الذباب البشري في منصات التواصل الاجتماعي : ولادة تيار عاطفي خارج التنظيم

لم يعد خافيًا على متابعي منصات التواصل الاجتماعي تزايد ظهور حسابات غريبة في سلوكها، منتظمة في تحركاتها، وأقرب في وظيفتها إلى أدوات ضغط رقمي تعمل على توجيه المزاج العام داخل الفضاء الافتراضي، تارة بالهجوم، وتارة بالتبجيل المفرط، وفق ما يخدم أجندات معينة.

من بين هذه الحسابات ما بات يُعرف في الأدبيات الرقمية بـ"الذباب الإلكتروني"، وهي تسمية مستقرة نسبيًا في التحليل الإعلامي، تُطلق على شبكات من الحسابات الافتراضية الوهمية التي تُدار غالبًا بشكل مركزي من طرف جهات مؤسساتية أو تجارية، وتتولى مهام الترويج، والهجوم المنسق، وصناعة ترندات مصطنعة، أو التشويش على النقاش العام.

وقد تناولت دراسات متعددة هذه الظاهرة، ووقفت عند خصائصها الرئيسية، من بينها غياب الهوية الشخصية عن الحسابات، وتكرار نفس الرسائل بأسلوب نسخي/لصقي، والنشاط المكثف على مدار اليوم، بالإضافة إلى التحريض، والتنمر الرقمي، والتركيز على مواضيع ضيقة ترتبط غالبًا بخطاب جهة واحدة، مع ملاحظة واضحة لأسلوب الهجوم الجماعي على كل رأي مخالف.

لكن إلى جانب هذه الظاهرة الموصوفة بدقة في الأبحاث الرقمية، بدأت تتشكل على هامشها ظاهرة جديدة أقل تنظيما، لكنها لا تقل تأثيرًا، أطلق عليها بعض المتتبعين اسم "تيار الذباب البشري بالفضاء الافتراضي".
التسمية وإن كانت صادمة ظاهريًا، فهي لا تستهدف أشخاصًا بعينهم، بقدر ما تحاول توصيف نمط متكرر من السلوك الرقمي، يتسم بالتلقائية، لكنه يخدم أحيانًا نفس أهداف الحملات المنسقة.

ويختلف "الذباب البشري" عن "الذباب الإلكتروني" في كونه ليس بالضرورة نتيجة تشغيل مركزي أو برمجة خوارزمية، بل هو نتيجة تراكم سلوكي لمستخدِمين يتفاعلون بنوع من الاصطفاف الأعمى خلف خطابات أو شخصيات، دون التحقق من مصادرها أو مساءلة مضمونها.

وتبدو كثير من هذه الحسابات نائمة أو بدون معلومات واضحة، وتكتفي بإعادة نشر مواد تتضمن مواقف سطحية أو صورًا مفبركة أو مقاطع مثيرة عاطفيًا دون أساس مهني أو تحليلي.

ويترجم نشاط هذا التيار غالبًا في شكل تعليقات تبجيلية مفرطة، أو حملات هجومية ضارية ضد الأصوات المخالفة، باستخدام أساليب تتراوح بين التخوين والتكفير والتشهير والتبخيس، وغالبًا ما تُرفَق هذه الحملات بتبريرات دينية أو وطنية أو إنسانية لإضفاء الشرعية على ممارساتها.

والمفارقة أن كثيرًا من هذه الحسابات لا تناقش الفكرة بالفكرة، بل تهاجم الأشخاص في ذواتهم، وتشكك في نواياهم، وتنزع عنهم صفات الانتماء أو المصداقية، مما يحوّل فضاءات الحوار المفترض إلى ساحات تجريح واصطفاف، تُسقِط فيها الفكرة لحساب الولاء أو النفور.

في السياق ذاته، لوحظ أن هذا التيار يستمدّ شرعيته من جمهوره نفسه، حيث يصبح التفاعل الداخلي بين أفراده مصدرًا لتقوية الخطاب، بغض النظر عن معقوليته أو صدقه، وهو ما يُدخل جزءًا من المجال الرقمي في حالة من التكرار والانغلاق، تُعلي من الضجيج وتخفض من قيمة النقاش.

وبين الذباب الإلكتروني المنظّم، و"الذباب البشري" المتفاعل عاطفيًا، يبقى القاسم المشترك الأبرز هو استهداف النقاش العام وتعويم الفكرة وسط جلبة شعاراتية أو هجومية، مما يُصعّب على كثير من المتابعين التمييز بين الحوار الحقيقي والتوجيه المقصود.

هذه الظواهر، بقدر ما تعكس حيوية المنصات الرقمية، فإنها تطرح أسئلة جوهرية حول مستقبل الخطاب العمومي في الفضاءات الافتراضية، وحدود التعبير الحر حين يتحوّل التفاعل إلى أداة إسكات لا أداة نقاش.