مقاربة لصورة تدشين الملك محمد السادس لحملة التلقيح ضد فيروس كورونا

محمد الشنتوف*

التقطت صورة للملك محمد السادس مساء الخميس 28 يناير 2021، أثناء تدشينه لعملية التلقيح بالمملكة، ووفق المستويين الأيقوني والتشكيلي للصورة كعلامة دالة تربط بين دال ومدلول بالمعنى السيميائي لأي صورة، أو علامة بصرية بمختلف أشكالها، فإنها تحمل نسقا لا محدودا من الدلالات في سياق حدث استثنائي يعيشه المغرب خاصة والعالم بصفة عامة.

ومع ما تحمله "الصورة السياسية" سواء كانت لرؤساء دول أو زعماء أو ملوك أو قادة سياسيين من أبعاد و دلالات ومعاني وأهداف ورسائل، فكان لا بد لسلسلة" فنون التواصل السياسي" أن تخص هذه " الصورة التاريخية الاستثنائية في تاريخ المغرب" بتحليل خاص، وأن نخصص وقتا طويلا للقراءة وإعادة القراءة في مختلف المراجع والكتابات حول الصورة، لنتمكن من إيجاد الخيط الناظم لتقديم تحليل دقيق لها، فأي دلالات لهذه الصورة في سياق ماضي و حاضر ومستقبل المملكة المغربية؟ ، سؤال سنحاول الإجابة عنه في هذا العدد الثالث من سلسلتكم المتخصصة" فنون التواصل السياسي" على جريدة بلبريس

1)سياقات الصورة:

السياق العام:

يعتبر السياق الذي يؤطر التقاط الصورة من أهم مرجعيات تحليلها، وسبر أغوار دلالاتها، ومع ما عاشه المغرب، بجميع مكوناته ملكا وشعبا وحكومة ومؤسسات إبان فترة أزمة كورونا، ومع ما خلفته أخبار الإعلان عن قرب بداية التلقيح من مشاعر متناقضة، تتأرجح بين الثقة المنبثقة من رغبة نفسية فردية واجتماعية في انفراج الأزمة، وخوف من التلقيح بمختلف مصادره، تم التعبير عنه بسخرية تارة وبجدية أيضا، كانت صورة الملك بما تحمله مكانته كمواطن وكقائد أمة، وكشخصية اعتبارية لها مكانتها على رأس هرم القيادة في الدولة، ذات أهمية كبيرة في تقوية مشاعر الثقة في من يثقون في المؤسسات، وتخفيف بل وإلى حد قتل مشاعر التوجس والخوف من التلقيح، وهو ما يفسر مناخ الثقة التي حملته مختلف ردود الفعل، بشكل عفوي ومباشر، على مستوى القول والفعل، بل كانت الصورة بمثابة الزر الأخضر الذي أزال غطاء الشك عن موضوع " التلقيح" برمته، وأعطى إشارة الانطلاقة الفعلية لهذه العملية.

السياق الخاص: ربط القول والفعل: تقريري

لقد سبقت حملة التلقيح مجموعة من البلاغات الملكية الرسمية، التي وجهت دولة المؤسسات إلى القيام بواجباتها الدستورية للقيام بما يجب القيام به لتوفير التلقيح للمغاربة، وتابعنا بعد ذلك سلسلة من الإجراءات الحكومية، من ربط للاتصالات على مستوى مختلف مكونات الحكومة، وإجراء نقاشات وحوارات داخل مؤسسة البرلمان، وحاولت الحكومة من منطلق دورها أن تطمئن المغاربة وتقدم الأجوبة التي رأيتها مناسبة حسب المعطيات المتوفرة  لديها عن طريق وزير الصحة ورئيس الحكومة والناطق الرسمي باسم الحكومة وغيرهم، وقامت المعارضة والفرق البرلمانية بدورها الدستوري في مسائلة الحكومة عن أسباب التأخير أو التأخر في تطبيق التعليمات الملكية او ما عبر عنه بعض البرلمانيين بعدم قدرتها او فشلها في تدبير هذا الملف، وإعطاء الأجوبة الواضحة لممثلي الأمة ومن خلالهم لكل المغاربة من شمال المغرب إلى صحرائه، وهي في مجملها نقاشات صحية و ضرورية في ساحة النقاش العمومي وطبيعية في ساحة النقاش السياسي المرتبط بأبجديات التفاعل داخل المطبخ السياسي الذي تختلف فيه خلفيات إثارته أو عدم إثارته، لكنه يبقى صحيا إن تواجد، وصحيا أيضا إذا لم يتواجد حسب السياق والموضوع.

 

أشرقت معالم الفرج بصدور أخبار عن نقل أولى الدفوعات من الهند ثم الصين، ومع ما خلفه هذا التنوع في مصادر اللقاح من نقاش عمومي لدى الرأي العام المغربي على مختلف مواقع التواصل الاجتماعي وفضاءات النقاش السياسي و العمومي والخاص كالمقاهي والمكاتب المغلقة والبيوت، من تخوف وطرح للأسئلة مرة أخرى، كان الاعلان الملكي عبر بلاغاته مرة أخرى بمثابة جواب قدم بخط تحريري دستوري يأتي في إطار تفاعل المؤسسة الملكية مع تفاعلات الرأي العام ومجهودات باقي المؤسسات الأخرى، وشكل دعما معنويا وفعليا قويا لإعادة الثقة في هذه التلقيحات، لكن الحلقة الأقوى هنا تمثلت في التدشين الفعلي، " لما يحمله فعل " التدشين الملكي" من دلالة عند المغاربة على مر العصور التي توارثت فيها المؤسسة الملكية الحكم في المغرب، ففعل التدشين دائما ما يحمل معه أملا في التغيير للأفضل، وفعل تدشين " حملة التلقيح" كان بنفس الدلالة والمعنى، وصورة الملك وهو يأخذ أول جرعة تلقيح ربطت القول بالفعل، وساهمت في ترسيخ الروح الايجابية التي عبرت عنها مختلف مكونات الشعب المغربي مند بداية الجائحة .

سياق جانبي غير مباشر: تأويلي

بمجرد الاعلان عن حملة التلقيح تعالت الأصوات مطالبة بأن يكون القادة السياسيون بمختلف الوانهم في الصفوف الأمامية، وإن كانت هذه الأصوات ترفع بدلالات مختلفة، ساخرة أحيانا فإنها لا تخلو من جدية واعية تربط تمثيل الأمة وقيادتها بضرورة التواجد في الصفوف الأمامية عند مواجهة الأزمات أو اعطاء النماذج الايجابية للتشجيع على الاقدام على أي خطوة قد تخاف منها الجماهير، فالقيادة بمعناها العميق تتجلى في أخد المبادرة والتحلي بالشجاعة في التعبير عن المواقف لتقديم الحلول قولا وفعلا، وهو ما عبر عنه الملك محمد السادس بهذا التدشين الذي لا يمكن إلا أن يعبر عن روح القيادة التي يجب أن يتحلى بها مختلف من يقود باقي مؤسسات الدولة، فالقاضي هو رمز العدل والمدير هو  رمز التفاني والأستاذ هو رمز العطاء التربوي والتعليمي والأب هو قدوة الأجيال، وكل في مكانه وفي منصبه وبصفته هو رمز من رموز بناء الإنسان لبناء الوطن، وعند الأزمات تبرز معالم القيادة الفردية والمؤسساتية، وأهمية المواقف الخطابية والسلوكية، وتختفي الصفات والبروتكولات والألقاب ليبرز الانجاز والموقف والعمل.

2) إدراك الصورة:

الصورة باعتبارها جسرا من جسور التواصل الصامتة والمتكلمة في نفس الوقت، تريد او يراد منها أن تختصر دائما سيلا من المعطيات والمعلومات التي تربط النظرة إليها بإدراك معرفي معين، أي أن إدراك الصورة لا يتم بناء على نظرتنا إليها فقط بل أيضا بناء على ما نحمله من معارف ممكنة حولها، وبناء على ذلك، فإن النظرة الأولى لصورة الملك وهو يتلقى أول جرعة، تفيد إخبارنا بأمر هام، وتريد أن تقر لنا بغاية مفيدة، وتريد أن تعلن لنا عن بداية تشجعنا على الاقدام على نفس الخطوة، تريدنا أن نثق، أن لا نخاف، أن نبدأ، فنحن نعرف " الملك" مسبقا، ونعرف ما يعنيه " التدشين مسبقا"، وبربط معارفنا المسبقة بهذه الصورة الآنية اللحظية، تتشكل لدينا توجهات جديدة، وتوجيهات مباشرة وقوية تبرز لنا الغاية منها كصورة تبدوا كأنها صامتة، لكنها تحمل في الوقت ذاته فعلا متكلما، يرتفع صوته ليصل صداه إلينا حيث ما كنا وبمختلف أشكالنا وتوجهاتنا كمغاربة، وكمجتمع مركب كما وصفه السوسيولوجي بول باسكون ذات يوم في احد دراساته.

3) البحث عن المعنى في الصور:

يأتي المعنى للصورة من خلال سياقها، ومكوناتها، ومن فيها، وتفاصيل من فيها، "إنها غاية في ذاتها"، تعبر عن معنى يصل إلينا من خلال بحثنا عن المعنى، وبين مختلف المعاني والتأويلات الممكنة،  يستقر تأويل واحد ليخبرنا بشكل متفرد ومباشر عن المعنى الذي فهمناه كنتيجة لمختلف العمليات التي قمنا بها والمترابطات التي شكلناها، وبعد الحديث عن السياق ومكونات الادراك، ندرك أخيرا أن معنى الصورة يؤكد لنا الفرضية التي وضعناها مند بداية التحليل.

نحن أمام صورة تاريخية استثنائية، تربط الماضي بالحاضر والمستقبل، تعطي للرغبة في القيام بسلوك مشابه تخبرنا به الصورة مزيدا من التحفيز، فمن مكونات الصورة أنها لملك، فيها نظرة ملك، سلوك مواطن، تجسيد لإرادة وطن، وتوجيه لسلوك شعب، هناك طبيب يقوم بواجبه، وملك يقوم بواجبه ككل مواطن قبل أن يكون ملكا، وفيها أيضا ألوان معينة وطريقة لباس وتفاصيل أخرى تشكل الصورة من الجانب الأيقوني ومن الجانب التشكيلي، وتعطينا دلالات على المستوى التقريري المباشر، والمستوى الايحائي الغير المباشر، من خلال سنن تعرف دقيقة، لتسمح لنا في النهاية بتقديم محاولة " لا تغدو أن تكون محاولة قد نصيب من خلالها وقد نخطأ" لتحليلها واعطاء الخلاصات التي تخبرنا بها، لنجعل للصورة الصامتة لغة تتحدث بها، وهنا يبدو أنها لغة تفيد تقديم النموذج و المثال، والجواب على 40 مليون سؤال، بناء على الاحصائيات الأخيرة لعدد سكان المغرب.

4) سنن التعرف :البنية الادراكية

اذا افترضنا أن النموذج اللساني يتفاعل مع النموذج البصري والنموذج المعرفي فإن الضرورة المنطقية لتحليل هذا النسق تؤكد لنا أن هذا التفاعل ينتج رسائل إدراكية، نتعرف من خلالها على العلامة البصرية، ندرك معناها، نكسوها بالكلمات، نصفها من خلال ربط بين: (  السيمائيات: الصورة والسكيمات: المعرفة واللسانيات: الكلمة والمترابطات: الأنساق )، وبناء على ذلك يمكن أن نقدم بعض تفاصيل سنن التعرف فيما يلي، و لقد أشرت فيما سبق الى مجموعة من هذه المكونات:

سياق استثنائي- صورة ملك- مبادرة مواطن- طبيب يعطي حقنة- المكان، القصر الملكي بفاس- مدينة العلماء - أشجار خضراء تحيط بالملك- الزليج المغربي ورمزيته الى الأصالة- كرسي عادي غير ملكي وغير رسمي- بساطة مكونات المكتب- بساطة وعراقة مكونات المكان- لباس الملك البسيط- النظرة المباشرة في عدسة الكاميرا- الثقة في عمل الطبيب وعدم التركيز معه-مساعدة الطبيب للقيام بعمله -  ارتداء الكمامة المصنوعة في المغرب(الأرخص)- راية البلاد الحاضرة- ساعة الملك البارزة في يده "حان الوقت- - الألوان ورمزيتها: البني، الأزرق، الابيض، الذهبي-الأسود الأحمر- طريقة وضع اليد على سطح المكتب

كل هذا = تعدد المكونات والمستويات التركيبية ووحدة المعنى.

5)المستويات التركيبية للصورة:

5/1:مستوى أيقوني:

 الحركة، الجلوس الوضعية، النظرة، اللباس:

يجلس الملك محمد السادس في كرسي، يضع يده على سطح المكتب، يرفع "كم" قميصه الصيفي، ينظر بعينية في اتجاه الكاميرا، يرتدي قميصا صيفيا، لا يركز مع الطبيب في تعبير عن الثقة التي يضعها في الطبيب، ومن خلاله في المنظومة الصحية، ليس هناك حرس شخصي، ليس هناك بروتوكولات رسمية، وعندما نجمع بين دلالات هذه المكونات، نصل إلى الخلاصات التالية التي يمكن  أن نلخصها في خمس أفكار من باب الذكر لا الحصر:

1) صورة المواطن الملك، والملك المواطن، والمواطن الطبيب والطبيب المواطن، كمرادفات لمفهومي الواجب والثقة الذين يجمعان بينهما عندما يتعلق الأمر بخدمة قضية من قضايا الوطن من جهة، ومن جهة أخرى عندما يتعلق الأمر بالتصدي لمختلف الأزمات التي تعكر مسار التقدم في أي ملف.

2) مخاطبة البنية الثقافية للمواطن المغربي، البنية التي تعطي مكانة " لشخص الملك" كرمز من أهم رموز الدولة المغربية على مر العصور التي تربعت فيها المؤسسة الملكية على عرش " القيادة" في الوطن، وبالتالي بمنطق التعزيز السلوكي في مدرسة علم النفس السلوكي، يقدم الملك نفسه كمعزز قوي يدفع المواطن للقيام بنفس السلوك بكل ثقة، وعلى خطى التوجيه العلمي لعلمي النفس التعلم والتربية، اللذان يؤكدان على أن التربية والتعليم  يقومان على مبدأ أساسي، وهو تعليم الشخص القيام بسلوك معين بناء على مشاهدة النموذج، فبدل أن تطلب مني القيام بأمر ما علي أن اراك تقوم به أولا.

3) بناء الثقة من خلال الفعل لا القول فقط، "وربط القول بالفعل"  من أهم  مباحث اللسانيات وتحليل الخطاب، وخاصة في شق ربط " الخطاب اللساني بالفعل السلوكي" واهميته في ربط علاقة الثقة بين الفاعل السياسي والفاعل المدنيو توجيه السلوكات، ومن  أهم ما يمكن أن يبني عليه الشعب في تمتين علاقة ثقته بمن يقود المؤسسات من جهة، وبين المؤسسات ومن يقودها، وبين كل من يقوم بأي واجب في أي مكان، أي أنها تربط الصفة المهنية بالإنجاز السلوكي الواقعي، ليصبح السلوك الواقعي مرآة للخطاب اللساني، حيث أن الثقة بين الملك والطبيب، تمرر رسالة مفادها أن الملك ينزع عن نفسه كل " البروتوكولات" أثناء القيام بواجبه في قيادة الأمة نحو القيام بأي سلوك، بمنطق تقسيم المهام عند إميناويل دوركايم وبمنطق العقدة المكونة للسلسة التي تساهم بعملها الفردي في تقوية الجماعة عند مانويل كاستلز في تعريفيه الشبكي للمجتمع وادوار مكوناته، وبمنطق العقد الاجتماعي عند جان جاك روسو، فإن القيام بالواجب هو السبيل الوحيد والشرعي لبناء الثقة وشرعنة المهنة والمهمة والصفة و السلطة والقيادة بمختلف أشكالهم.

4) تقديس الواجب وإلغاء الصفات، ثم استحضار الصفة في التأكيد على أهمية وقدسية الواجب. فالصفة والمكانة والسلطة لا تعني عدم القيام بالواجب، بل تدعو بالضرورة إلى احترامه وفق ما يمنحه القانون وروح القانون، فالملك بصفته الدستورية التي تعطيه صلاحية السهر على السير  الناجح والناجع للمؤسسات، جسدت هنا بأسلوب مباشر وغير مباشر، فسلوكه إن كان من منطلق واجبه الدستوري، فإنه يطبق الواجب الدستوري بروح المواطن، و بروح المسؤول الذي يقدر مسؤوليته، ويربط القول بالفعل تقديسا للواجب، وبالتالي "فمفهوم الواجب هنا" قدم على عدة مستويات، و وضح بالملموس أن تعاون مختلف المكونات وهنا أركز على تعاون "الملك والطبيب" وبناء الثقة، والتواصل الإيجابي مع الذات والآخر والمادة والعالم بمختلف مكوناته في أي موضوع يحتاج إلى ذلك هو ما يمكن أن يساهم في تقوية روح المواطنة وتقدم الوطن والسير به نحو قمة القمم  .

5) "بناء الإنسان لبناء الوطن" ، إن الحاجة الماسة لهاته القاعدة المحورية في ربط العلاقات التواصلية بين مختلف الفاعلين المساهمين في خدمة الوطن، تجسدت في هذه الصورة بمختلف عوالم تركيبها، فالإنسان "الملك" والإنسان " الطبيب" والانسان " المصور" والبقية بمختلف صفاتهم، برهنوا من خلال عملهم العفوي والجدي في الوقت ذاته، الذي أنتج لنا في النهاية " هذه الصورة" على أهمية " بناء الإنسان لبناء الوطن"، فنحن بحاجة للإنسان الصادق، النموذج، المؤمن بواجباته، الجدي، الواثق، القائد، المتقن، المتخلص من البروتوكولات، المخلص، الواثق في الآخر، المنفتح، المتقبل، الجامع بين الاختلافات، والقابل لمعرفة ما يجب القيام به لخدمة الوطن، لكي نتمكن من بناء الوطن، ولكي نتمكن من بناء نموذج تنموي جديد يقوم على قاعدة " بناء الإنسان لبناء الوطن" .

 الطبيعة

شكلت المكونات الطبيعية للصورة التي لها علاقة بتركيبة المكان أهم معالم تكوين المشهد، ولا بد من التركيز على أن مكونات الطبيعة اخترقت مكانا " جامدا" له طقوس رسمية في العادة، "إنه مكتب رسمي في قصر من قصور الملك" لكن الإنسان لا يضع المزهريات والورود والأزهار على شرفة المنازل أو داخل المكاتب المغلقة بالصدفة، ولا يضع الأشكال الهندسية المستوحاة من الطبيعة بالصدفة، بل أن ذلك يحدث لأن مكونات الطبيعة تعطي للأماكن الرسمية رونقا يساهم في تعديل المزاج العقلي والبنية النفسية، وصناعة معالم الجمال التي يحتاجها الانسان في مختلف محطات حياته، وتجتاحه لتشجعه عند قيامه بواجباته في أي مكان،  والشجيرات الخضراء كمكون من مكونات الطبيعة الرمزية بما لها من رمز دلالي ترسلنا للفهم الدلالي التالي:

ترتبط الاوراق الخضراء في المزهرية الذهبية ، "بالخضرة" أي ترتبط بفصل معين هو "فصل الربيع"، وفصل الربيع يعطينا دائما أملا في إعادة الروح للتربة القاحلة، للأغصان الخريفية، وللحياة الطبيعية في العودة مجددا لإحياء نبضها المتجدد، ولعل اللون الذهبي للوعاء الحامل للمزهرية، يحمل دلالة على تلك الاشراقة الجميلة للشمس التي تمنح الخضرة لونا جميلا يسر الناظرين، ويفتح النفس، إنها إشارة عن إشراقة أمل وانفراج للأزمة.

وبواسطة النظرة، تخترق "مكونات الطبيعية" ولو كانت في مكان جامد ورسمي روح الانسان لتمنحه طاقة إيجابية متفردة، وما ينطبق على خضرة الاوراق ينطبق على الصخور والجبس، الصخور التي جمعها الانسان من الطبيعة واختار لها ألوانا محددة لتزيين المكان، ولهذا فمن زين مكتب القصر الملكي لا يمكن أن يضع هذه التفاصيل بالصدفة، ناهيك عن كون المكان يرتبط بمدينة العلم والمعرفة" مدينة فاس" واختيار هذا المكتب بالضبط حمل دلالات إيجابية متعددة من المكان الى الطبيعة ومن الطبيعة إلى الانسان، ومن الانسان إلى الوطن في سياق استثنائي كما أشرنا إلى ذلك سابقا.

5/2: المستوى التشكيلي:

التأطير:

إذا اعتبرنا أن صورة الملك هي عبارة عن "بورتريه"، ولأن "البورتريه" لديه شروط "تأطيرية معينة" فإن تخلصها من هذه الشروط يفضي بنا إلى التأكد من أنها تخلصت من غاياتها البلاغية الرسمية واكتست طابعا " عفويا" والعفوية في تأطير الصور "السياسية" أو الشخصية لأي كان، عادة وليس دائما ما تدل على المحاولة لربط علاقة متينة وإيجابية بين الصورة والنظرة، أي بين العلامة البصرية وسنن التعرف المعرفية، أي أننا إذا وضعنا الصورة في مختبر "مكونات التواصل " وافترضنا أن المرسل الذي يستعمل الصورة كقناة حاملة للرسائل، مثلما يفعل المخاطب عندما يستعمل اللسان كحامل للرسائل،  يهدف إلى إيجاد "تغدية راجعة" محددة لدى المرسل إليه، الذي يتفاعل معها من خلال المشاهدة في حالة الصورة ومن خلال السمع في حالة الخطاب،  فتكسى العلامة البصرية هنا واللسانية هناك بدلالات قوية، فإن هذا الافتراض يقودنا إلى إمكانية تطبيق هذه الاستعارة المنهجية التواصلية على صورة الملك، فهي أرسلت رسالة وأدت واجبا بلاغيا وحققت تغدية راجعة سريعة قبل أن ندخلها مختبر التحليل، وفنون التواصل والتواصل السياسي تدعو إلى ذلك، وتسمي من لا يحقق هذه الغايات، فشلا تواصليا سواء تعلق الأمر بالصورة السياسية أو الخطاب السياسي أو غيرهما، ولهذا فإن تأطير الصورة خدم غاياتها "باعتبارها غاية في ذاتها" وكان المصور موفقا في تدقيق توفير التأطير المميز لمعناها ودلالاتها.

إن اجتماع الملك والطبيب والخضرة في زاوية واحدة، ووجود مساحة بين المزهرية الثانية والملك تعطي للمخيال البصري والفكري مجالا للتحليل، وتجعل من هذه المساحة موطنا للبحث عن المعنى، في حين أن المساحة الأولى تفيد ما معناه التأكيد على بناء الثقة والروح الإيجابية التي تود الصورة إبلاغها للمشاهد، كأنها تريد أن تقول لنا أن الملك والطبيب يجتمعان في هذه الزاوية تاركين الزاوية الأخرى لتجتمع فيها باقي المكونات، هذا مثلما أرها أنا، ولأن رؤيتي للصورة تختلف عن رؤيتك أنت مثلا عزيزي(تي) القارئ(ة)، فيمكن لمخيلتك أن تعطي تحليلا آخر،  ولو كان بالإمكان فسيكون الشعب وباقي المؤسسات في الزاوية الأخرى، لتجمعهم الصورة الواحدة المتفردة بذاتها لتحقيق الغاية المنشودة، وهذا وفق البناء العام للصورة والفهم العام لغاياتها الدلالية.

اللقطة:

التقط المصور لقطة نظر الملك إلى العدسة، وقيام الطبيب بواجبه وثقة الملك في الطبيب، ومساعدته على القيام بذلك، مع الاحتفاظ بارتداء الكمامة، كلها تعطينا إشارات عن قوة "  المصور هنا" في اختيار اللقطة، سأستعير هنا بعالم صناعة المحتوى، هناك مفهوم "صناعة المحتوى الملك" أي المحتوى الذي يضم تفاصيل قوية تجدب المتلقي، وقد لا ينطبق هذا على الصورة باعتبارها عالما خاصا لكن الاستعارة هنا تفيد ما يرادف أن المصور المحترف لا يلتقط 10 صور للقطة واحدة ويحتار في الاختيار بين افضلها، بل ذلك الذي يلتقط لقطة واحدة تشكل معالم أفضل صورة ممكنة، ليكون محتوى الصورة مرادفا لمفهوم " المحتوى الملك" او " المحتوى الفيروسي" الذي يتغلغل في تفاصيل الروح، والعوالم التي يمكن أن ينتشر فيها، ويصعب إيقاف أثره، لأن قوته تعطيه الجدارة لإيصال ما يجب إيصاله وما يريد إيصاله، وبالتالي فاللقطة زيادة عن كونها " لقطة ملكية مواطنة" فهي من ناحية أخرى لقطة ملكية في عالم اللقطات البصرية.

 زاوية التقاط المشهد:

بناء على ما تم ذكره في الفقرتين السابقين، فزاوية التقاط الصورة " الأمامية" كانت موفقة نظرا لتعدد الزوايا الممكنة لالتقاط هذه الصورة، فالوعي بأهمية "الزاوية" في التقاط" لقطة الصورة" يعد من اهم سنن التعرف عليها، ولهذا كانت الزاوية الأمامية موفقة جدا.

الالوان:

إن علاقة اللون بالمعنى الدلالي للصورة أو اللوحة أو المظهر في لغة الجسد مثلا، من أهم ركائز استخراج مختلف الدلالات الممكنة، فالمهندس الذي اختار اللون الابيض " للجبس" والالوان " البرتقالي والأبيض والازرق والأخضر الداكن" في "الزليج" خلف الملك، لم يخترها بالصدفة، واختيار اللون الازرق للكمامة الطبية، واللون الأسود في لباس الملك، والازرق في لباس الطبيب، ووجود اللون البني واللون الذهبي والأخضر والأحمر يعطي للمعنى الدلالي في إطار التكوين اللوني بشكل عام مرادفات نذكر من بينها:

_التناسق ، الإشراقة، الأمل، الكاريزما، القوة، الصفاء، الحب، الثقة، الرغبة، والدافعية.

 التركيب:

إذا طلبنا من أحد محترفي الفوتوشوب، قراءة هذا النص التحليلي للصورة، واعطيناه هذه المكونات وطلبنا منه تعديل صورة بهذه التفاصيل، فلن يصل إلى الدقة التي توجد في الصورة الأصل، لأن تركيبتها الأصلية تغنيها عن أي استنساخ، لكنه سيتمكن من فهم المغزى الذي نريد إيصاله، وسيعطينا عملا تقريبيا لما نريد أن نراه، وإذا طلبنا من رسام أن يقرأ نفس التحليل والقيام برسم لوحة، فالأمر سيعتمد على درجة فهمه للألوان وللأنساق الدلالية، وسيتمكن من رسم لوحة توصل لنا المغزى، لكنها ستختلف من رسام لآخر، مثلما اختلفنا حتى في نظرتنا للصورة الأصلية من شخص لآخر.

وهكذا فإن التعديل بالفوتوشوب او الرسم لن يحاكي الواقع " في صدقيته"، فقد يضع الرسام لونا مختلفا ما، وقد يؤطر اللوحة بطريقة ما تصل بنا الى فهم الفكرة لكن الصورة أقوى من حيث التعبير إذا كانت مكوناتها " التركيبية" تفضي دلاليا لمعنى ما، وستصل إلينا قوته ونخرج الصورة من صمتها لتعبر لنا عن قوتها التي تتميز بها عن مختلف أشكال التعبير الاخرى التي تظهر لنا في نهاية المطاف على شكل "صورة - لوحة"، ولهذا ساهمت المكونات التركيبية للصورة في إبراز ما توصلنا إليها من دلالات.

6)دلالات الصورة:

من خلال التحليل التفصيلي أعلاه يمكننا أن نحاول تقديم دلالات الصورة، وأي صورة لها دلالات على مستويين اثنين لا ثالث لهما:

1) المستوى المباشر : - التقريري-

بشكل مباشر فإن الصورة:

1) _ صورة للملك محمد السادس وهو يتلقى أولى جرعة للتلقيح

2)- الصورة في مكتب بسيط بالقصر الملكي بفاس

3) - الصورة تضم فقط الطبيب والملك دون حراسة او أي طرف ثالث .

4) - ارتداء الكمامة في مكتب مغلق يستحضر الجانب التحسيسي بخطورة المرض حتى أثناء التلقيح.

5) نظرة الملك في العدسة، هي بمثابة نظرة مباشرة إلى الشعب، وبدل التركيز على ما يهمه " كإنسان يتلقى التلقيح" يترك الطبيب ليقوم بواجبه ويركز مع ما يهم الشعب.

2) المستوى الغير المباشر : " الايحائي –التأويلي –

1) تزرع الثقة وتشجع الشعب على الاقدام على التلقيح بعيدا عن الرسميات .

2) تخبرنا بتقديس القيام بالواجب عند أعلى شخصية قيادية في البلاد، " الكمامة، والتلقيح" .

3) تخبرنا بدور القائد في فترة الأزمات

4) تخبرنا بتقدير المهام والتخصصات من طرف الملك.

5)تخبرنا بأهمية التعاون بين مختلف المكونات لحل الأزمات.

7) تحليل ملخص للصورة:

تحيلنا الفكرة التحليلية العامة والملخصة جدا للصورة الملكية أثناء تلقي أول جرعة من التلقيح، أننا فعلا أمام صورة بدلالات عميقة، يمكن التوصل برسالتها بشكل مباشر من طرف أي مواطن ومواطنة ودون الحاجة لمن يؤولها لهم، وهذه من أبرز معالم قوتها، وتحتاج في نفس الوقت إلى تأمل عميق للربط بين مكوناتها لإخراج ما يصل بنا فعلا إلى تلك الدلالة المباشرة التي قد تظهر مند اللحظة الأولى لرؤيتها، وبناء على ما تم التفصيل فيه، فإن هذه الصورة عبرت باختصار عن لحظة تاريخية في مسار القيادة الملكية " للملك محمد السادس" كان لا بد لها أن تلتقط، وتحتجها الصورة لتوقف عجلة الزمن عندها، ليمتد صداها لباقي الأجيال ولتعيش عمرا أطول ويحفظها التاريخ في ذاكرته الخاصة جدا في تاريخ المغرب الحديث عموما، وتاريخ مواقف وطريقة تعامل جلالة الملك محمد السادس نصره الله وأيده مع أزمة كورونا بصفة خاصة.

8 خلاصات الصورة في خمس أفكار أساسية:

قيامك بواجبك هو ما يقوي شرعيتك القيادية مهما كانت صفتك.

2) احترامك لتخصصات وواجبات الأخر وتعاونكما هو ما يمكن أن يبني الوطن.

3) زرع الثقة في قلوب المواطنين يأتي من خلال السلوك والفعل والانجاز وليس من خلال القول والخطاب السياسي فقط.

4) التخلي عن البروتوكولات ومنطق المكاتب المكيفة أثناء القيام بالواجب هو ما يجعلك جديرا بالجلوس على كراسي تلك المكاتب.

5) المصلحة العليا للوطن وللشعب هي ما يجب أن لا يختلف عليه اثنان، والملك بصفته القانونية الدستورية وسلوكياته الفعلية الانسانية هو الضامن الفعلي والساهر على حسن سير المؤسسات، مثلما ينص على ذلك الدستور والعرف على حد السواء.

 

*صحافي/متخصص في التواصل والتواصل السياسي والمؤسساتي والرقمي/ باحث في التواصل والاعلام.