أكتب إليكم بقبعة الأستاذ الجامعي الذي خبر الجامعة أكثر من ثمانٍ وثلاثين سنة.. بدأ طالباً يطارد المعرفة في مدرجاتها الباردة.. ثم صار أستاذاً يطارد كرامة المهنة وسط زحام القرارات..
لا أكتب كسياسي يبحث عن تسجيل نقاط في موسم انتخابي.. بل كواحد من أولئك الذين وهبوا أعمارهم للجامعة، حتى صارت بيوتهم امتداداً لمدرجاتها..
السيد الوزير..
أنتم تدركون أن البرلمان لن يعترض عليكم.. فهو ليس سوى غرفة مفتوحة لحكومة التحقتم بها منذ عام وبعض الشهور.. يومها استبشرنا خيراً أنكم ستداوون جراحاً تركها الميراوي.. فإذا بالحرف الذي يفرق بينكما لم يغيّر من الواقع شيئاً.. بل عمّق الغموض وفتح الجامعة على المجهول..
السيد الوزير..
قد يصدق فيكم قول المتنبي: “وإني وإن كنت الأخير زمانه، لآت بما عجزت عنه الأوائل”، لكن ما عجز عنه الأوائل ليس بطولة أن تُعيدوا نسخه..
الميراوي جاء ببرامج باذخة كـ”rozita” و”sof scirse”.. صُرفت عليها الملايين..
زُرعت في الجامعة كغريب لا يشبه تربتها.. فانتهت كارثة بكل المقاييس..
أحسنتم حين ألغيتموها.. لكنكم أخطأتم التوقيت.. فالقرار لا يقاس بصحته فقط.. بل بلحظة اتخاذه.. وأنتم اخترتم توقيتاً ميتاً.. صيفاً أغلقتم فيه الأبواب وأفسدتم طعم عطلة كان يفترض أن تكون متنفساً للأساتذة والطلبة..
السيد الوزير..
مشكلتنا ليست مع مبدأ الإصلاح.. بل مع سياقه وتوقيته.. مع إقصائكم للهياكل واللجان البيداغوجية والأساتذة والشُعب..
الجامعة ليست ملكاً لكم.. أنتم جزء منها.. لستم أوصياء عليها.. ولا مالكين لها لتقرروا فيها كما تشاؤون..
الخطأ ليس شخصياً.. بل حكومياً!!
أغلب وزرائها لم يخرجوا من صناديق الاقتراع.. بل من شركات ومقاولات.. أما أنتم فجئتم من الجامعة نفسها، لكن دون انتخابات.. تماماً كما فعل سلفكم.. ومع ذلك جاء قراركم وكأنكم لا تعرفون الجامعة.. أو كأن المنصب غيّر ذاكرتكم.. تماماً كما يغيّر الرؤساء والعمداء وجوههم فور جلوسهم على الكراسي..
السيد الوزير..
نرفض أن تُفرض علينا وصاية.. نرفض أن يُعامل الأستاذ الجامعي وكأنه مشروع فساد يحتاج إلى رقيب دائم.. كرامتنا ليست بنداً في قرار وزاري.. وشرفنا خط أحمر..
لقد وقعتم، مثل من سبقكم، في فخ الإصلاح بالمزاج.. كأن الجامعة مختبر تجارب.. كل وزير يجرّب وصفته الخاصة ثم يرحل.. “الباشلور” جاء به أحدهم.. ثم دفنه الآخر.. وأنتم الآن تُصفّون تركة جديدة.. على حساب مجانية الجامعة واستقلاليتها..
السيد الوزير..
بالله عليكم.. كيف ترون الطالب الفقير وهو يدخل كليات الاستقطاب المفتوح.. يتيه وسط برامج متلاحقة وقرارات متناقضة.. كأنه فأر تجارب.. لا يعرف بأي نظام سيستيقظ غداً.. ولا بأي شهادة سيتخرج بعد سنوات..!
الجامعة ليست مرضاً نختبر له أدوية متناقضة.. الدواء واضح: أن تشتغل الجامعة وفق نظام ثابت ومستقر.. أن يُشرك الأساتذة والطلبة في صياغة الإصلاح.. أن نكفّ عن الارتجال الذي تحكمه حمى الانتخابات..
السيد الوزير..
من العيب والعار أن يُختزل تاريخ جامعة القاضي عياض.. أو جامعة محمد الخامس.. أو جامعة الحسن الثاني.. أو فاس ووجدة.. في قرار تقسيم وتقزيم.. هذه الجامعات تحمل أسماء ملوك كبار وعلماء كبار.. هي ذاكرة وطن.. فهل تريدون محوها بجرة قلم؟
هل سمعتم يوماً أن فرنسا قسّمت السوربون؟ أو أن مصر جزأت جامعة القاهرة أو عين شمس؟ هذه ليست مجرد مؤسسات.. إنها معالم علمية وتاريخية.. ذاكرة دول لا تُجزّأ ولا تُمحى..
أنتم اليوم تفرغون الأسماء من رمزيتها.. وتغتالون ذاكرة أساتذة وطلاب تخرجوا من هذه الجامعات وحملوا معها صورة الوطن في حقائبهم..
السيد الوزير..
لا سامح الله من ابتكر الكليات المتعددة التخصصات.. مشروع أُعلن فشله وأضعف الطالب والأستاذ معاً.. وها أنتم اليوم تعيدون الكرة بقرارات جديدة لتقزيم الجامعات التاريخية..
هل تعرفون فعلاً واقع الجامعة..؟ هل جلستم يوماً في مدرج مكتظ حتى لا يكاد الطالب يجد مكاناً؟ هل وقفتم أمام بنيات تحتية تئن تحت ثقل الواقع..؟
السيد الوزير..
نناشدكم أن تراجعوا ما أعلنتموه صيفاً باسم الإصلاح.. قبل أن تفتحوا أبواب الجامعة على احتقان جديد..
ونناشد رؤساء الجامعات والعمداء ورؤساء الشُعب.. أن يتذكروا أن المناصب زائلة.. وأنهم سيبقون أساتذة بعد رحيلهم.. وأن الوزير، مهما علا، سيغادر.. وستبقى الجامعة والتاريخ..
السيد الوزير..
الوطن ثابت.. المناصب إلى زوال.. فاتقوا الله في أبناء الوطن الذين لا يملكون مالاً للمعاهد الخاصة.. ولا ترفاً للبعثات..
أما نحن الأساتذة.. فلسنا ملائكة.. لكننا لسنا شياطين كما يريد البعض أن يرانا.. لسنا قطيعاً يُفرض عليه وصيّ..
لو كان كل قطاع يُفرض عليه وصيّ لمجرد خطأ فرد.. لكان الوطن كله يعيش تحت حظر تجول أبدي..
قلت في أول مقال عند تعيينكم: هل يصلح الميداوي ما أفسده الميراوي..؟
اليوم أخشى أنني كنت واهماً.. وأتمنى أن لا أكون قد أخطأت التقدير…