لا يزال غياب النواب عن الجلسات البرلمانية يثير جدلاً واسعاً في المغرب، ويُعدّ ظاهرة مقلقة تعكس تراجعاً في التزام العديد من "ممثلي الأمة" بمسؤولياتهم. فبينما ينص الدستور على الدور المحوري للبرلمان في التشريع والرقابة، تتكرر مشاهد الكراسي الفارغة تحت قبة البرلمان، ممّا يُفرغ العملية التشريعية من مضمونها الحقيقي ويُثير تساؤلات حول مدى تمثيلية المؤسسة للمواطنين.
هذا الوضع المُخجل برز بشكل خاص خلال التصويت الأخير على مشروع قانون الإضراب، وهو قانون ذو أهمية بالغة يمسّ شريحة واسعة من المجتمع. فمن أصل 395 نائباً، لم يحضر سوى 104 نواب، بينما غاب 291 عضوًا، وهو رقم صادم يُظهر استهتاراً واضحاً من قبل عدد كبير من النواب بأداء واجبهم الأساسي. فكيف يمكن تقنين الإضراب، وهو حق دستوري بالغ الحساسية، دون نقاش برلماني واسع يعكس تنوع الآراء السياسية والحقوقية والاجتماعية في المملكة؟ هذا الغياب الجماعي يثير شكوكاً جدية حول مدى جدية البرلمانيين في القيام بواجبهم التشريعي، خاصةً وأن قانون الإضراب يتطلب نقاشاً معمقاً يراعي توازن الحقوق والواجبات بين العمال والموظفين وأرباب العمل.
وبالنظر إلى تكرار هذه الظاهرة، يطرح المواطنون تساؤلات مشروعة حول آليات المحاسبة داخل البرلمان. فكيف يمكن الوثوق بالمؤسسات إذا كان ممثلو الشعب لا يكلّفون أنفسهم حتى عناء الحضور؟ يرى العديد من المراقبين ضرورة نشر قوائم الغياب بشكل دوري، وفرض إجراءات صارمة لضمان التزام النواب بحضور الجلسات، خاصة عند مناقشة قوانين مصيرية.
ورغم اعتماد مدونة الأخلاقيات البرلمانية، إلا أنها لم تتمكن حتى الآن من ردع المتغيبين. فمع نهاية عام 2024، تجدد الحديث عن هذه الظاهرة، حيث سجلت الجلسة الأخيرة من العام الدراسي البرلماني غياباً ملحوظاً، بالكاد تجاوز فيه عدد الحضور 40 نائباً من أصل 392.
ويعزو البعض هذا الغياب إلى تزامن الجلسة مع اقتراب عطلة نهاية السنة، حيث يفضل بعض النواب السفر رفقة عائلاتهم. في حين يرى آخرون أن هذا التبرير غير مقبول، ويعتبرونه نوعاً من الاستهتار وعدم الالتزام بالأدوار المنوطة بالنواب.
وتنص المادة 166 من النظام الداخلي لمجلس النواب على شروط الغياب عن الجلسات العامة، وتلزم النواب بإرسال رسالة إلى رئيس المجلس توضح العذر قبل انعقاد الجلسة. كما تحدد المادة 137 طبيعة الأعذار المقبولة. ورغم ذلك، لا يبدو أن هذه الإجراءات كافية للحد من الظاهرة.
وتشير الإحصائيات إلى أن نسبة الغياب في صفوف النواب خلال مناقشة مشروع قانون المالية لسنة 2025 تجاوزت عتبة 52 في المائة، بينما لم تتعد نسبة المعتذرين 10 بالمائة. هذا الوضع دفع مكتب الغرفة الأولى إلى التفكير في تفعيل مدونة السلوك والأخلاقيات، سعياً للحد من ظاهرة الغياب غير المبرر التي تسيء لصورة المؤسسة التشريعية.
وفي تقرير لجمعية "سمسم – مشاركة مواطنة"، تم التنبيه إلى استمرار العزوف بين نواب البرلمان عن حضور الجلسات التشريعية، حيث تغيب ما يصل إلى 63% من النواب والنائبات خلال السنة الثالثة من الولاية التشريعية الحالية. وقدّر المعدل العام لنسبة حضورهم بـ37.28 % فقط.
ويظل السؤال المطروح: كيف يمكن للبرلمان المغربي أن يضطلع بدوره كاملاً في التشريع والرقابة، بينما يغيب عنه أغلبية أعضائه بشكل متكرر؟ وكيف يمكن للمواطنين أن يثقوا في مؤسسة لا يبدو أن ممثليها يولون الاهتمام الكافي لأداء واجبهم؟ إن معالجة هذه الظاهرة تتطلب إجراءات صارمة ومحاسبة حقيقية، بالإضافة إلى وعي أكبر من قبل النواب بأهمية الدور الذي يضطلعون به في بناء الديمقراطية وتمثيل مصالح المواطنين. فالغياب عن الجلسات البرلمانية ليس مجرد مخالفة للنظام الداخلي، بل هو تقويض للعملية الديمقراطية نفسها، وإهانة لثقة المواطنين الذين انتخبوهم لتمثيلهم والدفاع عن مصالحهم.