والمتأمل في  مسار، ونتائج الانتخابات الرئاسية الفرنسية، سيقتنع أن العملية الإنتخابية هي مرآة الأنظمة والشعوب والفاعلين والأحزاب، وأنها جزء من الديمقراطية وليست هي الديمقراطية كلها، لكنها تتتقوى مع وجود الديمقراطية،وتتشوه مع غيابها.

إنه الدرس المستخلص مما أفرزته الإنتخابات الرئاسية الفرنسية ليوم الاحد 9 ابريل 2022 ،رغم تنظيمها في سياق استثنائي بسبب جائحة كورونا، والحرب الروسية الأكرانية، وفي ظل وضع أمني معقد وأوضاع إقتصادية وإجتماعية صعبة، ونظام دولي مضطرب .

فرغم السياق الإستثنائى الذي نظمت فيه الإنتخابات الفرنسية، فإن كلا من الدولة والأحزاب والمرشحين والإعلام والناخب بفرنسا التزموا بقواعد اللعبة الديمقراطية، ما جعل من العملية الإنتخابية الفرنسية عرسا  انتصرت فيه إرادة الشعب الفرنسي وقيم الجمهورية الفرنسية الخامسة.

 

سياق الانتخابات الرئاسية الفرنسية

 

نظمت الانتخابات الرئاسية الفرنسية ليوم الاحد 10 ابريل 2022 في سياق وطني فرنسي، وإقليمي، ودولي استثنائي ميزه أولا - جائحة كورونا وما أحدثته من دمار داخل فرنسا .

ثانيا صعود زعامات وأحزاب شعبوية، تمثل في حزب الجبهة الوطنية المتطرف الذي أصبح رقما أساسيا في المعادلة الحزبية بفرنسا على حساب الأحزاب اليسارية اليمينية التقليدية، وفي ظهور حزب يميني متطرف جديد هو حزب ايريك زمور .

ثالثا- اتساع دائرة  الكراهية والعنصرية ضد العرب والمسلمين في ظل تأزم الأوضاع الأمنية والاقتصادية والاجتماعية والأخلاقية بفرنسا.

 قواعد تمويل الحملة الانتخابية الرئاسية الفرنسية

علاقة المال والسلطة والانتخابات علاقات معقدة ، لذلك عمل المشرع الفرنسي علي ضبط  تمويل الحملات الانتخابية بقواعد قانونية صارمة، من خلال تحديد سقف مالي، لا يمكن أن يتجاوزه أي مرشح في ما يتعلق بتمويل حملته الانتخابية وهو: 16,851,000 يورو للمرشحين الذين يشاركون في الدور الأول من الانتخابات الرئاسية، و22,509,000 يورو للمرشحين الاثنين اللذين يتأهلان إلى الدور الثاني.

تقوم الدولة بتعويض المرشحين  الذين حصلوا على 5بالمائة من الأصوات على الأقل في حدود 47,5 بالمئة من الأموال التي أنفقوها في الحملة الإنتخابية.

أما الذين حصلوا على نسبة أقل من الأصوات، فسيتم تعويضهم في حدود 4,75 بالمائة من الأموال التي صرفوها.

أما باقي مصادر التمويل، فيمكن أن تأتي من الخواص (كل شخص يمكن أن يمنح 4600 يورو لأي مرشح يريد مساندته) ومن قبل الأحزاب السياسية نفسها أو أعضائها.

أما الشركات، فالقانون يمنعها من تقديم مساعدات مالية للمرشحين.

نتائج الإنتخابات الرئاسية الفرنسية والحكامة الزمنية

أكدت الجمهورية الفرنسية أنها دولة ديمقراطية بمؤسساتها وبمواطنيها وبأحزابها وبقياداتها، إذ تم الإعلان عن النتائج النهائية للدور الأول في الساعة الثامنة مساءا بالضبط، على جميع التراب الفرنسي وخارجه، بفوز ايمانويل ماكرون بـ 28.1 بالمائة مقابل 23.3 بالمائة لمارين لوبن اللذات تأهلا للدور الثاني. في ما اعترف المرشحون  الخاسرون  بهزيمتهم وباحترام إرادة الشعب الفرنسي ودعوا مناضليهم التصويت في الدور الثاني إما لصالح ماكورن او لوبين.

نتائج الإنتخابات الفرنسية والأخلاق السياسية

لاحظ المهتون بالشأن الإنتخابي الفرنسي كيف إلتزم كل المرشحين الإنتخابات الرئاسية بمبادئ الأخلاق السياسية، إذ مباشرة بعد إعلان النتائج الرسمية تواصل كل هؤلاء المرشحين للانتخابات الرئاسية الفرنسية مع الرأي العام ومناضلي أحزابهم، إمّا معترفين بالهزيمة والإعتذار لهم، أو الإعلان عن دعم المرشح المؤهل إلى الدور الثاني، أو الإعتراف بالفوز وقبول نتائج صناديق الإقتراع، مؤكدين بذلك أن عمق العمل السياسي وأساس العملية الإنتخابية هو الاخلاق والمواقف والوضوح والمبادئ والالتزام بقواعد اللعبة الديمقراطية ،واحترام الإرادة الإنتخابية الشعب.

الإعلام الفرنسي ومتابعة الإنتخابات الرئاسية 

أبان الإعلام الفرنسي عن مهنية عالية في متابعة الإنتخابات الفرنسية في كل محطاتها، سواء من حيث البرامج السياسية، أو الأخبار الإنتخابية أو تغطية الحملات الإنتخابية، أو من حيث الموضوعية والولوج العادل للباحثين والسياسيين إلى وسائل الاعلام، حيث تمكن الإعلام الفرنسي، خصوصا البصري منه، من فرض جاذبية المشاهد الفرنسي داخل التراب الفرنسي وخارجه، وجعله يتابع مجريات العملية الإنتخابية بكل تفاصيلها وبكل دقة وموضوعية ومهنية وأخلاق، بعيدا عن كل تبعية أو توجيه أو تضليل أو تحكم .

و أهم ما تميز به الاعلام الفرنسي هو عمق النقاش العمومي debat public

الإنتخابات الرئاسية الفرنسية وانتحار الأحزاب اليمينية واليسارية التقليدية:

عبرت نتائج الإنتخابات الرئاسية الفرنسية، في الدور الأول ، عن سخط وتمرد الناخب الفرنسي على عروض أحزاب اليمين وأحزاب اليسار التقليديين بفرنسا، وذلك برفض التصويت على مرشحيهم الذين تم إقصاؤهم من المرور إلى الدور الثاني– لأول مرة في تاريخ الجمهورية الخامسة -إقصاء حمل بين طياته عدة رسائل مفادها تمرد الناخب الفرنسي ضد العروض الإنتخابية للأحزاب السياسية اليمينية واليسارية الفرنسية التقليدية التي لم تعد تستجيب لتطلعات المواطن الفرنسي في القرن 21، حيث كان الحزب الاشتراكي أكبر الخاسرين ب 1.7%  بالنسبة لمرشحة الحزب الاشتراكي  anne hidalgo

تنافس المرشحين أفرز نقاشات عمومية حول البرامج وليس حول الأشخاص :

تابع الرأي العام الفرنسي والدولي مناظرات المرشحين للدور الأول الفرنسي، التي جرت بين ايمانويل ماكرون الوسطي المتجدد، واليمينية المتطرفة مارين لوبان ،والثوري جان لوك ميلونشان والاشتراكية ان هيدالكو ،وبونوا امون، والديغولي نيكولا دوبان ،ومرشحة صوت العمال ناتالي ارتو ،ومرشح الحزب اليميني المتطرف اليميني ايريك زمور.

هذه المناظرات التي كانت جد حامية حول البرامج الإنتخابية والأفكار السياسية وليس حول الشعبوية السياسوية وشخصنة الصراع.

وتؤكد كل المؤشرات أن نتائج الإنتخابات الرئاسية الفرنسية شكلت منعطفا فاصلا في تاريخ الجمهورية الفرنسية الخامسة بعد إقصاء كل مرشحي الأحزاب اليمينية المعتدلة او المتطرفة والأحزاب اليسارية التقليدية من المرور إلى الدور الثاني، وتأهل كل من ايمانويل ماكرون ومرشحة اليمين المتطرف، وهو ما يعني أن تاريخ الانتخابات الفرنسية يعيد نفسه،بمعني إعادة تأهل ماكرون وماري لوبن للدور الثاني في الانتخابات الرءاسية لسنة   2022، كما تم ذلك في انتخابات 2017.

الدرس الديمقراطي الفرنسي والأحزاب السياسية المغربية:

من سوء الحظ أن تنظيم الانتخابات الرئاسية الفرنسية قد تم مباشرة بعد تشكيل حكومة اخنوش التي أفرزتها انتخابات 2021.حكومة أقل ما يمكن أن توصف بأنها حكومة "اللا تواصل"، و"المناطق الرمادية" رغم جهود رئيسها  في الالتزام بوعوده الانتخابية في ظروف اجتماعية واقتصادية صعبة.

وعليه، إذا كانت فرنسا تمثل المرجعية الدستورية والقانونية والسياسية للدولة المغربية ولمؤسساتها، فلماذا لا يستفيد الفاعلون والأحزاب السياسية المغربية من الدرس الديمقراطي الفرنسي الانتخابي ؟.

ولماذا لم يستفيدوا من المنهجية الديمقراطية في تدبير الإنتخابات ؟ كيف يعقل أن يقود فرنسا الدولة العظمى ايمانويل ماكرون البالغ  39 سنة في انتخابات 2017  ويتأهل للدور الثاني لولاية ثانية وعمره لا يتجاوز 44 سنة، في حين نجد  زعماء سياسيين ونقابيين  قضوا أكثر من 39 سنة وهم متسلطون على رأس أحزابهم ونقاباتهم بالمغرب؟

يجب على الأحزاب السياسية المغربية وقاداتها أن يستفيدوا من مسار انتخابات فرنسا التي مرت دون طعون ودون تبادل الإتهامات بين الدولة والأحزاب وبين الأحزاب والأحزاب. فلماذا وإلى متى ستبقى الإنتخابات بالمغرب مرتبطة بالتزوير وبالطعون وبالإتهامات وبالبلقنة؟

نتمنى أن تصبح الديمقراطية الانتخابية المغريية متفاعلة مع الثورة  السياسية الهادئة التي يقودها صاحب الجلالة الملك محمد السادس، الذي يطالب بجيل يدبر السياسات العمومية بشكل آخر، وبجيل يمارس السياسة بشكل مغاير لما هو سائد اليوم.

واخيرا ،نقول تختلف نظريات علم السياسة حول مفهوم  الانتخابات الحرة والنزيهة، لكنها تتفق على أنها تمثل أحد الآليات الرئيسة للنظام الديمقراطي. لكنها لا تكفى لوحدها لقيام ديمقراطية حقيقية، فهذه فالأخيرة تتطلب توفر شروطا وأسسا وعناصر عديدة منها: فاعلون ديمقراطيون،أحزاب ديمقراطية، تعددية سياسية حقيقية، تداول علي  السلطة، الفصل بين السلطات ،سيادة القانون، وجود مجتمع مدنى فاعل ومستقل،مواطنون متشبعون بقيم المواطنة،إعلام وموسسات اعلامية مهنية ومحترفة.

مع التأكيد أن الديمقراطية منظومة لا تُفرض، ولا تُستورد، بل هي كينونة تتطور وفق الخصوصيات الاقتصادية والاجتماعية والثقافية للأنظمة والمجتمعات.