الخبير الامني محمد بوزفور يكتب : الاحزاب الفرنسية .. ورهانات الرقمنة والمواطنة !!

في ظل استمرار الخطر على الصحة العامة بفرنسا والذي ينتقل يوميا عبر وباء كوفيد 19 ، المنتشر بسرعة عبر المتحور دلتا / Delta ، اختار رئيس حزب فرنسا المتمردة France Insoumise جون لوك ميلانشون تاريخ فاتح يوليوز 2021 ليعلن في ندوة صحفية أنه يحبذ ان يكون التصويت الانتخابي خاضعا للاجبارية .
ومن ثمة, رأينا الرجل الذي كان يقدم نفسه على انه الرافض لاي اجراء له صبغة إكراهية -Coercitif - ينتقص من مجالات الحرية التي يخولها الدستور للمواطن ، يركب اليوم موجة الاختلاف عن السائد ، و يصرح انه مع اجبار المواطنين على التصويت ، في مفارقة صارخة مع الموقف الذي عبر عنه ضذ إجبار الساكنة على التلقيح ، وهو الموضوع الذس سرعان ما اصبح خلافيا بين مكونات الرأي العام الفرنسي . .

على مسافة زمنية قريبة من تموقع ميلانشون ، صرح الرئيس ماكرون رئيس حزب الجمهورية الى الامام في استجواب خص به مجلة Elle / النسائية ، بان هناك مخاطر تهدد بالتفكك المجتمعي وان الهوية الفردية والعرقية بدأت تطغى على الهوية الجماعية المشتركةً ، فيما اسماه ب Racialisation ، علما ان هذا المصطلح ليس بحديد عن ساحة التداول السياسي والاعلامي ، فهو لا يبتعد عن معنى le communautarisme .

ويمكن اختزال مساحة الالتقاء بين تصريحات الطرفين في النقط التالية :
اولا — ان اختيارهما معا الخروج الاعلامي في وقت متقارب جدا ، يفصح عن رغبتهما التقليل من حجم الهزات الانتخابية الاخيرة والظهور اعلاميا بمظهر يوحي بان -كأن لا شيء حدث - وذلك في محاولة منهما امتصاص مشاعر الاحباط والخيبة لدى القاعدة الحزبية باسلوب التسويق Marketing السياسي ، ولإبراز أن الأهم هو الاستعداد لخوض أم المعارك في ساحة الانتخابات الرئاسية 2022.،
وهو نفس التوجه الذي شددت عليه ايضا مارين لوبين زعيمة اليمين المتطرف التي تبحث هي الاخرى عن نفس جديد ، حيث أعلنت يوم السبت 4 يوليوز 2021 أنها ستتفرغ شخصيا للاعداد للانتخابات الرئاسية المقبلة , لتعهد لاحد نوابها الاشراف على تسيير دفة الحزب ( التجمع الوطني ) .
.
ثانيا — لاشك ان الخروج بهذه المواقف المثيرة للفضول من طرف قادة حزب فرنسا المتمردة وحزب الجمهورية الى الامام ، كان الغرض منه اثارة نقاش جانبي من شانه توفير شروط المسرحة السياسية وتوجيه انظار الراي العام الفرنسي نحو تيمات ذات بعد جماهيري ، تتوزع بين المجال الصحي والمجال الهوياتي ، في محاولة للتعمية على الخسائر الفادحة التي تكبدها معسكرهما في المحطة الانتخابية المحلية !!

في ظل هذا التجاذب، لم ينتظر وزير الصحة الفرنسي olivier Véran طويلا ليصرح الجمعة 2 يوليوز 2021 امام رجال الاعلام ان الحكومة لن تكره كافة الساكنة على التلقيح وان الطابع الاجباري سيشمل في هذا الوقت المستخدمين من هيئة التمريض فقط ، والذين سبق لشرائح منهم ان عبرت عن رفضها الخضوع للتلقيح .
وقد جاء هذا التوضيح الحكومي الرسمي منسجما مع ذاته ، اذ لا يستقيم ان يفرض رئيس الدولة اجبارية التلقيح على الجميع تحت ذريعة ضعف الاقبال المسجل على صعيد مجموعة من المناطق الفرنسية، ودلك تفاديا لردود الفعل المضادة المحتملة التي قد تعصف بشعبيته أو تصيب بالعطب المباشر مسيرته في الانتخابات الرئاسية 2022 .
ومن ثمة كان ملحا ان يركز تدخل وزير الصحة على نفي بعض الاخبار التي تناسلت حول نية الحكومة تبني التلقيح الاجباري ، سيما بعد ارتفاع النبرة لدى بعض الفاعلين بالجهاز التنفيذي الداعية الى تشديد تدابير الوقاية الصحية جراء تصاعد انتشار سلالة Delta ، التي شرعت هذا الصيف في إشعال حرائق جديدة بفرنسا و عبر العالم .
.اذن فالآلة التسويقية التي وظفها ميلانشون وماكرون عند حديثهما للصحافة ، كل فيما يخص ، حين نادى الاول بإرغام المواطن على التلقيح ، وأكد الثاني على الاخطار المهددة للهوية الوطنية ، قد اشتغلت خارج المنطق ، اذ بدل اعتماد التكتيك الذي يقفز على الخسائر الانتخابية ، كان من الممكن أخذ المبادرة الشجاعة بتفسير اسبابها الحقيقية وتخصيص ندوات وحوارات عمومية أو داخل الحزب على الاقل ، لتقييم المرحلة وتنزيل الخلاصات الواجب استحضارها في هذا الشأن .. في هذا الوقت اختارت مارين لوبين تنظيم مؤتمر وطني للحزب بمذينة Perpignan نهاية الاسبوع 6 و 7 يوليوز الجاري ، ولكن ليس للتصحيح واستخلاص العبر بعد الكبوة الانتخابية الاخيرة أو تغيير الخط السياسي ، بل من أجل - ما اسماه بعض قادة التجمع الوطني- بتوجيه البوصلة نحو الاستحقاق الرئاسي المقبل .
ومن ثمة يلاحظ بعض الاحزاب الفرنسية لا تتفاعل بشكل كاف مع الواقع ، حيث تسعى استراتيجياتها ، في هذه الظرفية بالذات الى تحويل هزائمها الى شبه انتصارات وانتصارات الخصوم الى انتكاسات !!

ألم نلاحظ ان ميلانشون ومارين لوبين لم يترددا في كيل الاتهام الى المنتخبين المحليين والسلطات المحلية في ما وصفاه بالتقصير في النهوض بادوار التحسيس والتجنيد للمواطنين قصد الرفع من نسب المشاركة في الاستحقاق الانتخابي الذي جرى في جولتين يومي 20 و 28 يونيه 2021 ؟ ؟
وكأن دور قياداتهم ومفكريهم ينحصر في التفرج والانتظارية ومراقبة الحدث انطلاقا من الصومعة العاجية ( المركزية ) للحزب ، وكأنهم بعيدون عن اسباب الانتكاسة ، وكأنهم قرروا ضمن مقاربة الهروب الى الامام معانقة الحكمة التي بحملها المثل القائل “ان احسن وسيلة للدفاع هي الهجوم “!!

الم يحن الوقت بعد لتقديم احد التشكيلات السياسية لمشروع اقتراح على انظار البرلمان الفرنسي يتعلق باعتماد التصويت الابيض في حدود نسب مئوية محددة كمقدمة منهجية لمعالجة العزوف الانتخابي ؟
اليس ممكنا للتقليص من خدة نفس العزوف اقتراح نمط جديد للتصويت - عبر الانترنيت On line - وتدارس طرق التنزيل والتطبيق التقنية واللوجستية الاسلم له ، ومعالجة نواقصه المحتملة من طرف المؤسسة التشريعية ، بحكم ان الشباب الفرنسي ينخرط يوميا في زمن العولمة والحاسوبات والهواتف الذكية , ويتكلم وفق قاموس ومصطلحات رقمية ، في حين ما زال العقل الحزبي عموما — اللهم بعض الاستثناءات — تحكمه هيكلة داخلية و وثائق مذهبية لم تعرف دوما التطوير والتحيين المطلوب ، لا تمنح القدرة على عصرنة ادوات التخطيط واليات الاشتغال ، و لا تشرع الباب امام اختيار النزول المباشر طيلة السنة الى المواطن / الناخب الفرنسي بالشارع العام والاحياء والقرى والجهات للحديث معه دون حواجز من اجل وضع لبنات قرب حقيقي ، وفك شفرة الصندوق الاسود الحامل لهموم وانتظارات القوى الشغيلة والعمالية وحركات الطلبة والطبقة المتوسطة ، تفاديا لاحتمال ظهور جيل جديد من الاحتجاجات أكثر عنفا مما عرف بحركة السترات الصفراء !!
ليس عيبا أن يرمي كل حزب باوراقه ودفوعاته ذودا عن مصالحه واهدافه الاستراتيجية المرتبطة بتسيد دفة الحكم بفرنسا ، انطلاقا من قوانين " اللعبة " السياسية ، لكن المرحلة حسب مجموعة الاعلاميين اليوم لم تعد تقبل بتكرار مشاهد العزوف الانتخابي الصادمة والمقاطعة السياسية الصامتة ، ولم تعد تقوى على تقوقع بعض الاحزاب حول اعلانات محنطة للمبادئ ، بل تفرض طرح مشاريع اجتماعية واقتصادية قابلة للأجرأة و اقتراحات وبدائل ذات مصداقية تهدف الى استعادة طعم صناديق الاقتراع عبر التكيف مع حاجيات العصر من اجل محاربة الجهل بحياة الناس. والقطع مع الجهل الرقمي الذي يخلق القطيعة مع الشباب !!
إ ن اي مقاربة تسويقية للحضور الحزبي داخل الحياة العامة لا تستحضر البعد المحلي تطغى عليها المركزية ويغيب عنها حس المواطنة ، لاشك انها ستخلف الموعد مع التاريخ وتهدر فرص البقاء ضمن صيرورة السباق والتدافع !!
—- محمد بوزفور —-