يعد المغرب فاعل قوي في الساحة القارية والإقليمية، وقوة صاعدة على المستوى الدولي، ويراهن على الكثير من التحديات لإثبات ذاته عالميا، من خلال تغليب لغة المصالح المتبادلة، وتصدير الأمن والإستقرار؛ ليكون شريكا موثوقا وذو مصاقية على الساحة الدولية.
هذا الخط الدبلوماسي الذي رسمه المغرب في سياسته الخارجية، مكن المغرب ان يكسب العديد من المكاسب لصالح كأمة دولة، يحظى بثقة عالمية، ويطمح إلى تثبيت هذا التوجه نحو الصعود الدولي، من خلال العضوية في مجلس الأمن.
لكن لكل نجاح ضريبة؛ بينما المغرب ظل محط مراقبة لدى المنافسين، عبر إلحاق الضرر بمصالحه، وافتعال ملف الصحراء كقضية وهمية، خشية عودة نفوذ “العائلة العلوية الشريفة” ومن سبقها من السلالات المغربية الحاكمة، الضاربة جذورها في العمق الأفريقي.
وفي هذا الإطار، إفتعلت قضية الصحراء المغربية، وصنعت دولة لا هي أمة ولم يسمع بها أبدا في التاريخ الأفريقي، إنما هي من مخلفات الإستعمار، الذي صنع وقسّم دولا على المقاس، قطعت بشكل عبثي بالمسطرة.
فتقطيع دول الجنوب بالمسطرة، كان محل استنكار من قبل النخبة السياسية والمثقفة، ضد تقطيع لا يراعي الخصوصية القبلية والجغرافية للتضاريس، بعد أن مرّ خط المسطرة عبر منطقة، قسم فيها عشائر من نفس الأصول، فأضحت فيها دماء نفسها، تفرقها حدود وجنسيات مختلفة.
ولا يمكن لأي عاقل أن ينكر مدى إمتثال خريطة الوهم المزعومة لمسطرة التقسيم، ضاربة عرض الحائط الهوية والخصوصية القبلية والجغرافية لسكان الأقاليم الجنوبية للمغرب.

وبالرغم من ذلك، استمر المغرب الدولة – الامة يشق طريقه بخطى ثابتة، رغم افتعال العقبات في طريقه، إلاّ أنه بحنكته السياسية المتبصرة، إستطاع أن يتجاوزها، بفضل مصداقيته كشريك موثوق وفاعل نحو التنمية والأمن والإستقرار.
هذا النجاح الإقليمي والدولي، تقابله منافسة شرسة للخصوم، سواء في شمال الكرة الأرضية أو جنوبها، كما هو الحال بالنسبة لمنافسي المغرب في القارة الأفريقية، قبل وبعد اختراق المغرب لمؤسساتها، وتحقيق انتصارات ضد دول تقتات على الصراعات والأزمات السياسية.
فالمغرب يتبني أطروحة دبلوماسية اتجاه أفريقيا مفادها “الأمن” و”التنمية” و”الربح المتبادل”، وتغليب نقاط “التقاطع” لا “الخلاف” لتحقيق مصالح مشتركة؛ وأن أفريقيا تحتاج إلى “نهضة” لا من يقدم “المساعدات الإنسانية”، بعد تصدير الأسلحة ونشرها بين الفرقاء.
فالمغرب يراهن على تصدير المواد الأساسية التي تضمن العيش الكريم، والاستقرار السياسي بعيد عن الحروب الأهلية والجماعات المسلحة المتناحرة والمتمردة؛ ما مكن المغرب من أن يحقق شركات إخترقت القارة، وقلصت نفوذ الخصوم، التي تقتات من الصراعات لضمان نفوذها.
وفي هذا الإطار يبرز دور الخصوم القاريين، وعلى رأسهم “الجزائر” و”جنوب أفريقيا”؛ فجنوب أفريقيا ترى بأنها الأحق بشرعية زعامة القارة، أكثر من غيرها، بالنظر إلى معركتها مع العنصرية ضد السود.
غير أنها وجدت أمامها منافس قوي يستمد شرعيته من التاريخ، ويسعى للنهوض بأفريقيا، لا جعل أفريقيا وسيلة للنهوض الأحادي للدولة على أنقاضها، واستغلال معركة العنصرية، لتحقيق مصلحة ذاتية، تعود بالنفع السياسي على دولة دون غيرها.
هذا الطرح همش النفوذ “الجزائري” و”الجنوب إفريقي”، ووسع من دائرة الشراكة المغربية المتبادلة مع الأفريقيين، وحقق انتصارا ضد أطروحة تقرير المصير التي تتبناها جنوب أفريقيا، وتستثمر فيها لصالح نفوذها السياسي.
فسياسة تقرير المصير “الجنوب الأفريقية”، كانت لها شيء من الشرعية في خضم الاحتلال الغربي؛ أما اليوم باتت عنوانا لتقسيم واشعال فتيل الصراعات الأهلية الطاحنة، وتقويض أمن واستقرار أفريقيا.
لكن المغرب قدم عروض بديلة في ظل الصحوة الأفريقية، بحثا عن الوحدة لا الانفصلات والانقسامات، وتجنب الصراعات التي تمنح الشرعية المكرة للقوات الأجنبية، لانتهاك حدودها الجغرافية وسرقة ثرواتها؛ ما جعل من شعار “تقرير المصير” بدون منطق ويفتقر للشرعية.
وبعد أن تقلص نفوذ جنوب أفريقيا في القارة، ذهبت للركوب على القضية الفلسطينية، لمعرفتها المسبقة لما تمثله القضية من تجارة دبلوماسية وتسويق سياسي؛ ولا يمكن لجاحض أن ينكر عدالة القضية والحقوق المشروعة للشعب الفلسطيني.
لكن النية المبيتة من تلك المناورة، ظهرت بعد التحركات التكتيكية التي قامت بها دبلوماسية جنوب إفريقية؛ حيث حركت القضية أمام محكمة العدل الدولية، ومنحت للفلسطينيين “فتوى” وليس قرار ملزم، إنما محرج لـ”إسرائيل” أمام العالم.
لكن المكسب الحقيقي من وراء ذلك، هو لفت انتباه العالم والرأي العام الدولي وتوجيهه صوب جنوب أفريقيا، قصد الخروج من عزلتها، واستعادة نفوذها الإقليمي والدولي، بعد أن قلص وضيق من قبل المغرب.
فجنوب أفريقيا التي يقودها حزب المؤتمر الوطني، تكبذ خسائر سياسية كبيرة على المستوى الداخلي والخارجي، إلاّ أن إثارة قضية فلسطين على أنظار العدل الدولية، سيمكن الحزب من العودة إلى المشهد السياسي بقوة، في ظل الغضب الداخلي ضد ضعف أداء الدولة.
أما السبب الثاني، هو قرب الحزب الإشتراكي الحاكم (حزب المؤتمر الوطني)، من روسيا وإيران وتحالف الدولتين مع جنوب أفريقيا، وصراع النفوذ في أفريقيا ضد الغرب، ومحاولة التقرب الدبلوماسي من الدول النامية المناصرة للقضية الفلسطينية، وهي الوجه السياسي لخطة “BRICS”.
أما خطة العودة إلى الساحة الأفريقية، ظهرت بعد دعوة جنوب أفريقيا “ستيفان دي ميستورا” المبعوث الشخصي للأمين العام للأمم المتحدة إلى بريتوريا، وترتيب لقاء بينه وبين وزيرة خارجية جنوب أفريقيا، حول قضية الصحراء المغربية؛ بالرغم من أن الدولة ليست طرف في النزاع ولا معنية به.
وبعد ساعات من ذلك، تم استقبال ممثل جبهة البوليساريو بجنوب إفريقيا لنفس المقر؛ مما يظهر أن جنوب إفريقيا تناور عبر محكمة العدل الدولية، من أجل إثارة مشكل الصحراء المفتعل، بعدما أضحى المغرب وشيك على إنهائه، وفشل الجزائر في كسبه، وتوجيه الرأي العام الدولي نحوه.
فمناورة جنوب أفريقيا في محكمة العدل الدولية، ليست إلاّ خطوة للركوب على قضية مشروعة، لإعطاء الشرعية لتحركاتها نحو إثارة قضايا التقسيم والإنفصال، وإعادة أفريقيا لسنوات الصراعات السياسية والحروب الأهلية، وعودة جنوب أفريقية إلى الواجهة؛ ظهرت جليا مع تحركاتها ضد وحدتنا الترابية، بالموازاة مع الزخم الدولي الذي أثارته جنوب أفريقيا في محكمة العدل الدولية بخصوص جريمة الإبادة الإسرائيلية.
فرغم شعار جنوب إفريقيا حول فلسطين، إلاّ أنها شريك إقتصادي وعسكري قوي مع إسرائيل، رغم الأزمات السياسية الظاهرية المرتبطة بأحزاب بعينها لا غير، والتي تحتفظ لجنوب أفريقيا بقاعدتها الانتخابية؛ إلاّ أن ثلث إجمالي تجارة إسرائيل تمثلها جنوب أفريقيا.
فعندما قال “نيلسون مانديلا” أن حرية بلاده غير مكتملة بدون حرية فلسطينيين؛ ذهب إلى إسرائيل وأكد لإسرائيل حقها في الوجود خلال زيارته لها، ومنحته درجة دكتوراه فخرية من جامعة “بن غوريون”.
فقضية فلسطين بالنسبة لجنوب أفريقيا ليست إلاّ تجارة سياسية من أجل العودة للساحة السياسية، من أجل ضرب الخصوم والتعرض لمصالحهم، وإعادة إحياء الحركات الانفصالية لتقويض مصالح المنافسين الأقوى على مستوى القارة، بما فيهم المغرب.
فالمغرب أزاح جنوب أفريفيا من زعامة الاتحاد الأفريقي ومجلس أمنه، وتمكن من هزيمة جنوب أفريقيا في رئاسة مجلس حقوق الإنسان الأممي؛ لكن لم يسبق أن تاجر بقضية فلسطين، ويلعب بوجه مكشوف في أفق إحلال السلام، ويشيد بفتوى محكمة العدل الدولية، الذي أثارته جنوب أفريقيا.