حسن طارق: ما وراء ملتمس الرقابة.... في اسبانيا ؟

رهانات وتفاصيل ووقائع كثيرة في حدث سحب الثقة من الحكومة الإسبانية المحافظة لماريانو راخوي، تغذيها سياقات محلية وأوروبية مليئة بالتحول وغياب اليقين، حيث دخلت الحزبية الأوروبية في حقبة جديدة، تختلف جذرياً عن مراحلها السابقة، في وقتٍ تتصاعد فيه أصوات اليمين الشعبوي ومطالب الانفصال والتطرّف القومي.
لكن في عمق الحدث، يكمن المهم كذلك، إذ ثمّة نظام مؤسساتي مبنيٌّ على فكرةٍ مركزيةٍ ليست سوى المسؤولية. حيث الديمقراطية في النظام البرلماني الإسباني تعني بالأساس اشتغال السلطة التنفيذية تحت رقابة البرلمان، وهو ما يجعل ممارسة هذه السلطة محكومةً بمنطق المسؤولية السياسية أمام ممثلي الإرادة الشعبية.
ينطلق تمرين المسؤولية من لحظةٍ تأسيسيةٍ هي منح مجلس النواب ثقته للبرنامج السياسي للحكومة المراد تشكيلها من رئيس الحكومة المقترح من الملك، بعد إجراء مشاوراتٍ مسبقةٍ مع ممثلي الأحزاب الحاضرة في البرلمان، عقب انتخاباتٍ جديدةٍ لمجلس النواب.
إذ يحتاج الرئيس المقترح لتصويت الأغلبية المطلقة من أعضاء مجلس النواب، لكي يعيّنه الملك رئيساً للحكومة، وإذا لم يحصل على النسبة المطلوبة من أصوات النواب، يتم التصويت من جديد بعد ثمانٍ وأربعين ساعة، حيث تعتبر آنذاك الثقة ممنوحةً للمرشح، بمجرد حصوله على أغلبية نسبية هذه المرة.
وفي حالة الفشل في الحصول على الثقة خلال التصويتين، يقترح الملك من جديد مرشحاً آخر، ليخضع للمسطرة نفسها، على أن لا يتجاوز الأمر آجل شهرين، ابتداء من أول تصويت، إذ حينها سيكون على الملك حل البرلمان بمجلسيه، والدعوة إلى انتخابات جديدة بموافقة رئيس مجلس النواب.
بعد حدث التنصيب البرلماني، باعتباره محطة لتجسيد انبثاق الحكومة من الأغلبية النيابية، ولربط الفعل العمومي بسلطة صناديق الاقتراع، تبقى هناك إمكانيتان لإثارة مسؤولية الحكومة أمام البرلمان. تتعلق الأولى بإرادة رئيس الحكومة نفسه الذي يمكنه، بعد تداول مسبق في مجلس الوزراء أن يثير تلقائياً مسألة الثقة لبرنامجه أو للموافقة على عرض السياسة العامة، وتعتبر هنا الثقة ممنوحةً بتصويت الأغلبية النسبية للنواب.
الإمكانية الثانية، والتي تم اللجوء إليها الأسبوع الماضي، تتمثل في إثارة المسؤولية من مجلس النواب، عن طريق تصويت الأغلبية على طلب سحب الثقة من الحكومة. وهو الطلب الذي يشترط فيه أن يتضمن عُشر النواب على الأقل، وأن يشير إلى اسم المرشح لرئاسة الحكومة.
وتعتبر هذه المرة الأولى التي ينجح فيها النواب في سحب الثقة من الحكومة، منذ بداية عهد الانتقال الديمقراطي، وتطبيق دستور 1978، إذ على الرغم من أنه تم تسجيل ثلاث محاولات لإسقاط الحكومة عبر التصويت بسحب الثقة في أعوام 1980و1987 و2017، فإن أياً منها لم يكتب له النجاح.
في الفلسفة البرلمانية للحكم، حيث المؤسسة التشريعية توجد في قلب النظام السياسي، فإن الحكومة بقدر ما تتوفر على سلطات وصلاحيات بقدر ما تبقى مراقبة ومحاسبة من البرلمان. لا تزاول مهامها إلا بعد تنصيبها البرلماني، عبر تصويتٍ بالثقة هو تجسيد لتعاقد سياسي بين الأغلبية والحكومة على أرضية برنامجية واضحة. وطوال ولايتها، تظل تحت رقابة ممثلي الناخبين. رقابة تنطلق بأدوات عديدة، كالسؤال وعمل اللجان والاستطلاع والاستجواب، وقد تصل، في أبعادها التصعيدية، إلى إثارة المسؤولية عبر طرح ملتمس الرقابة قد يترتب عليه سحب الثقة منها.
في التجربة الإسبانية، وهي بالتأكيد من أهم الأنظمة السياسية والدستورية البرلمانية، ظلت طبيعة المشهد الحزبي تلطف من إمكانات اللجوء إلى هذه التقنية الدستورية الحاسمة، ذلك أن هيكلة حياة حزبية تتمحور حول ثنائية حزبية تقليدية (يسار/يمين)، مجسدة في الحزب الشعبي والحزب الاشتراكي العمالي، كانت تجعل من الصعوبة بمكان تفعيل مسطرة سحب الثقة، ما دام الحزب الحاكم قادراً على تدبير أغلبيته النيابية.
الثنائية الحزبية التي تنتج استقراراً حكومياً مبنياً على تداول حول السلطة بين الحزبين الكبيرين أصبحت اليوم جزءاً من الماضي الانتخابي الإسباني، إذ منذ خمس سنوات أصبحت الخريطة الحزبية أكثر انشطاراً وتشتتاً. ولم تعد القوى التقليدية التي طبعت الحياة السياسية لمرحلة ما بعد الانتقال الديمقراطي مهيمنةً وحدها على مخرجات العملية السياسية.
لذلك، إذا كان يصح القول، من الناحية الدستورية، إن تفعيل الآلية القصوى لإثارة المسؤولية السياسية الحكومة أمام البرلمان دليل على الحيوية الديمقراطية، وعلى فعالية المؤسسات ويقظتها، وهو تعبير على الروح البرلمانية التي تسكن النظام السياسي الإسباني، فإنه يصحّ، بالقدر نفسه من الاطمئنان، القول، من الناحية السياسية، إن نجاح تمرين سحب الثقة من الحكومة، هو كذلك مؤشر على تزايد منسوب عدم الاستقرار الحكومي، الناتج مبدئياً عن تشتت الخريطة الانتخابية، وعجز صناديق الاقتراع على فرز أغلبية واضحة ومنسجمة. ذلك أن الحزبية الإسبانية، على صورة الحزبية الأوروبية الجديدة، قد أصبحت تقترب أكثر فأكثر من منطقة الهشاشة، مبتعدة عن دائرة إنتاج المعنى الذي ظل يصنعه تقاطب المشاريع الاقتصادية والاجتماعية، وأسيرة لمنطق الخطابات الشعبوية والتضخم الهوياتي وعودة النزعات القومية المتطرّفة وتصاعد مطالب الانفصال.


شاهد أيضا

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.