خطاب العرش 2019 بين هشاشة الوساطة وعودة الدولة

*يوسف وقسو، باحث في القانون العام

يبدو المناخ العام الذي تمر به السياسة في مغرب اليوم مناسبا لانتعاش خطاباتٍ مناهضة للنخب ولآليات التمثيل وللأدوات "التقليدية" للديمقراطية، حيث تغدو الوساطة و"الوسطاء" محط سخط عام، بفعل تنامي وعي مطلبي وحقوقي ممتد للسياق الاقليمي والمغاربي.

فقد كان للسياق الإحتجاجي الذي أفرزته لحظة 20 فبراير إقناع الدوائر العليا لصناعة القرار بالمملكة، على اتخاذ تدابير استعجالية لاحتواء أية امتدادات ممكنة لهذا الحراك. إلا أن مسلسل الضغط الشعبي على دوائر الحكم والسياسة بقي مستمرا، معلنا بذلك تآكل نظرية الضبط التقليدي للفضاء العمومي وفشلها في مواكبة الطابع التراكمي الحاد لنسب الطلب الاجتماعي.

وقد سبق لباحثين مغاربة التأكيد على الارتباط القوي لتحولات الدينامية المجتمعية التي تشهدها المنطقة المغاربية والعربية، والقائمة على مناهضة مزدوجة للمؤسسة الماسكة بجوهر السلطة وللنخب المحيطة بها، بتراجع الطلب على الوساطة، ضمن إستراتجيتها في التعبئة والاحتجاج والتنظيم، كما ترتبط بطبيعة مضمونها؛ ذلك أن هذه الديناميات لا تحمل فقط طلبا اجتماعيا على إعادة التوزيع، قد يحتاج إلى بنياتٍ وسيطةٍ لإعادة معالجته، وصياغة مخرجاته؛ لكنها باتت ترتبط بالأساس بطلب واسع على الاعتراف، ما يمنح الاحتجاج والحركات الاجتماعية الواقفة وراءه بعدا هوياتيا، لا يضع في أجندته رهان البحث عن قنوات للوساطة.

ضمن نفس الأفق، يمكن كذلك استحضار التحولات غير المسبوقة لوسائط التواصل وقنوات الإعلام الجديد في علاقة بالأنماط المستجدّة لبناء القضايا ذات القدرات التعبوية الكبيرة وفي الولوج السهل، غير المشروط بالقنوات الوسيطة، إلى المجال العمومي.

أمام كل هذا الزخم الممتد من التفاعلات بين الدولة والمجتمع، وجدت الحزبية المغربية نفسها عاجزة عن تقديم النموذج الملائم للمغاربة، خصوصا مع تنامي فكرة مركزية لدى غالبية الجماهير مفادها كون ممارسة المواطنة ومساءلة السياسات لا يستدعي بالضرورة المرور الحتمي عبر الوساطات الحزبية. الأمر الذي ستكون له تكلفة باهضة على حركية السلوك الانتخابي المقبل، حيث سيكون المواطن على موعد مع أحزاب بدون مغزى.

ناهيك عن أن التراجعات المسجلة على مستوى بنيات التمثيل بالمغرب، أحدثت ارتباكا واضحا للمشهد السياسي، حيث سيعرف النقاش داخل الصالونات الحزبية؛ فوضي تنظيمية تتجه نحو بناء اصطفافات فاقدة لأية محددات برنامجية واستراتيجية واضحة.

إن المؤكد اليوم، من خلال تتبع بنية صناعة القرار داخل غالبية الاحزاب، هو الإنتباه الى حجم المحاولات اليائسة لتسويق مشروعية نخب تستحوذ على ثنائية الامر والنهي، وتجنّد نفسها للحيلولة دون بروز أية افكار وخطابات مضادة، عبر الاستثمار الاعلامي لخطاب يبدو في ظاهره انتقاليا لكنه في

الغالب بدون حمولة ديمقراطية، ولا يكترث لحجم المكتسبات الحقوقية والدستورية ولا يراعي راهن الأولويات التنموية العالقة.

نفس الخلاصات السابقة، سوف يؤكدها الخطاب الملكي بمناسبة عيد العرش لهذه السنة، عبر تكثيفه لمرجعيات التعاقد بين الملكية والمجتمع، واستدعائه لعناوين مركزية لتعبئة المجتمع لولوج المستقبل باطمئنان وبمفاتيح إصلاحية، في تقزيم لهامش مساهمة هيشات الوساطة، والتأشير على العودة القوية للملكية التنفيذية. وهو الأمر الذي سيزكيه التصريح الذي قدمه المستشار الملكي الأستاذ عبد اللطيف المنوني لوكالة فرانس بريس بمناسبة تقييم 20 سنة من حكم العاهل المغربي، فيما يبدو تلميحا للنخب الحزبية الراهنة، عندما اعتبر بكون دستور 2011 "يتيح للأحزاب السياسية إمكانيات أكبر لتفرض نفسها مقارنة مع الماضي، لكن التطور المنتظر على هذا الصعيد لم يتحقق بعد في الواقع"، كما أشار في معرض حديثه حول إمكانية تصور ملكية برلمانية بالمغرب على غرار نظيراتها الأوربية، "على أنه يفترض اننا على طريق ملكية برلمانية (...) لكن بطبيعة الحال (يضيف المنوني) ما تزال ثمة ربما بعض المقتضيات التي يلزم تجويدها".