تميزت الدورة الثانية من الانتخابات البلدية لفرنسا الامس الأحد بأربع معطيات سوسيولوجية دالة: أولها اتساع ظاهرة المقاطعة للانتخابات. ثانيها تراجع الأحزاب الفرنسية التقليدية بيمينها وبيسارها. ثالثها تراجع الحزب الحاكم الذي تكبّد عدّة هزائم رغم فوز رئيس الوزراء إدوار فيليب. رابعها تقّدم الخضر في عدة مدن كبرى
- اتساع دائرة المقاطعة للانتخابات: تعد هذه الظاهرة معطى سوسيولوجي هام لعلم الاجتماع السياسي الذي يعتبرها آلية احتجاج قوية ومشروعة ضد السياسات العمومية للحزب الحاكم ، واداة تعبير عن السخط واللامبالاة اتجاه الفعل الانتخابي وكيفية تدبير الشأن العام،وفي هذا الصدد يجب وضع نسبة الامتناع عن التصويت غير المسبوق التي عرفتها الانتخابات الفرنسية والتي ناهزت 60 بالمئة في الدورة الثانية من الانتخابات بعد ثلاثة أشهر ونصف شهر من الدورة الأولى التي
سجّلت أيضاً معدل إقبال ضعيفاً. نسبة أقلقت الرئيس إيمانويل ماكرون وجان لوك ميلونشون ومارين لوبن وباقي النخب الفرئنسية.
- تداعيات ضعف المشاركة في العملية الانتخابية: يتفق علماء القانون الدستوري والعلوم السياسية ان اخطر ما يهدد الديمقراطية التمثيلية هو ضعف مشاركة المواطنين في العملية الانتخابية ومقاطعتهم لصناديق الاقتراع،هذه المقاطعة التي تعمل على بلقنة المشهد السياسي والحزبي وتفرز مؤسسات مبلقنة سواء كانت سلطة تنفيذية أي الحكومة او سلطة تشريعية البرلمان ،حيث تتشكل الحكومات ومجالس الجهات والاقاليم والجماعات الترابية من اغلبية مشكلة من اكثر من خمس او ستة أحزاب قاسمها المشترك السلطة لا شيئ. الامر الذي يفرغ المؤسسات من مبادئ او قيم الانسجام والفعالية والالتزام والسرعة في تطبيق برامجها المتعلقة بالسياسيات العمومية مما يجعل رئيس الحكومة او رئيس الجهة او رئيس المجلس الإقليمي او رئيس الجماعة الترابية رهينة بين مكونات الأحزاب المتحالفة، وفي هذه الحالة يصبح الرئيس رهينة بيد أغلبية مبلقنة تمارس الابتزاز السياسي والاقتصادي مما يفرض على رئيس الحكومة او رؤساء باقي رؤساء المؤسسات الجهوية والإقليمية والجماعاتية التخلي على تفعيل البرنامج الاجتماعي والاقتصادي المسطر وتركيز اهتمامه على الحفاظ على الكرسي وتدبير الازمة الداخلية لأغلبيته وترضية الخواطر. ولنا في وضعية رئيس الحكومة المغربي العثماني نموذجا .
- تراجع الأحزاب التقليدية اليسارية واليمينية والليبرالية: افرزت الانتخابات البلدية الفرنسية تراجع كل الأحزاب الفرنسية التقليدية اليسارية واليمينية والليبرالية ، وهي خاصية لا ترتبط بالمشهد الحزبي الفرنسي بل بكل احزاب دول العالم حتى تلك الدول التي تعد عريقة في الديمقراطية وتتوفر على احزاب ديمقراطية حقيقية لسبب بسيط عجز احزاب تلك الدول التكيف مع متطلبات مجتمعات القرن 21 ،وعدم فهمها لتراجع المواطن المؤدلج على حساب المواطن المصلحي والبراكماتي خصوصا في ظل تراجع الأحزاب التقليدية في صناعة الراي العام والتاثير فيه مقابل بروز قوة وسائل التواصل الاجتماعي والثورة التكنولوجية وظهور جيل المواطن غير المؤطر حزبيا او سياسا.
- تراجع مرشحي الحزب الحاكم:تلقى حزب الرئيس الفرنسي الحاكم هزيمة كبرى في الانتخابات البلدية الفرنسية حيث تم معاقبة الحزب الحاكم بعدم التصويت على مرشحيه وهذه اهم الآليات الديمقراطية لربط المسؤولية بالمحاسبة حيث عبر الفرنسيون عن سخطهم ورفضهم لسياسة ماكرو الاجتماعية والاقتصادية .
- الخريطة الانتخابية تصبح خضراء: استأثرت "الموجة الخضراء" بالاهتمام في الانتخابات البلدية الفرنسية داخل فرنسا وخارجها حيث يبدو الخضر في وضع جيد في عدة مدن كبرى، على غرار ليون ومرسيليا، كما تصدروا النتائج في بوردو. فرض الخضر أنفسهم عبر هذه الانتخابات كأكبر قوّة يسارية في فرنسا، هو امتداد لعملية إعادة ترتيب المشهد السياسي في عدة دول أوروبية حيث يحقق أنصار البيئة تقدما مع ازدياد أهمية قضية المناخ،حيث تهمين أحزاب الخضر في عدد من الدول الأكثر ديمقراطية بالعالم المانيا السويد وفنلندا والنمسا واليوم فرنسا.
وتتهم احزاب الخضر اليسار الجديد حزب ماكرون بتنفيذه سياسة قريبة من اليمين، وذلك بعد أن حقّق نجاحه بتبنّي سياسة وسطية. لذلك لم يحقق حزب "الجمهورية إلى الأمام" الحاكم نتائج حاسمة في أيّ مدينة كبيرة مما جعل المتحدثة باسم الحكومة سيباث نداي تقول: "نشعر هذه الليلة بخيبة أمل، لأنه توجد مناطق (...) أدت فيها انقساماتنا الداخلية إلى نتائج مخيبة جدا للآمال". واعتبرت أنه لا يمكن لحزبها أن "يسمح بمثل هذه الانقسامات" في "الأشهر المقبلة".
ويبرز تساؤل الآن حول أثر نتائج الانتخابات على توجه إيمانويل ماكرون في العامين الأخيرين من ولايته. فهل سيتعامل مع الخضر؟ وهل سيحافظ على رئيس الوزراء الذي انتصر في لوهافر؟ وهل سيقدم تعديلا وزاريا محتملا؟.
على كل هزيمة حزب الرئيس الفرنسي الحاكم في الانتخابات البلدية تترك كل الاحتمالات ممكنة.ونظرا لتأثر المشهد السياسي المغربي بالمشهد السياسي الفرنسي لأسباب تاريخية وسياسية ولتقارب المرجعيات الدستورية والقانونية المؤطرة
للفعل الانتخابي الفرنسي والمغربي فنتساءل:
كيف قرأت الدولة المغربية نتائج الانتخابات البلدية الفرنسية؟ وكيف قرأ الحزب الحاكم المغربي البيجيدي هزيمة الحزب الحاكم بفرنسا؟ كيف قرأ يسار المغرب هزيمة اليسار الفرنسي؟ كيف قرأ اليمين المغربي هزيمة اليمين الفرنسي ؟ وهل ستكون مقاطعة الانتخابات المقبلة اهم مميزاتها؟
اكيد ان تدبير الرئيس الفرنسي وللأحزاب السياسية الفرنسية لجائحة كورونا كان له تأثير على سلوك الناخبين الفرنسيين في هذه الانتخابات، وهو ما وقع بالمغرب حيث فضحت جائحة كورونا الأحزاب السياسية ونفاقها، وكشفت عن امراضها البنيوية المزمنة وابرزت تواضع رئيس الحكومة وتصدعات الأغلبية الحكومية وتيه المعارضة البرلمانية،لكن يبقى اهم معطى سوسيولوجي أفرزته جائحة كورونا هو ان اكبر الاحزاب الخاسرة في زمنها هو حزب العدالة والتنمية الذي اختفى وزراءه ومؤسساته باستثناء الظهور المرتبك لرئيس الحكومة / الأمين العام لحزب البيجيدي مقابل ظهور لافت لبعض وزراء حزب التجمع الوطني للاحرار،نذكر منهم اخنوش بنشعبون مولاي حفيظ العلمي، وامزازي عن الحركة الشعبية وايت الطالب وزير الصحة الذي كانت له فرصة ليصبح نجم جائحة كورونا لولا سقوطه ضحية محيطه وقراراته المتسرعة، دون اغفال الظهور اللافت لوزير الداخلية لفتيت الذي أعاد لهذه الوزارة قوتها وهيبتها ولوزيرالداخلية وقاره وقوته الرمزية وهيبته.
فهل ما عرفته ماما فرنسا سنة 2020 سيعرفه التلميذ النجيب لفرنسا المغرب في انتخابات 2021 مع فارق الزمن والمكان وعامل الديمقراطية ؟؟