كشف تقرير حديث صادر عن مؤسسة “GIS” (مؤسسة بحثية متخصصة في التوقعات الجيوسياسية والاقتصادية، ومقرها ليختنشتاين) أن الجزائر قد دخلت في سباق تسلح مكثف خلال السنوات الأخيرة، وهو ما يبدو أنه خطوة تهدف إلى صرف الأنظار عن الأزمات الاقتصادية والاجتماعية التي تعيشها البلاد. التقرير أشار إلى أن هذا التسلح، رغم ظاهره العسكري، يحمل أبعادًا سياسية داخلية تهدف إلى تعزيز السيطرة المركزية للنظام، خاصة بعد الاحتجاجات الشعبية التي هزت الجزائر في عامي 2019 و2020.
التسلح في مواجهة الأزمات الاقتصادية
أوضح التقرير أن الجزائر، على الرغم من المعاناة الاقتصادية التي تشمل ارتفاع معدلات البطالة التي تفوق العشرات من النسب المئوية، خصصت ميزانية ضخمة تقدر بـ 25 مليار دولار للإنفاق العسكري في العام الجاري. ويرى التقرير أن هذا الرقم يضع الجزائر بين أكبر الدول في العالم من حيث الإنفاق العسكري، ويعتبره البعض إنجازًا محليًا يهدف إلى تعزيز مكانة النظام الداخلي. ورغم الضغوط الاقتصادية المتزايدة، فإن الحكومة الجزائرية تسعى من خلال هذه الميزانية إلى رفع الروح المعنوية، وتقديم نفسها كحامية للاستقرار والسيادة الوطنية.
العلاقات العسكرية الجزائرية مع القوى الكبرى
وتطرق التقرير إلى تحركات الجزائر على الساحة العسكرية الإقليمية والدولية، مشيرًا إلى أن النظام الجزائري قد تبنى استراتيجية تسليح علنية موجهة بشكل أساسي لمنافسة المغرب. إلا أن هذا التسلح لا يتوقف عند الحدود الإقليمية، بل يمتد إلى تعزيز علاقات الجزائر مع القوى الكبرى مثل روسيا والصين. وتظل روسيا الشريك العسكري الرئيسي للجزائر منذ الحقبة السوفيتية، حيث تواصل موسكو توفير الأسلحة المتطورة للجزائر، وهو ما يعزز الثقة بين الجانبين. ومن أبرز الأمثلة على هذا التعاون المستمر، التوقعات بأن الجزائر قد تحصل على طائرات مقاتلة من طراز “سوخوي-57” (الجيل الخامس) من روسيا.
من ناحية أخرى، يواصل المغرب تعزيز قدراته العسكرية من خلال التفاوض على شراء 32 طائرة مقاتلة من طراز F-35 Lightning II من الولايات المتحدة، في صفقة قد تصل قيمتها إلى 17 مليار دولار على مدى 45 عامًا. ويهدف المغرب من خلال هذه الصفقة إلى تحديث أسطوله الجوي تدريجيًا واستبدال طائراته من طراز F-16، في خطوة من شأنها زيادة التوترات العسكرية في المنطقة.
التسلح كأداة للبقاء السياسي الداخلي
يعتبر التقرير أن تسليح الجزائر لا يقتصر فقط على التنافس العسكري مع المغرب، بل هو أداة استراتيجية لبقاء النظام في السلطة. ويشير التقرير إلى أن استمرار النظام الجزائري في تعزيز قدرات جيشه يعكس رغبة في الحفاظ على السيطرة السياسية الداخلية، خاصة بعد الأحداث التي شهدتها البلاد بين 2019 و2020، عندما خرجت احتجاجات ضخمة تطالب بالإصلاحات السياسية والاقتصادية. هذه الاحتجاجات، التي كانت بمثابة تحدٍ كبير للسلطة، أدت إلى إشعال شكوك في مركزية النظام ودور الجيش في الحكم.
وفي هذا السياق، يظل الجيش الجزائري، الذي يعد القوة الأساسية في البلاد، جزءًا من استراتيجية النظام للحفاظ على استقراره. من خلال تعزيز قدرات الجيش العسكرية، يسعى النظام إلى التأكيد على أنه الحامي الأول للدولة في مواجهة التهديدات الداخلية والخارجية. كما يعكس هذا التسلح المستمر أيضًا رغبة في تأكيد قدرة النظام على مواجهة الجماعات المسلحة التي تظل نشطة رغم تراجع قوتها.
الجزائر والمغرب: التنافس الاستراتيجي ومخاطر التصعيد
تتسم العلاقة بين الجزائر والمغرب بتاريخ طويل من التوترات والنزاعات الإقليمية، وقد شهدت العلاقات بين البلدين سلسلة من الصراعات الدبلوماسية والعسكرية على مر العقود. وبحسب التقرير، فإن الجزائر تسعى حاليًا إلى الحفاظ على السردية التي تروج لتنافسها الاستراتيجي مع المغرب، وهو ما يعزز من شرعية النظام داخليًا من خلال تقديم نفسه كقوة قادرة على مواجهة التحديات الإقليمية.
ورغم أن هناك احتمالًا ضئيلًا لاندلاع مواجهة عسكرية مباشرة بين الجارين، إلا أن السياسة الجزائرية الحالية تساهم في خلق بيئة من عدم الاستقرار الكامن في المنطقة. وعلى الرغم من أن الجزائر تتبنى موقفًا تصادميًا لفظيًا تجاه جارتها، إلا أنها تتجنب الخطوط الحمراء التي قد تؤدي إلى صراع مفتوح. هذه الديناميكية تساهم في خلق حالة من التوتر المستمر بين البلدين، ما يبرر الجزائر لمواصلة تعزيز قوتها العسكرية.
التسلح والمطالب الداخلية
ورغم أن الجزائر تواصل تعزيز قدراتها العسكرية، فإن التقرير يلفت إلى أن التحديات الحقيقية التي تواجه النظام الجزائري لا تأتي من التهديدات الخارجية، بل من الداخل. فالشعب الجزائري، الذي عانى من البطالة ونقص الخدمات الأساسية مثل المياه والكهرباء، لا يجد نفسه مهتمًا بسباق التسلح أو الاستعراضات الجيوسياسية. بدلاً من ذلك، يطالب الجزائريون بتوفير وظائف وتحسين الظروف الاقتصادية والمعيشية.
السيناريو الأكثر احتمالًا في الفترة المقبلة، بحسب التقرير، هو أن النظام الجزائري سيواصل سياسته في تعزيز التسلح وتحديث قواته العسكرية، لكن مع تزايد الانفصال بين القيادة والشعب. في هذا السياق، قد يتفاقم الوضع الداخلي مع تزايد فجوة الثقة بين الحكومة والشعب، وهو ما قد يهدد استقرار النظام.
تُظهر التطورات العسكرية في الجزائر أن النظام يراهن على التسلح كأداة للحفاظ على استقرار حكمه، وفي الوقت نفسه يعزز موقفه في مواجهة التحديات الإقليمية، خاصة مع المغرب. ورغم أن هذا التسلح قد يبدو موجهًا نحو منافسة المغرب، فإن دوافعه الحقيقية تعكس أزمات داخلية أكبر تواجه النظام الجزائري. في ظل هذه الديناميكية، تظل المخاطر المتعلقة بتفاقم التوترات العسكرية في المنطقة قائمة، بينما يظل الشعب الجزائري يواجه تحديات اقتصادية وخدمية ملحة تطغى على استعراضات القوة العسكرية.