في قاعة احتضنت تاريخ الحضارات المتوسطية، وقف محمد ولد الرشيد رئيس مجلس المستشارين ليقدم رؤيةً استراتيجيةً تلامس أعطاب التحولات الجيوسياسية الكبرى، فلم تكن كلمته في منتدى مراكش البرلماني الاقتصادي مجرد خطاب بروتوكولي، بل كانت بياناً سياسياً مفصلاً عن دور المغرب في إعادة صياغة المعادلات الإقليمية تعكس رؤية مجلس المستشارين للتحولات الجيو- سياسية،
وقال ولد الرشيد أن هذا المنتدى “يشكل محطة دالة على نجاح إرادتنا المشتركة في إرساء فضاء برلماني للحوار البناء والتعاون الاقتصادي”، مؤكداً أنه يسهم في تعزيز الاندماج الإقليمي ويدعم بناء نماذج متقدمة للتنمية المشتركة. وتابع: “نحن ننعقد اليوم في سياق إقليمي ودولي تطبعه تداعيات اقتصادية متواصلة، ناجمة عن النزاعات الجيوسياسية وتصاعد حالة اللا يقين الاقتصادي”.
وأشار إلى أن العالم يشهد تحولات عميقة مرتبطة بالتغيرات المناخية، وبروز الذكاء الاصطناعي وتكنولوجيات التمويل، مشدداً على أن هذه التحولات تمثل “فرصة تاريخية للمساهمة في بلورة معالم نظام اقتصادي عالمي جديد”. وأكد أن المنتدى سيمكن المشاركين من “صياغة حلول مبتكرة واقتراح توصيات عملية تدفع الدينامية التنموية في المنطقتين”.
وقال ولد الرشيد: “إن البحر الأبيض المتوسط ليس مجرد مجال جغرافي، بل تاريخ من التبادل والتفاعل”، معتبراً أن الطموح المشترك اليوم هو “تعزيز شراكة استراتيجية بأفق أوسع تجمع بين الأبعاد الأمنية والرهانات التنموية”. وتابع: “التنمية والاستقرار والتحول الاستراتيجي ليست مسؤولية طرف دون آخر، بل مشاريع جماعية تتطلب الشراكة والابتكار والعدالة”.
وأكد أن المغرب، كفاعل أساسي في الفضاءين الأورومتوسطي والخليجي، “يؤمن بأهمية التنمية المشتركة والتآزر الإقليمي”، مشيراً إلى المبادرات الملكية مثل المبادرة الأطلسية التي تهدف إلى تسهيل ولوج دول الساحل إلى المحيط الأطلسي. وقال: “ستوضع البنية التحتية المغربية المتطورة رهن إشارة دول الساحل لتعزيز اندماجها في المنظومة التجارية العالمية”.
وتطرق إلى مشروع أنبوب الغاز الإفريقي الأطلسي، بالتعاون مع نيجيريا، قائلاً: “هذا المشروع يمثل رافعة أساسية لضمان السيادة الطاقية في الفضاء الأورومتوسطي، وسيشكل أطول منصة لوجستية طاقية في العالم”.
وشدد ولد الرشيد على أن تحقيق التكامل الاقتصادي بين المنطقتين “يتطلب بناء مسارات إنتاج مشتركة تعزز السيادة الصناعية، خاصة في المجالات الاستراتيجية مثل الصناعات الإلكترونية والفضائية والطاقات الجديدة”. وأضاف: “الاستثمار في الرأسمال البشري وتحسين آليات التمويل المشترك يظلان ركيزتين أساسيتين في هذا المسار”.
وتناول تحديات الذكاء الاصطناعي، قائلاً: “نحن كبرلمانات معنيون بإرساء أطر تشريعية وأخلاقية تضمن استخداماً آمناً وعادلاً للذكاء الاصطناعي، بما يخدم التنمية المستدامة”.
واختتم بالتأكيد على أن التنمية تمثل “الركيزة الأساسية للسلم والأمن”، معتبراً أن النقاشات الاقتصادية في المنتدى “تشكل مدخلاً جوهرياً لبناء نموذج إقليمي للسلم والاستقرار”. وقال: “نؤمن بأن البناء على المشترك الحضاري هو السبيل الأمثل لترسيخ التعاون المستقبلي”، معرباً عن أمله في أن تسهم نقاشات المنتدى في “رسم معالم تعاون أرحب ومستقبل واعد”.
المغرب فاعل قوي في هندسة التحالفات الجديدة
ويرى مراقبون للمشهد السياسي، أن السياق الذي أُلقيت فيه الكلمة يكشف عن عمق الرهان المغربي، وففي وقت تشهد فيه المنطقة الأورومتوسطية أعلى درجات التوتر منذ الحرب الباردة، بين صراع النفوذ الروسي-الأوروبي على الطاقة، والتنافس الأمريكي-الصيني على التقنيات الاستراتيجية، يقدم المغرب نفسه كطرف فاعل قادر على هندسة تحالفات جديدة.
فمشروع “المبادرة الأطلسية” الذي أشار إليه ولد الرشيد ليس مجرد بنية تحتية لوجستية، بل سلاح جيوسياسي بامتياز، فبربط دول الساحل الإفريقي بالموانئ المغربية، تقوم الرباط بقطع الطريق على النفوذ الجزائري في المنطقة، وتقدم نفسها كبوابة لا غنى عنها لأوروبا نحو إفريقيا.
اللافت في الخطاب هو كيفية توظيف المغرب لأزمات النظام الدولي لتعزيز مكانته. أزمة الغاز الأوروبية بعد الحرب الأوكرانية حولت مشروع أنبوب الغاز المغربي-النيجري من حلم إفريقي إلى ضرورة أوروبية. هنا يظهر بروز المغرب كـ”حلقة وصل” بين ثلاث قارات: إفريقيا كمصدر للطاقة، أوروبا كمستهلك، والخليج كشريك تمويلي. هذه المعادلة الثلاثية الأبعاد تمنح الرباط ورقة ضغط غير مسبوقة في مفاوضاتها مع بروكسل.
فرصة تاريخية لبلورة نظام اقتصادي عالمي جديد
فـ“نحن أمام فرصة تاريخية لبلورة نظام اقتصادي عالمي جديد”، لولد الرشيد، هذه العبارة لم تكن مجرد شعار. إنها تعكس إدراك المغرب لتحول موازين القوى العالمية، في وقت تتراجع فيه الهيمنة الغربية وتتصاعد القوى الآسيوية، يطرح المغرب نفسه كفاعل في تشكيل النظام الجديد، بحيث يؤكد مراقبون أن هذا يكشف أن الرباط ترفض أن تكون مجرد متلقٍ للقرارات الدولية، بل تسعى لأن تكون في طاولة صنع القرار، خاصة في مجال الاقتصاد الإقليمي.
لكن الطموح المغربي لا يقف عند الجغرافيا السياسية التقليدية. إصرار ولد الرشيد على ملفات الذكاء الاصطناعي والأمن السيبراني يكشف عن استراتيجية أعمق. فالمغرب الذي استثمر مبكراً في الطاقة الخضراء والرقمنة، يحاول اليوم أن يتحول من مستهلك للتكنولوجيا إلى شريك في صنعها. هذا المسعى ليس اقتصادياً فحسب، بل هو محاولة للتحرر من التبعية التكنولوجية للقوى الكبرى، في وقت تشتد فيه الحرب الباردة الرقمية بين واشنطن وبكين.
بحيث أكد ولد الرشيد، “أن العالم يشهد اليوم جملة من التحولات العميقة المرتبطة بالتغيرات المناخية وأهمية ملاءمة المنظومات الاقتصادية للحد منها، إلى جانب تحولات أخرى تهم بالأساس نماذج النمو الوطنية ودخول الذكاء الاصطناعي والتعلم العميق(Deep learning) وتكنولوجيات التمويل(FinTech) كعاملين أساسيين في الابتكار والإنتاج والتمويل، وكذلك استمرار تشكيل سلاسل القيمة(Value Chain) الجديدة ذات الطابع الإقليمي والجهوي، وتَغَيُّرَات هيكلية على مستوى مسارات الإمداد العالمية”.
“التعاون البرلماني” و”الحكامة المشتركة”
الخطاب حمل أيضاً رسائل مدروسة للشركاء الإقليميين. التأكيد على “المشترك الحضاري” مع دول الخليج لم يكن مجرد مجاملة دبلوماسية، بل إشارة واضحة إلى أن الرباط ترفض أن تُختزل في علاقتها بأوروبا. هذه النبرة تعكس تحولاً استراتيجياً في السياسة الخارجية المغربية، التي باتت توزع أوراقها بين الرياض وأبوظبي وباريس وواشنطن بذكاء لافت.
بين سطور الكلمة، كان هناك اعتراف غير مباشر بالتحديات. التركيز على “التعاون البرلماني” و”الحكامة المشتركة” يكشف عن إدراك مغربي أن الطموحات الإقليمية تحتاج إلى غطاء مؤسساتي دولي. فالمغرب الذي يعرف جيداً قواعد اللعبة الدولية، يحرص على أن تظهر مبادراته كشراكات إقليمية وليس كسياسات أحادية.
“التنمية كبديل عن العنف”
عندما اختتم ولد الرشيد كلمته بالحديث عن “التنمية كبديل عن العنف”، كان يلخص فلسفة مغربية عميقة في التعامل مع الجوار الإفريقي. فبينما تعتمد بعض الدول على القواعد العسكرية أو دعم الميليشيات، يقدم المغرب نموذجاً مختلفاً قائماً على الاستثمار في البنية التحتية والربط الكهربائي والتبادل التجاري. هذه “الدبلوماسية الاقتصادية” التي تروج لها الرباط تبدو اليوم أكثر فعالية من أي وقت مضى، في ظل انكفاء الولايات المتحدة نسبياً عن إفريقيا، وتصاعد النفوذ الروسي والصيني في القارة.
في النهاية، لم يكن منتدى مراكش مجرد لقاء اقتصادي عابر، فالخطاب المغربي هنا رسم ملامح مرحلة جديدة من السياسة الخارجية، حيث تتحول المملكة من دولة تسعى لحماية مصالحها، إلى فاعل إقليمي يصوغ تحالفات كبرى.
ويرى مراقبون أن هذا التحول لم يأتِ من فراغ، بل هو ثمرة استثمار استراتيجي دام عقداً من الزمن في البنية التحتية والدبلوماسية الاقتصادية. اليوم، ومع كل ورقة يلعبها المغرب ببراعة – من الغاز إلى اللوجستيك إلى التكنولوجيا – يثبت أن الدول المتوسطة القوة يمكنها أن تصنع تأثيراً يتجاوز حجمها الجغرافي، إذا ما امتلكت رؤية واضحة وإرادة سياسية حازمة.