شكل الخطاب الملكي في افتتاح الدورة الخريفية للبرلمان مادة لعدد من المقاربات والقراءات كونه شكل الحدث السياسي البارز نهاية الأسبوع .
لكن هناك مقاربة -أعتقد- أنها لم تحضر في هذه المقاربات والقراءات للخطاب الملكي تتمثل في كون هذا الخطاب شكل في نفس الوقت درسا بيداغوجيا في منهجية التدبير والحكامة.
وهي فكرة محورية في الخطاب الملكي، لها أهميتها القصوى في مجال رصد وتقييم فعالية السياسات العمومية،ومنهجية الإشتغال عليها، فكرة نادرا ما يتم الإهتمام بها في ثقافتنا السياسية.
وقد ركز صاحب الجلالة في خطابه أمام البرلمان الجمعة الماضي على هذه الفكرة قائلا: ‘’فالتحول الكبير الذي نسعى إلى تحقيقه على مستوى التنمية الترابية، يقتضي تغييراً ملموساً في العقليات وفي طرق العمل، وترسيخاً حقيقياً لثقافة النتائج، بناءً على معطيات ميدانية دقيقة، واستثماراً أمثل للتكنولوجيا الرقمية.
ولذلك، ننتظر وتيرة أسرع وأثراً أقوى من الجيل الجديد من برامج التنمية الترابية، التي وجهنا الحكومة إلى إعدادها، وذلك في إطار علاقة رابح – رابح بين المجالات الحضرية والقروية’’
الجملة الواردة في الخطاب الملكي لها دلالات عميقة لكونها تلخص مكامن الأعطاب والاختلالات التي يعاني منها تدبير وحكامة السياسات العمومية بالمغرب منذ سنوات ،وهي قضايا ترتبط بجمود العقليات وضعف طرق العمل وعدم التسلح بثقافة النتائج المبنية على الأبحاث والدراسات الميدانية والعلمية مع تغييب الاستثمار في الثورة التكنولوجية.
انه البعد القيمي والإصلاحي في الخطاب الملكي الذي يتجاوز البعد التقني للإصلاح، ليحمل بعداً قيمياً وأخلاقياً عميقاً.
وسنحاول في هذا المقال الوقوف عند هذه الأسس كما جاءت في الخطاب الملكي.
- أبعاد دعوة الخطاب الملكي تغيير العقليات:
يعد تغيير العقليات في مجالات تحقيق التنمية إحدى الشروط الأساسية في تدبير وحكامة السياسات العمومية.وهي مسألة تلخص جوهر اختلالات وأعطاب الحكومات المتعاقبة في تحقيق العدالة الاجتماعية والتنموية والتنمية الترابية منذ سنوات بالمغرب،
وربط صاحب الجلالة تحقيق التنمية الترابية بتغيير ملموس في العقليات ،هو عين العقل لكون نظرية تغيير العقليات هي أساس نظرية التغيير، أو بالإنجليزية” Theory of Change ”،وهي مقاربة محورية لتحقيق التنمية المستدامة كونها ترتبط بفهم وتصور كيفية تحقيق أثر التنمية وقياسه ومتابعته،لذلك تعد هذه النظرية إحدى الآليات الهامة لأي مؤسسة تهدف تحقيق اهداف ملموسة بآثارها على أرض الواقع، وهي أيضًا طريقة يعتمد عليها لتنفيذ المشاريع والبرامج وقياس الأثر الذي حققته.
تتميز نظرية تغيير العقليات كونها تتعامل بشكل أكبر مع الواقع وتُظهر بوضوح العقبات والمتطلبات التي ستواجه أثر المشاريع التنموية على عيش المواطن مباشرة ، كما تتميز أيضًا بالبدء بالأثر المرجو تحقيقه أو الهدف النهائي وتنتقل منه إلى شروط أو متطلبات حدوث هذا الأثر، بحيث تتسلل الأسباب المنطقية وصولا إلى البرامج والانشطة ومن ثم الموارد والمدخلات.
لهذا تعتبر نظرية تغيير العقليات أداة فعّالة لتحقيق الأثر الاجتماعي والاقتصادي على أرض الواقع ، لذى يجب على كل مسؤول اعتماد هذه النظرية من مرحلة التصميم اثناء وضع المشاريع التنموية الى انزالها علئ الواقع،لتقييم مدى أثرها على الواقع المعيش للمواطن .
وما دعوة الخطاب الملكي تغيير العقليات الا مقاربة محورية في التدبير والحكامة بهدف ترسيخ ثقافة النتائج وإعادة بناء منهجية العمل العمومي. لذلك ، اسس الخطاب الملكي لما يمكن تسميته بـ”إصلاح الإنسان قبل النظام”، إذ تعتبر إعادة تأهيل الذهنيات شرطاً ضرورياً لتحقيق أي تحول تنموي مستدام.
- اهداف تغيير طرق العمل في الخطاب الملكي
تعد عملية التغيير في طرق العمل واحدة من المهارات الأساسية التي تفرض على أدوات عمل الفاعلين ومنهجية المؤسسات ، لتبقى طرق العمل متسمة في بيئة العمل بالديناميكية والحركية والتأقلم ، وفق التطلعات والتحديات التي يفرضها سوق الشغل ومتطباته.
إذ تساعد المؤسسات والفاعلين على التكيف مع التغيرات السريعة في السوق وما يعرفه من تنافسية وتطورات في عالم والتكنولوجيا واحتياجات المواطنين.
لذلك يشير تغيير طرق العمل إلى العملية التي من خلالها يتم إدخال تغييرات معينة على هيكل أو استراتيجية منظمة،وقد تشمل هذه التغييرات إدخال تكنولوجيا جديدة، تحسينات في العمليات، أو إعادة تنظيم هيكل العمل وفق متطلبات الشغل، وحاجيات المواطنين . والهدف من تغييرها هو تحقيق نتائج إيجابية ومستدامة تتماشى مع الأهداف الاستراتيجية للمؤسسة.
وعليه ،فتغيير طرق العمل ليست مجرد إجراء تقني، بل هي عملية فكرية تتطلب قياده فعالة وتواصل مستدام ومؤسساتي.
ومن أهم ما يميز تغيير طرق العمل سرعة التكيف مع المتغيرات الاجتماعية والاقتصادية والتكنولوجية التي يعرفها العالم، وتطلعات الشعوب وحسن الاداء وتحقيق الاهداف الاستراتيجية
- أبعاد ترسيخ ثقافة النتائج في الخطاب الملكي
ترسيخ ثقافة النتائج هو مفهوم مؤسساتي هدفه تغيير العقليات وأساليب العمل من خلال التركيز على المخرجات الملموسة والمسؤولية المباشرة عن الأداء.
ويتحقق ذلك بالاعتماد على جمع بيانات دقيقة، واستخدام التكنولوجيا الرقمية، وتقييم الأداء بناءً على الإنجازات الفعلية بدلًا من مجرد العمليات أو النوايا،كما يتضمن أيضًا توجيه الجهود نحو تحقيق أهداف محددة وتنسيق العمل بين جميع الأطراف المعنية.
ومن اهم مميزات ترسيخ ثقافة النتائج انها تركز على الانجاز بدلًا من الاهتمام بـ”كيفية” العمل، ويتم التركيز على “ماذا تم تحقيقه” أو “ما هي النتائج”،كما يتضمن ترسيخ ثقافة النتائج تحميل الفاعلين والمؤسسات مسؤولية النتائج التي يحققونها.
يتبين اذن من تحليل الخطاب الملكي من الزوايا الثلاث السالفة الذكر، انه شكل درسا بيداغوجيا على مستويات الأفكار والعقليات و المناهج والمقاربات واعتماد ثقافة النتائج، انه خطاب ثوري يدعو المسؤولين والمؤسسات بالمغرب القيام بقطيعة علئ مستويات العقليات والمقاربات والثقافات السائدة عند تصميم وتنفيذ برامجهم ومشاريعهم التنموية.
انه دعوة من جلالة الملك محمد السادس للحكومة وللبرلمان وللاحزاب لتغيير العقليات وترسيخ ثقافة النتائج وتجديد طرق العمل انها محطة مركزية في مسار تحديث الدولة المغربية وتعزيز فعاليتها المؤسساتية.
،عليه، فمن خلال هذه التوجيهات، يضع الملك أسس رؤية استراتيجية تهدف إلى تجاوز اختلالات التدبير العمومي، وإرساء نموذج جديد قائم على المردودية، والمساءلة، والابتكار الإداري.
إنّ الدعوة إلى تغيير العقليات ليست شعاراً إصلاحياً عابراً، بل هي تعبير عن وعي ملكي بعمق الأزمة الثقافية والسلوكية التي تعوق نجاعة العمل العمومي، وتحد من أثر السياسات العمومية على التنمية الملموسة..
والمطلوب اليوم هو الانتقال من عقلية التسيير البيروقراطي التقليدي إلى عقلية التدبير الاستراتيجي المبني على النتائج.وهذا التحول المفاهيمي يقتضي إعادة بناء المنظومة القيمية التي تحكم الممارسة الإدارية والسياسية، بحيث تصبح الكفاءة، والنزاهة، والمردودية، والابتكار هي المعايير المحددة للنجاح والقيادة.
،اخيرا نقول ،إنّ دعوة الملك محمد السادس إلى تغيير العقليات، وترسيخ ثقافة النتائج، وتجديد طرق العمل تمثل تحولا مفصلياً في التفكير الاستراتيجي للدولة المغربية.
فهي ليست مجرد توجيهات ظرفية، بل خارطة طريق لإعادة بناء علاقة جديدة بين المواطن والإدارة، قائمة على الفعالية والمحاسبة والمردودية.
وبذلك، يفتح الخطاب الملكي أفقاً لإصلاح هيكلي عميق يهدف إلى إرساء دولة حديثة بموارد بشرية مؤهلة، وإدارة قائمة على النجاعة، ومجتمع يؤمن بالمسؤولية الجماعية في خدمة التنمية.الخطاب انه درس بيداغوجي في منهجية التدبير والحكامة ما أحوج مغرب اليوم اليه.