الحكومة والتنسيقيات مسؤولون عن انقاذ الموسم من سنة بيضاء وتقويم هيكلة القطاع حل لإنتاج الثروة
منذ إصدار النظام الأساسي الخاص بموظفي قطاع التعليم، والشارع المغربي يعيش احتقانا اجتماعيا، ويتزايد نحو خط تصاعدي جراء الخطوات الاحتجاجية التي يتبناها الأساتذة، من أجل حل أزمة التعليم التي خيمت على القطاع منذ الاستقلال، وصرفت لأجله ملايير الدراهم دون جدوى تذكر؛ فالتعليم يعيش أزمة حقيقية رغم المحاولات الإصلاحية الترقيعية
فالتعليم سيكلف ميزانية الدولة 75 مليار درهما في 2024، %80 منها ستذهب لأجور الموظفين، رغم أنه قطاع غير منتج للثروة المادية، بغض النظر عن انعكاساته اللامادية في الارتقاء بالعنصر البشري، محرك العجلة الاقتصادية.
وبالعودة إلى ميزانية الدولة، فهي تشهد عجزا شبه مستمر بنسبة %4، الأمر الذي يدفع الحكومة إلى اللجوء للمؤسسات الدولية المانحة، قصد إعادة التوازن للمالية العمومية، وتأمينها من أي اختلال وتغطية العجز.
غير أن المؤسسات المانحة تفكر بعقيدة ربحية، وأول سؤال يبدر إليها اتجاه الممنوح، يصب حول من كيف ستؤدي الدولة الدائنة ديونها والفوائد المستحقة للمانحين؟
فالمؤسسات لا تمنحك قرضا على بياض، بل لابد من إعطاء الضمانات الكافية ووعود حول العائدات، ولا عائدات بدون صرف تلك الديون في الاستثمار لا صرفها في النفقات؛ كون أن السيولة المالية للمؤسسات البنكية بمثابة استثمار، من أجل عائدات ومزيد من الأرباح، ولا يمكن تصور صرف قرض من أجل الإنفاق.
وعليه، فالمؤسسات المانحة تقدم السيولة المالية، مقترنة بدفتر للتحملات يتضمن الاستثمار ضمن شروطه، الأمر الذي يدفع المغرب إلى تبني دفتر التحملات في سياساته المالية والعمومية، والتقليص من حجم النفقات، والرفع من حجم الاستثمار، حتى يتمكن من سد العجز وتأمين سيادته المالية.
وبالرجوع إلى موضع نفقات الدولة التي تؤرق المؤسسات المالية المانحة، فتتمثل في النفقات ذات البعد الاجتماعي، بما فيها صناديق التقاعد والأجور؛ بينما النسبة الكبيرة من ميزانية الدولة، تذهب نحو قطاع التعليم بشكل أساس، وأجور التعليم تكلف ميزانية القطاع %80، ما يجعل المغرب أمام مفارقتين.
فالمغرب يتبنى مشروع الدولة الاجتماعية كخيار استراتيجي، غير أن هذا المشروع لا يمكن أن ينجح دون إصلاح هيكلي جذري للميزانية كأرضية لإنجاح المشاريع الاجتماعية، وهي مسألة معقدة تحتاج إلى مرحلة انتقالية، وتكلفة مجتمعية يتحمل المواطن أعباءها، من أجل التأقلم مع الموازنة المالية الجديدة.
فالدولة همها الأكبر هو إنجاح مشروع الدولة الاجتماعية، غير أن الواقع والصدمات الدولية والداخلية والهيكلة الاقتصادية التقليدية، فرضت عليها التعامل مع المؤسسات الدولية المانحة، الأمر الذي دفعها إلى اللعب بين الوترين، وتر الاقتصاد والاستثمار والإنتاج، ووتر البعد الاجتماعي للدولة؛ عبر إخفاء بعض النفقات لا التخلي عنها، إنما ليكون حجم الاستثمار مرتفع بالمقارنة مع النفقات.
ومن أجل جص النبض، غلفت الحكومة إجراءها هذا بالتوظيف الجهوي عبر التعاقد، رغم تضمين الأجور في نفقات معدات الأكاديميات الجهوية، قبل أن تعيده لنفقات الموظفين؛ ومن أجل تقليص نفقات التقاعد، سقفت سن التوظيف، حتى تضمن أمد المسار المهني لتخفيف العبء على صندوق التقاعد.
إذن فأزمة التعليم ليست أزمة بنموسى، بل هي أزمة دولة مركبة ومعقدة، يدخل في التوازن المالي والتراكم التاريخي والسياق الدولي، والمعادلة بين الدولة الاجتماعية واقتصاد السوق، من أجل خلق الثروة لا صرفها.
فرغم المحاولة الإصلاحية، هناك اكراهات لا تناسب التزامات صانع القرار المالي أمام الانفتاح الاقتصادي والمانح الدولي، من أجل التوازن المالي، في ظل أزمة العجز والتضخم وارتفاع أسعار المواد الأساسية، بما فيها الغذائية والفلاحية والطاقية والمعدنية، التي تنعكس على احتياطي العملة الصعبة، نظرا لانعدام الاكتفاء الذاتي.
وهاته الأزمة تبدو جلية من خلال تدبير بنموسى لأزمة التعليم، حيث أن السيد رجل دولة ورجل أزمات، لكنه فشل فيما فشل فيه السابقون، رغم أنه المشرف على النموذج التنموي الجديد؛ غير أنه اصطدم بأزمة حقيقية عندما أراد تنزيل تصوره، وأضحى بين المطرقة والسندان، مطرقة إصلاح التعليم والارتقاء بأطره، وسندان إعادة التقويم والهيكلة، وحركة احتجاجية في ظل تأثير الإصلاح على قدرات المواطنين.
فأزمة النظام الأساسي، جاءت في هذا السياق المعقد، وبالتزامن مع ضغوطات عديدة ومختلفة، ومطالب كبيرة وإمكانيات ضعيفة، وخيارات استراتيجية بعيدة المدى، تحتاج إلى التنازل، من أجل تأمين المخاطر المستقبلية التي تزداد حدتها، والتي لا يعلمها إلا صانع المالية الذي يستشرف المستقبل.
إلاّ أن الإخفاق الذي أفضى إلى تزايد حدة الأزمة والاحتقان، وتحول الملف المطلبي للأساتذة إلى مطالب كبيرة، هو أزمة التواصل وغياب توضيح حول أسباب النزول، والتمويه وتغليف إجراءات الإصلاح المرحلية الانتقالية، بغلاف الاستجابة الصورية للملف المطلبي بلغة الإصلاح ظاهريا، والإبقاء عن نفس الصيغة باطنيا، بما يستجيب للتقويم الهيكلي، وإخداع الأساتذة دون تحمل المسؤولية السياسية وقول الحقيقة.
أما الطامة الكبرى، هو غياب القائم بميزانية الدولة في الحوار بين الحكومة والنقابات، فالعلاف الكبير هو الذي يعلم بخبايا واقع المالية العمومية، ومدى صمودها أمام الصدمات والتحولات الدولية الكبرى، وورش الهيكلة الذي يتبناه المغرب، وهي ضرورة حتمية مفروضة من أجل الاستدامة المالية.
فلا يمكن تصور إصلاح في ظل غياب المسؤولة عن ميزانية الدولة، ولا وعود دون إمكانيات مالية، ولا يمكن لمن لا يمتلك القرار المالي أن يمنح وعود؛ الأمر الذي جعل من النقابات والوزير بنموسى أمام موقف محرج مع التنسيقات، بعد استنفاذ جميع مراحل الحوار، غير أن مخرجات الحوار اصطدمت باستحالة الاعتماد المالي أمام رفض العلاف الكبير في نقطته الأخيرة.
إذن فمشكل التعليم أكبر من بنموسى، لأن قطاع التعليم قطاع للإنفاق دون أن يكون منتج للثروة المادية، ما يكلف الدولة والميزانية عبء كبير في خضم الأزمة، ولا يمكن النهوض بالوضع الاجتماعي لأسرة التعليم في ظل الظرفية الدولية والإمكانيات المالية؛ وهي حقيقة مرة يجب على الكل تقبلها.
لكن المشكل لدى أسرة التعليم ليس هو لي ذراع الدولة كما يعتقد البعض، بل هو الشعور بالخذلان بعد سنين من التنازل لصالح أبناء الأمة المغربية، غير أنه يتم معاملتهم بسذاجة، دون تقديم تنازلات من قبل جهات أخرى، وكأنهم الوحيدون المعنيون بالتنازلات، بالإضافة إلى تقديم وعود مسكنة للآلام، دون اعلامهم بالحقيقة.
إذن فالاحتقان سببه الأول، هو الخذلان وأزمة التواصل وإخفاء الحقيقة، فالمرحلة تحتاج إلى لغة سياسية شعبوية رغم ما يعاب على الشعوبية، ربما قد تسمح الشعبوية بامتصاص جزء من الغضب إذا ما تعلقت بحقيقة.
فالأساتذة ينتظرون لغة الحقيقة لا وعود إصلاحية، عبر إعلامهم بالواقع المشخّص، وإجراءات الإصلاح التدريجي الذي يهم الاستدامة المالية أولا، ثم الأهداف الاجتماعية التي تليه، وأن استحالة الارتقاء بالظروف الاجتماعية للتعليم بالمقارن مع باقي القطاعات، مرتبط بحجم الشريحة العريضة لأسرة التعليم، وكلفة الزيادة في الأجور دفعة واحدة على ميزانية الدولة.
كما أن النقابات معنية بالمعطيات الحقيقية، من أجل تمكينهم بأدوات التواصل، حتى لا يضحوا محلا للشك، كون أن أزمة الحركات الاحتجاجية في المغرب هي أزمة وساطة، وافتقار الدولة لمؤسسات الوساطة أو فقدان الثقة في تلك المؤسسات، يزيد من تفاقم الأزمة.
فالحكومة تتحمل المسؤولية فيما اَلت إليه أوضاع التعليم، بعد أن أضحت السنة الدراسية مهددة، والحكومة لم تستشعر هذا القلق إلاّ بعد التوقف الشبه تام للمتمدرسين، بعد تصعيد التنسيقيات غيرة على هذا القطاع، بل ما يثير الانتباه هو تبني الحركة لمطالب اجتماعية في خطابها يتجاوز مطالب أسرة التعليم.
أما ما يعزز موقف الأساتذة، هو التضامن الشعبي الواسع مع الأساتذة، ما يجعلهم في موقف قوة؛ إلاّ أن المصلحة الفضلى للتلاميذ مهددة، ولا عيب في الحوار وقول الحقيقة، وتواصل الحكومة مع التنسيقيات، لأنهم أبناء الوطن والمسؤول الحكومي ليس شخص مقدس، ما دم التلميذ هو الضحية.
فالتنسيقيات مجرد تنظيم عفوي غير مخطط، ولا يسعى ممارسة السياسة حتى يكون مصدر تخوف للجلوس معهم في طاولة الحوار؛ فأين المشكل ما داموا أبناء هذا الوطن ويمثلون هذا الوطن، كما أنهم في خط تماس مع مشكل التعليم والتلاميذ، وهم الأدرى بأزمة التعليم، ولا يعقل تبني مشروع إصلاح التعليم دون إشراك الأساتذة بدرجة أولى في هذا الورش.
فالحكومة أمام فرصة حقيقية لحلحلة هاته الأزمة، بعد أن أكد رئيس الحكومة على فتح أبواب الحوار بين مختف الأطراف، وهو على علم بأن التعليم ركيزة أساسية لبناء الدولة الاجتماعية، وعليه أن يكون قلقا في نفس الوقت لهدر الزمن المدرسي للتلاميذ؛ واللجنة الوزارية لابد أن تكون خلية لتدبير الأزمة، ولجنة للإنصات والاستماع قبل التفاوض دون غلو، وأن تمثل الحكومة لا أن تنصب نفسها وصية على الدولة.
فالمرحلة القادمة يجب أن تفتح الباب لأفق جديد يقوم على الحقيقة والوضوح واحياء الثقة، وإشراك كل من القطاع المعني بالميزانية، وممثل عن التنسيقيات، وتشخيص الواقع أمام رجل التعليم، ليعرف جيدا حدود مطالبه بالمقارنة مع الواقع، لأن سقف المطالب تجاوزت الوقع، نظر لغياب المعطيات، ومن المستحيل أن يجابه الأستاذ أمام المعطيات الحقيقية، لأن المفروض في الأستاذ هو حسن النية، ولا يمكن لأحد أن يشكك في وطينته وغيرته وهمه على بلده.
أما الوعود تحتاج أن تكون حقيقية لا سريالية، بل من خلال تقديم تصور حول خطة الإصلاح، وإعادة التفاوض من خلال ترتيب الأولويات، وتحديد الخطوات التدريجية التي من شأنها الارتقاء بالوضعية الاجتماعية للأستاذ على المدى البعيد، دون تخديره بمسكنات في شكل وعود لا أساس لها من الصحة؛ بل الحقيقة أقل مرارة من الخذلان والتغافل دون تقدير ذكاء الأستاذ واعتباره ساذجا، لأن المرحلة القادمة مرحلة معطيات وحقيقة وتشخيص وخطة طريق، وإصلاحات تتحقق أثرها تدريجيا.
أما مشكلة التمويل والاعتماد والاستدامة المالية، تحتاج إلى إعادة النظر جذريا، عبر التفكير في استراتيجية هيكلية، قصد الانتقال بقطاع التعليم من قطاع مكلف لميزانية الدولة، إلى قطاع منتج للثروة، عبر استثمار المؤسسات قصد تغطية حاجيات التعليم، كي لا تشكل نفقات التعليم عبء على ميزانية الدولة، حتى تتفرغ الدولة للأوراش الاجتماعية، ويعكف القطاع الوصي للخوض في قضايا بيداغوجي، وتجاوز مشاكل من المفروض أن تكون بدائية.