محمد الشنتوف*
مما لا شك فيه أن عدسات كاميرات القنوات الإعلامية الرياضية العالمية، وأقلام الصحفيين الرياضيين، ومعدات المشجعين في كل بقاع العالم، وصفحات الجرائد الورقية منها والالكترونية، وترددات القنوات في المقاهي الشعبية، لن تجدهم مشغلون في هذه الأيام بموضوع غير ما استجد وما سيستجد في مونديال روسيا 2018.
ولإرضاء عشاق المستديرة نقترح عليكم زوارنا الكرام فقرة ” زوم على المونديال” التي نقدم لكم فيها ما جد وما سيستجد بمونديال روسيا على “جريدة بلبريس الالكترونية”، من خلال البحث والتقصي وتقديم لب ما يدور في هذا العرس الكروي العالمي، خاصة أننا على بعد ساعات من توديعه.
في هذا العدد اخترنا أن نتحدث عن بعض تلك المشاهد الرائعة التي خطفت القلوب وقدمت دروسا وعبر، في الإنسانية، في السياسة، في الروح الرياضية، في التواصل، في التسامح، في الفرحة، في الحزن، وفي مناحي كثيرة في الحياة، بما يؤكد أن كرة القدم ليست مجرد لعبة، بها هي محاضرة مفتوحة، تقدم الكثير من الدروس والعبر.
عائلة الحراس: الأب والابن ما بين قدسية العلاقة والشغف باللعبة:
يقول مثل معروف،" ذاك الشبل من ذاك الأسد"، مثال جاز لنا أن نطبقه على الأب بيتر شمايكل الحارس السابق للمنتخب الدنماركي الذي حرس عرين المنتخب الدنماركي في مونديال 1998، والذي كان من أفضل الحراس في العالم عامي 1992و1993، حيث ساهم في قيادة منتخبه للفوز بكأس الأمم الأوروبية سنة 1992، والابن كاسبر شمايكل الذي كاد أن يعبر بمنتخب بلاده إلى الدور ربع نهائي، في مباراة تاريخية حسمتها ركلات الترجيح.
وبعيدا عن النتيجة، فإن الكاميرا كانت تظهر تفاعلا عظيما ما بين الابن والأب في المدرجات، فنظرة من داخل المستطيل الأخضر إلى المدرجات كانت تحمل في طياتها كثيرا من الثقة، وصرخة من المدرجات من قبل الأب في المدرجات كانت تحمل الكثير من الدعم والحب الذي يحتاج كل إنسان في حياته في مثل تلك اللحظات العصيبة التي يعيشها أي كان.
كافاني ورونالدو: جراح وروح رياضية.
في مشهد من المشاهد الرائعة في هذا المونديال، احتاج كافاني في لحظة من لحظات الشوط الثاني، إلى من يتكئ على كتفه للخروج من الملعب، لحظتها ظهر رونالدو الذي ساعد كافاني على الخروج، رغم أن كافاني هو من عمق جراح البرتغاليين بهدفين وهو من عبد لرونالدو طريق الخروج من المونديال، لكن أخلاق الاعبين الكبار تظهر في مثل هذه المواقف الفريدة من نوعها.
ليفاندوفسكي: في لحظة الانكسار نحتاج من نحب.
في مباراة منتخبه الأولى أمام السينغال، والتي انتصر فيها الفريق الأسمر على فريق بولاندا، كان الاعب الكبير ليفاندوفسي في حالة حزن وكآبة لا يحسد عليها، ولم يتردد في التوجه للمدرجات، وهناك كانت زوجته بانتظاره، حيث أظهرتهما عدسات الكاميرات في مشهد عشق أزلي، وعطف يحتاج إليه الإنسان في بعض اللحظات التي ينكسر فيها.
جمهورا ولاعبين: دموع وفرحة.
مشاهد الدموع والفرحة كثيرة، لأن شغف كرة القدم قد يرسلك إلى القمم أم يرمي بك في العدم، لا يستثنى أحد في كرة القدم من الحزن مثلما لا يستثنى من الفرحة، في كل مباراة تجد طفلا يبكي في المدرجات، وأبا يهدأ من روع و حزن طفلته الصغيرة، وشابة جميلة تبكي بكاء هستيريا، و شيخا عجوزا لم يمنعه عامل السن إلى عيش ما تبقى له من شغف كرة القدم، وفي الجهة المقابلة تجد فرحة و ابتسامات وأماني محققة، و بين الطرفين تجد لاعبين يتبادلون التبريكات من هنا، وآخرون يصبرون بعضهم هناك، هذه هي كرة القدم، مسرح كبير يجمع كل التناقضات.
يدا في يد بكل الألوان: تعايش وقبول للاختلاف.
مشاهد التعايش كثيرة، سواء ما بين مختلف الثقافات أو الديانات، فلا اللون فرق بين عشاق المستديرة، ولا العرق، ولا الدين، السلام جمع بين الجميع، ذلك السلام المفقود لأسباب سياسية أو اقتصادية أو دينية، أعادته كرة القدم مأقتا ليلقي بظلاله على ساحات روسيا و ملاعبها، وفي أحد المباريات التقطت عدسات الكاميرات يدا سمراء تمسك بيد بيضاء، كان واضحا أن أحدهم يساعد الآخر على الوقوف، وهو دليل على أننا نستطيع أن نساعد بعضنا، ونحترم بعضنا رغم اختلافنا، لأن الحكمة في اختلافنا، والنقمة بل والأزمة في خلافنا بسبب اختلافنا.
الرئيسة المشجعة: ما بين أعراف الديبلوماسية السياسية وشغف الرياضة.
من المشاهد التي برزت في هذا المونديال، تخلي الرئيسة الكرواتية على الأعراف الديبلوماسية، وارتداء عباءة المشجع العادي، والجلوس مع المشجعين في أحد المباريات، وحتى عندما جلست بجانب رئيس الفيفا ولرئيس الوزراء الروسي لم يمنعها ذلك من خلع سترتها الحمراء الرسمية والإبقاء على قميص المنتخب.
وبغض النظر عن كونها دعاية سياسية من عدمها، إلا أنها نجحت فعلا في تقديم صورة حيدة عن الفاعل السياسي في الغرب الذي يحاول أن يكون قريبا من اهتمامات شعبه، ويعبر معه عن فرحته، ويشاركه أحزانه، وجاز للرياضة أن تخدم السياسة في هذا الإطار، لكن قراءتنا هذه تبقى إيجابية لهذه المشاهد الجميلة التي عبرت عنها الرئيسة المشجعة، وتجعلنا نستخلص أن كرة القدم قادرة على اختراف كل الحدود والخروج عن المألوف.
لاعبو كرواتيا: عندما نتوسد راية الوطن ونجن بعشقها
كرة القدم هي أيضا جنون وفنون، فمباشرة بعد تسجيل مانزوكيتش لهدف التفوق على إنجلترا توجه ليعبر عن فرحته في جنبات الملعب، وتسبب بفرحته في اسقاط الصحفيين اللذين لم يترددوا في مشاركته الفرحة والتقاط صور تعبر عن تلك اللحظة.
بعد نهاية نفس المباراة التقطت عدسات الكاميرات لاعبا كرواتيا يتوسد راية الوطن وملامحه تعبر عن فرحة، وعيناه مغمضتان، في مشهد يعبر عن الراحة والاطمئنان، وهذا حقا هو الشعور الذي يجب أن تمنحه الأوطان للإنسان.
بلجيكا واليابان: عودة تاريخية ودرس في الثقة في النفس
الكثير من المباريات في هذا المونديال أكدت أن الثقة بالنفس مهمة جدا لكل من يريد النجاح، و من بينها مباراة اليابان مع بلجيكا، وإلى جانب الثقة بالنفس هناك التحدي و المثابرة و العمل الجاج، فكثير من المنتخبات لم تكن مرشحة الفوز وفازت، لأنها وثقت بقدراتها، ولم تهتم لتلك الترشيحات التي كانت تنتقص منها و ترشح الفريق الخصم بذلها، بل لم تستسلم حتى وإن كانت منهزمة بهدف أو هدفين كبلجيكا مع اليابان و كرواتيا مع إنجلترا أيضا، ولم تستسلم وعادت مجددا لكتابة التاريخ، وهذه حكمة من أهم حكم هذا المونديال، ومن أهم العبر و الدروس التي يجب أن تقتدي بها.
حكيمي: ما بين الأم والابن حكاية تروى في كل لحظة.
ومثلما افتتحنا سلسلة تذكيركم ببعض المشاهد الرائعة بحكاية الأب نختتمها بحكاية الأم والابن، فلم يختر حكيمي التوجه لأي مكان آخر غير المكان الذي تواجدت فيه أمه بعد نهاية أحد مباريات المنتخب الوطني، مشهد يجعلنا نتذكر حقا أن الأم هي السند الحقيقي في كل العواصف، وأنه نهما تعددت صيحات التعبير عن التعاطف والتآزر، فلن تصل لقدسية وصدقية صيحة الأم، والأب أيضا، هما معا السند الحقيقي الذي يجب على الانسان أن يعاملهما بحب وتقدير، لأنه مهما كان تعاملنا معهم جيدا فلن يبلغ
وهناك الكثير من المشاهد الأخرى، التي تجعلنا نتأكد بما لا يضع مجالا للشك أن كرة القدم أكثر من مجرد لعبة، إنها خشبة مسرح كبير يضم أساتذة يقدمون الدروس وفلاسفة يكتبون الحكم وعباقرة يحلون المعادلات في المستطيل الأخضر ومهندسين يخططون لتحقيق الأحلام في دكة الاحتياط وطيورا ينقلون الحدث بالصوت والصورة، إنها مسرح للحرية والحب والسلام والعشق والشغف والفرحة والحزن.
نعم كرة القدم مجازيا هي أرض تجمع البشرية في لحظة ما تكون فيها كل أسباب اللقاء منعدمة، ولهذا جاز لنا أن نستمتع بهذه اللعبة الجميلة، ونقول لها شكرا على تلك اللحظات الرائعة التي تجعل الانسان يعيشها، وتلك الحكم الرائعة التي تقدمها لنا فيتذكر الانسان حقا أنه انسان بسببها، ويحاول ضم انسانيته ونبذ عنصريته أو حقده أو كرهه، ويعيد ترتيب مشاعره الجميلة مجددا بفضلها.
*صحفي متدرب