المغرب يتذكر نداء القدس: البابا فرنسيس، رحلة إنسانية بدأت بالرباط ولم تنته

برحيل البابا فرنسيس، بابا الفاتيكان، صباح الإثنين 21 أبريل 2025، يفقد العالم قلباً كبيراً نذر حياته لخدمة القيم الإنسانية والدينية، وظل حتى آخر رمق صوتاً مدوياً للسلام والعدالة، وتبقى زيارته التاريخية للمغرب وتوقيعه "نداء القدس" شاهدين على إرثه العميق في بناء جسور التفاهم بين الأديان والحضارات.

في مارس 2019، حط البابا فرنسيس رحاله في المملكة المغربية، بدعوة كريمة من جلالة الملك محمد السادس، أمير المؤمنين. لم تكن مجرد زيارة دبلوماسية، بل لحظة روحية وإنسانية فارقة. استقباله الحافل في ساحة مسجد حسان بالرباط، وخطاب جلالة الملك الذي أكد على أهمية التربية الدينية في مواجهة التطرف، مبرزاً نموذج المغرب الوسطي المعتدل، كلها شكلت مقدمة للحظة الأكثر رمزية.

تلك اللحظة تجلت في توقيع "نداء القدس" التاريخي بين أمير المؤمنين، جلالة الملك محمد السادس، وقداسة البابا فرنسيس داخل القصر الملكي بالرباط. هذا النداء لم يكن مجرد بيان سياسي، بل صرخة ضمير مشتركة، أكدت على أن القدس الشريف ليست مجرد مدينة، بل هي تراث مشترك للإنسانية جمعاء، وأرض مقدسة للقاء والتعايش بين أبناء الديانات التوحيدية الثلاث، مع التشديد على ضرورة الحفاظ على هويتها ووضعها القانوني والتاريخي ورفض أي مساس بها.

جاءت زيارة البابا فرنسيس للمغرب في وقت كان العالم أحوج ما يكون لرسائل الأمل والتلاقي، في ظل تصاعد خطابات الكراهية والانغلاق. لقد بعثت الزيارة، وهي الثانية لحبر أعظم إلى المغرب بعد البابا يوحنا بولس الثاني عام 1985، برسالة قوية مفادها أن الحوار بين الأديان ليس ترفاً، بل ضرورة وجودية لمواجهة تحديات العصر وبناء مستقبل يسوده العيش المشترك.

وكما افتتح خطابه أمام الشعب المغربي بكلمات مؤثرة عن إعجابه بـ"تاريخ المغرب المدهش" وسجوده على أرضه، فقد امتدت إنسانيته لتشمل لقاءات دافئة مع الجالية المسيحية، وزيارته لمركز تربوي يشرف عليه رهبان كاثوليك، وتأكيده الدائم في عظاته على كرامة المهاجرين وضرورة حماية حقوقهم، وهي قضايا ظلت لصيقة بفكره وعمله.

لم تكن مواقف البابا فرنسيس وليدة لحظة الزيارة للمغرب، بل تجسيداً لالتزام إنساني ثابت تجاه قضايا المنطقة العربية. فمنذ اعترافه بدولة فلسطين ورفع علمها في الفاتيكان، مروراً بزيارته لبيت لحم وصلاته في كنيسة المهد وتوقفه أمام جدار الفصل، وصولاً إلى إدانته المتكررة للعنف والحروب، كان صوته دائماً منحازاً للمظلومين وداعياً للسلام.

ففي عام 2014، ومن قلب فلسطين، دعا الله أن "يمنح السلام للذين يعانون في هذه الأرض، وأن ينقذ الأبرياء من القتل والدمار". ولم يتوانَ عن إدانة العدوان الإسرائيلي على غزة في 2021 واصفاً قتل المدنيين بأنه "لا يمكن أن يكون مبرراً"، ومشدداً خلال عدوان 2023 على الضرورة الملحة لوقف إطلاق النار فوراً، وهو النداء الذي ظل يكرره حتى أيامه الأخيرة.

خلف اللقب البابوي، كان خورخي ماريو برغوليو، الأرجنتيني الذي اختار اسم "فرنسيس" تكريماً لقديس الفقراء، إنساناً بسيطاً في جوهره. أسلوبه الأقل رسمية، وقراره الإقامة في بيت ضيافة بدل القصر البابوي، واهتمامه العميق بالفقراء والمهمشين، والتزامه الصادق بالحوار بين الأديان، كلها جوانب عكست عمق إنسانيته وتواضعه.

رحل البابا فرنسيس، الذي قاد الكنيسة الكاثوليكية منذ مارس 2013، عن عمر ناهز 88 عاماً، لكن إرثه كجسر للحوار ونداءه من أجل القدس وفلسطين وكل المستضعفين سيظل حياً، ملهماً للأجيال القادمة للسير على دروب السلام والتسامح والأخوة الإنسانية، وهو الإرث الذي تجلى بوضوح في محطته المغربية الفارقة.


شاهد أيضا

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.