د. حسن اوريد يكتب : هل للإسلام السياسي من مستقبل؟

هل سيبقى الإسلام السياسي أو الإسلام الحَرَكي، "الفكرة الكبرى"، التي تستأثر في العالم العربي بمخيال الشعوب، وتستحثُّ الفعلَ السياسي، كما كانت القومية العربية لفترة؟

حسن اوريد

لا جدال أن الإسلام السياسي كان "الفكرة الكبرى" منذ (1967)، وسحب من القومية العربية بريقها وقوة تنظيمها، وازداد زخمه مع محطات تاريخية منحته قوة دفع، منها الثورة الإيرانية (1979)، وحرب الخليج الثانية (1991)، وإلى حد ما الحرب على العراق (2003). تأثر بمرجعية تنظيرية في كل مرحلة معينة، وعرف تغيُّر الحلفاء والخصوم حسب السياقات.
كان الإسلامُ السياسي القوةَ الأكثر تنظيمًا مع اندلاع "الربيع العربي" مما جعله يجني قطوفه، فانتقل من المعارضة إلى مزاولة السلطة، وإن كان من العسير الحديث عن تولِّيه الحُكم.

كان انتقال الإسلام السياسي، أو الأحزاب ذات المرجعية الإسلامية، من الخطاب إلى المسؤولية، تحولًا جوهريًا في المنطقة. لم يعد ممكنًا، وَفق هذا التحول، تقييم الأحزاب الإسلامية التي زاولت السلطة بناء على الخطاب، وإنما على الأداء، ولم يكن الأداء يرقى إلى الخطاب، في كل من تجربة حزب الحرية والعدالة في مصر، وحزب النهضة في تونس، وحزب العدالة والتنمية في المغرب. يظل وضع حزب جبهة العمل الإسلامي في الأردن حالة خاصة؛ لأنه لم يزاول السلطة أو لم يُشرك فيها في هذه الحقبة.

لا يمكن أن ننكر فشل الأحزاب المنبثقة عن الإسلام السياسي والتي زاولت السلطة، مع اختلاف أسباب كل حالة وخصوصية كل بلد. يظهر الفشل جليًا مع تراجع حزب النهضة في الاستحقاقات الانتخابية بتونس، والهزيمة المدوية لحزب العدالة والتنمية المغربي في انتخابات 2021، وهو التعبير المستعمل للتدليل على كبوة حزب العدالة والتنمية.

سرى الحديث عمّا بعد الإسلام السياسي، بعد تواتر تراجعات الأحزاب ذات المرجعية الإسلامية، أو ما عبّر عنه بعض الباحثين الغربيين بالانتقال من الإسلام السياسي الصلب إلى الإسلام السياسي السائل.

أكب الكثيرون على سرير الحركات الإسلامية ليقفوا على أسباب الوهن. عزا البعض أسباب التراجع إلى تغليب الأحزاب ذات المرجعية الإسلامية البُعد القُطْري، والاهتمامات الداخلية، وهو ما يتنافى وتوجهات الإسلام السياسي الذي يتعالى على البُعد القُطري، والنزوع إلى البراغماتية المفرطة في تحالفات هجينة، أو غير طبيعية، وإلى افتقاد ثقافة الدولة، وإلى الإفراط في التمسك بالسلطة، ولو على حساب مرجعيتها.

شكّل حزب العدالة والتنمية حالة خاصة في الإفراط في البراغماتية حد مجافاة مرجعياته السياسية والمذهبية بالتحالف سنة (2013) مع حزب كان يعتبر حزب العدالة والتنمية خطًا أحمر، وتمرير قانون تدريس المواد العلمية بالفرنسية (وهو الحزب الذي كان ينادي بالتعريب)، والمصادقة على قانون يجيز استعمال القنب الهندي، وكانت قاصمة الدهر التوقيع على اتفاقية التطبيع مع إسرائيل.

كان ردّ الناخبين، على البراغماتية المفرطة، هو إزاحة الحزب من وضع القوة السياسية الأولى في البلد، إلى المرتبة الثامنة، إذ لم تستطع بالكاد تشكيل فريق نيابي.

السؤال اليوم، ما هو مصير الإسلام السياسي، أو الأحزاب الإسلامية ذات المرجعية الإسلامية بعد "طوفان الأقصى". هل تستعيد عنفوانها، وتجدد حياتها، وتستقطب حالة الغضب المستشرية في الشارع؟

هناك مؤشرات فعلًا تُظهر عودة الاتجاهات الإسلامية، بنسب متفاوتة، بشكل علني في الأردن، وواضح في المغرب، وضامر في مصر وتونس، بالنظر إلى طبيعة النظامين.

بغض النظر عن خصوصية كل بلد، والثقافة السارية به، وتجربة كل حزب، يشكل "طوفان الأقصى" نقطة تحول جديدة في المشهد السياسي في العالم العربي. نلمس تأثيره في الحضور القوي للاتجاهات الإسلامية في الشارع، في الأردن والمغرب، وفي السجال حول قضايا آنية، كما إصلاح مدونة الأسرة في المغرب، أو العودة بعد كمون، كما جماعة العدل والإحسان المغربية التي قدمت ما أسمته بـ "الوثيقة السياسية لجماعة العدل والإحسان". فهل سيُسعف الوضع الجديد في انبعاث الإسلام السياسي بعد الكبوة التي اعترته!

هناك عناصر موضوعية، أو قارّة، شكّلت قوة دفع للإسلام السياسي، منها الغطرسة الغربية، وارتهان حكومات في العالم العربي للغرب، من خلال خيارات سياسية واقتصادية وثقافية معينة، وهيمنة نخب متغربة. كان الإسلام السياسي في جزء كبير ردًا على الغطرسة الغربية، والنخب المتغربة، والارتهان للغرب.

والعنصر الثاني، هو أن بؤرة الإسلام السياسي كانت دومًا المشرق العربي وما يعتمل فيه من أحداث، منها هزيمة 67، وحرب الخليج الثانية (1991)، والحرب على العراق (2003). أفرز كل سياق زمني مرجعية نظرية ومُنظِّرًا وغلبة حركة تنظيمية معينة.

يتوافر العنصران الأولان في سياق "طوفان الأقصى"، أي الغطرسة الغربية، والارتهان للغرب، وهيمنة نخب متغربة، مع بؤرة صدع هي المشرق، بيد أن السياق الحالي لم يفرز بعدُ مرجعية نظرية.

فهل تستطيع الاتجاهات "المعتدلة"، أو "البراغماتية" التي طبعت المرحلة السابقة أن تستعيد عنفوانها، أم أنها تحمل لعنة التواطؤات، وخيارات غير موفقة، وأن الزمنَ زمنُ اتجاهات لا ترى في الاعتدال خيارًا، ولا البراغماتية سبيلًا؟

لعلّ السياق الأقرب إلى ما يعتمل هو ذاك الذي عرفته الجزائر إبان الحرب العالمية الثانية، من خلال الانتقال من حزب الشعب الجزائري الذي كان يؤمن بنوع من التسوية مع السلطة الاستعمارية، إلى حركة انتصار الحريات الديمقراطية التي أنشئت سنة (1946)، عقب مجزرة سطيف وجلمة (تنطق بجيم فارسية) (مايو/ أيار 1945)، وانطبعت بحدية المطالب والأسلوب.

هناك موجة جديدة في الأفق لجيل جديد من الإسلام السياسي، مع فاعلين جدد، وخطاب جديد، وتنظير جديد، أما من يركبون الموجة، فهم يمهدون السبيل لجيل جديد من الإسلام الحَرَكي، لا غير.

 

المصدر:  الجزيرة  نيت


شاهد أيضا

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.