عقب كل تتويج، سواء في أولمبياد طوكيو2020 وباريس 2024 أو في بطولتي العالم بيوجين وبودابست، مما يعكس القيمة التي يوليها جلالته للنجاح الفردي كرافعة للاعتراف الدولي.
وتبرز ملحمة المنتخب الوطني المغربي في كأس العالم “قطر 2022” كحدث فارق، ليس فقط على المستوى الرياضي، حيث بلغ المنتخب نصف النهائي لأول مرة في تاريخه، بل أيضا من حيث التفاعل الرسمي، إذ خصّهم جلالة الملك باستقبال ملكي سامٍ بحضور عائلاتهم، في مبادرة غير مسبوقة جسدت عمق التقدير الملكي للمجهودات المبذولة.
كما شمل الدعم الملكي كرة القدم النسوية، التي شهدت بدورها طفرة ملحوظة، تُوّجت ببلوغ المنتخب النسوي نهائي كأس إفريقيا في مناسبتين، وتأهله لأول مرة إلى كأس العالم. أما على صعيد الأندية، فقد فرضت الفرق المغربية حضورها القاري من خلال تتويجات متكررة، أبرزها الوداد والرجاء ونهضة بركان، بفضل بنية احترافية وإدارية مستقرة، نابعة من منظومة دعم شاملة.
رسالة كيغالي: إعلان رسمي عن دخول المغرب مرحلة جديدة
في مارس 2023، وعلى هامش مؤتمر الاتحاد الإفريقي لكرة القدم بكيغالي، أعلن الملك، في رسالة رسمية إلى المشاركين، انضمام المغرب رسميًا إلى ملف تنظيم كأس العالم 2030، بشراكة مع إسبانيا والبرتغال. وقد اعتُبرت هذه الرسالة لحظة مفصلية، إذ وصف فيها جلالته الترشيح الثلاثي بـ”السابقة التاريخية التي تجسد تلاقي إفريقيا وأوروبا، والعالمين العربي والمتوسطي”، في تأكيد على البعد الحضاري والجيوسياسي لهذا الخيار. ولم تمضِ سوى أشهر قليلة حتى أعلنت الفيفا اعتماد الملف بشكل رسمي، واضعة المغرب في صدارة المشهد الكروي العالمي للسنوات القادمة.
رغم طموحاته الكبيرة ورغباته المتكررة، لم يُكتب للمغرب تنظيم كأس العالم سابقًا، إذ تقدّم بعدة ترشيحات منذ عام 1994، لنسخ 1998، 2006، 2010، 2018 و2026، لكنه لم يحظَ بالثقة في تلك المناسبات، وهو ما شكل تحديًا ومحنة وطنية حقيقية استقبلها الشعب المغربي بعزة نفس وإصرار على مواصلة البناء والتطوير.
لكن رسالة الملك محمد السادس في مؤتمر كيغالي عام 2023 جاءت لتفتح صفحة جديدة، حيث أعلن جلالته بكل وضوح انضمام المغرب إلى ملف مشترك مع إسبانيا والبرتغال لاستضافة كأس العالم 2030، في خطوة توحد القارات وتعبّر عن إرادة قوية للتعاون العابر للقارات، وإيمان بثمرة التراكم والبناء المستمر.
وفي موازاة هذه الدينامية، تعزز الحضور المغربي داخل المؤسسات الرياضية القارية والدولية، لاسيما من خلال شخصية فوزي لقجع، الذي يشغل مناصب بارزة في الكاف والفيفا، ويقود الجامعة الملكية المغربية لكرة القدم وفق رؤية مؤسساتية حديثة تستلهم توجيهات جلالة الملك.
هذا الحضور لم يقتصر على التمثيلية، بل تُوّج بإطلاق شراكات دولية، منها فتح مكتب إقليمي للفيفا بالرباط، وتنفيذ برامج تكوين لفائدة الأطر الإفريقية في إطار التعاون جنوب–جنوب، ما يعكس جدية المملكة في تصدير نموذجها الرياضي إقليميًا.
في الذكرى السادسة والعشرين لعيد العرش، تقدم الرياضة المغربية صورة متكاملة عن مشروع تنموي يرتكز على التخطيط طويل الأمد، والمواكبة الميدانية، والتأثير المؤسساتي. وها هو المغرب، بفضل الرؤية الملكية، يتحول من بلد متأهل إلى بلد منظم، ومن لاعب في الهوامش إلى فاعل في قلب صناعة القرار الرياضي العالمي.