منذ ما يزيد عن عقد ونصف، لا يكاد يخلو خطاب ملكي من إشارة مباشرة أو غير مباشرة إلى الجزائر، ليس من باب الخلاف، بل من باب الدعوة المتكررة لفتح صفحة جديدة عنوانها الحوار، والانفتاح، والتكامل المغاربي.
فكل مناسبة وطنية أو خطاب ملكي سامٍ تحوّل مع مرور السنوات إلى فرصة لتجديد نداء طال انتظاره: “فتح الحدود بين المغرب والجزائر”.
يد ممدودة بـ”استمرار”
ففي مشهد سياسي نادر في العالم العربي، لم يتردد الملك محمد السادس منذ سنة 2008 في مد يده إلى الجارة الشرقية، مُؤكداً أن لا شيء يبرر استمرار القطيعة، ولا منطق سياسي أو أخلاقي يمكنه أن يدافع عن إغلاق حدود بين شعبين تجمعهما أواصر الدم والتاريخ والدين والجغرافيا، وبهذا المسار الثابت، راكمت المؤسسة الملكية المغربية خطاباً متسلسلاً، حاملاً لذات الدعوة، بل وموثقاً لمواقف منسجمة لا تتغير بتغير الظرفيات أو الرؤساء في الضفة الأخرى.
لقد كان خطاب العرش لسنة 2021 بمثابة لحظة مفصلية، أعاد فيها الملك محمد السادس التأكيد بأن قرار إغلاق الحدود لم يكن قراراً مغربياً، وأن لا الرئيس الجزائري الحالي ولا السابق ولا حتى هو نفسه، مسؤولون عن اتخاذه، لكن –وهنا بيت القصيد– هم مسؤولون عن استمراره. وبهذا الطرح، يدعو العاهل المغربي إلى تجاوز منطق الاتهام والشك، نحو أفق مشترك من التعاون والمصارحة، بعيداً عن الحسابات الضيقة والمعارك الإعلامية العقيمة.
وفي كل منعطف إقليمي، كان خطاب العاهل المغربي يتعالى فوق الخلاف، مركزاً على ما يجمع لا ما يفرق. ففي برقية التهنئة التي بعث بها للرئيس عبد المجيد تبون سنة 2019، استخدم الملك عبارة “أجدد دعوتي”، دلالة واضحة على أن اليد الممدودة ليست موقفاً ظرفياً ولا مجرد ردة فعل، بل قناعة راسخة وسياسة دولة.
وقد تكررت هذه الدعوة في خطابات أخرى، من أبرزها خطاب المسيرة الخضراء لعام 2018، وخطاب طنجة سنة 2011، ثم خطاب فاس سنة 2008، وكلها رسائل تؤسس لمسار دبلوماسي طويل الأمد، يراهن على المستقبل المشترك بدل اجترار ماضٍ مليء بالعثرات.
ما يلفت في هذه الخطابات، أنها لم تكن يوماً موجهة ضد الجزائر، بل كانت موجهة إلى الجزائر، بلغة الوضوح والاحترام والدعوة إلى العقل.
فالملك لم يبحث عن وسطاء، ولم يلجأ إلى التصعيد، بل أكد في أكثر من مناسبة أن لا حاجة لطرف ثالث بين المغرب والجزائر.
هذا الإصرار الهادئ يعكس فلسفة مغربية ترى في الاتحاد المغاربي ضرورة وجودية لا مجرد خيار سياسي.
صمت أو ردود باهتة
غير أن هذه اليد الممدودة لطالما قوبلت بجدار من الصمت أو أحياناً بردود باهتة، في وقت تتضاعف فيه التحديات الأمنية والاقتصادية والبيئية التي تواجه المنطقة المغاربية ككل.
وقد عبّر الملك محمد السادس، في خطاب عيد العرش لسنة 2025، عن أسفه لاستمرار هذا الوضع غير المفهوم، مُذكّراً أن الأسباب التي فُرضت باسمها سياسة الإغلاق أصبحت متجاوزة، ولم يعد لها اليوم أي مبرر منطقي.
بهذا الثبات في الموقف، يُسجل المغرب على لسان ملكه، موقفاً أخلاقياً وتاريخياً، أمام الله والتاريخ والشعوب المغاربية. فالمغرب لم يكتف بالدعوة إلى الوحدة، بل جسّدها خطاباً وسلوكاً سياسياً ناضجاً، على أمل أن يلتقط جيراننا في الجزائر، يوماً ما، هذه الإشارات المليئة بحسن النية، والمرتكزة على مصلحة الشعوب، لا على حسابات الأنظمة.
من بين اللحظات التي تُخلّد في ذاكرة السياسة المغاربية، تلك التي خرج فيها الملك محمد السادس، بخطاب العرش الأخير، ليرسم من جديد ملامح طريق اختار أن يسلكه بإصرار: طريق اليد الممدودة إلى الجارة الجزائر.
لم يكن الخطاب، كما جرت العادة في كثير من المواقف الرسمية، مجرد سرد دبلوماسي لنوايا حسنة، بل كان شهادة سياسية موثقة على قناعة راسخة، تحمل من النبل الأخلاقي بقدر ما تحمل من النضج السيادي والرؤية الاستراتيجية البعيدة المدى.
في هذا السياق، تعيد المؤسسة الملكية المغربية، بقيادة جلالة الملك، التأكيد على ما أضحى اليوم ثابتاً من ثوابت السياسة الخارجية المغربية: لا مستقبل لمنطقة شمال إفريقيا دون تصالح مغربي-جزائري، ولا وحدة مغاربية دون انخراط صادق من العاصمتين الجارتين، الرباط والجزائر، خطاب يرقى في مضامينه إلى ما هو أبعد من العلاقات الثنائية، ليلامس روح المشروع المغاربي المشترك الذي ظل، لعقود، حبيس التوترات والانتظارات.
لحظة فارقة من الزمن السياسي
وقد اعتبر وليد كبير، المعارض الجزائري البارز، في تصريح خصّ به موقع “بلبريس“، أن خطاب العرش لهذه السنة يُعد “لحظة فارقة من الزمن السياسي والدبلوماسي لمنطقة شمال إفريقيا”، مشيراً إلى أن جلالة الملك أطلّ على شعبه وعلى شعوب الجوار “بكلمة اتسمت بعمق الرؤية وسمو المعاني”، مؤكداً أن الخطاب “تجاوز الأطر التقليدية في مخاطبة الشعوب، ليُرسخ من جديد مكانته كقائد استثنائي يُقدم نموذجاً نادراً في الرصانة السياسية والنبل الأخلاقي”.
واستناداً إلى نفس التصريح، يرى كبير أن الجزائريين تابعوا، مثل أشقائهم المغاربة، تفاصيل هذا الخطاب بكثير من الانتباه والاهتمام، خاصة في شقه المتعلق بالعلاقة بين البلدين. ولفت إلى أن جلالة الملك لم يتوجه فقط إلى النظام الجزائري، بل اختار أن يخاطب الشعب الجزائري مباشرة، بلغة صادقة وإنسانية راقية، قائلاً إن ذلك “يحمل دلالة لا تخفى على المتابعين”، ويعكس حرصا ملكياً على التمييز بين الشعوب والأنظمة.
وأضاف كبير أن “اليد الممدودة ليست مجرد موقف، بل خيار استراتيجي”، مشيراً إلى أن الخطاب الملكي لم يأتِ من فراغ، بل هو امتداد لنهج سياسي دأب عليه جلالة الملك منذ سنوات، منوهاً بالعبارة التي وردت في الخطاب: “حرصت دوما على مد اليد لأشقائنا في الجزائر، وعبرت عن استعداد المغرب لحوار صريح ومسؤول”، والتي اعتبرها كبير “تلخص فلسفة كاملة في ممارسة السياسة، تقوم على تغليب العقل والهدوء والاحترام المتبادل”.
وأكد الإعلامي والناشط السياسي الجزائري أن ما عبّر عنه الملك محمد السادس ليس ضعفاً أو تراجعاً، بل “قوة تنبع من وعي عميق وثقة في النفس، ومن إدراك بأن وحدة شعوب المنطقة لم تعد ترفاً سياسياً بل ضرورة جيوسياسية واستراتيجية”، في ظل عالم يعيد رسم خرائطه وتحالفاته.
وفي تفاعله مع الشق المتعلق بالصحراء المغربية، أوضح وليد كبير أن الخطاب الملكي حافظ على التوازن والرصانة، مبرزاً أن دعوة جلالة الملك إلى حل سياسي واقعي “لا غالب فيه ولا مغلوب” تعكس وعياً استراتيجياً، وتُبقي الباب مفتوحاً أمام منطق الحلول التوافقية التي تراعي مصالح الجميع.
وفي ختام تصريحه، شدد كبير على أن “المغرب بقيادة جلالة الملك يمد اليد مرة بعد مرة، ولا يمكن لصوت العقل في الجزائر أن يظل صامتاً إلى الأبد أمام نداء الأخوة والمصير المشترك”، مضيفاً أن التاريخ سينصف يوماً “القادة الذين آمنوا بأن العلاقات بين الشعوب لا يجب أن تُصاغ في غرف الأزمات، بل في قلوب الشرفاء الذين يترفعون عن الضغائن ويكتبون فصولاً جديدة من البناء المشترك”.
في لحظة مفصلية من تاريخ الجوار المغاربي، تلاقى فيها صوت الملك مع صدى الشرفاء في الضفة الشرقية، عَبّر المعارض الجزائري وليد كبير عن إشادته العميقة بخطاب العرش، واصفاً إياه بأنه لحظة فارقة في الزمن السياسي والدبلوماسي لمنطقة شمال إفريقيا.
التزام المغرب باليد الممدودة
من هذا التقدير النابع من معارض جزائري بارز، إلى موقف مماثل من داخل المؤسسة التشريعية المغربية، تتعزز صورة الخطاب الملكي كمرجعية سياسية جامعة، تجد صداها لدى مختلف الفاعلين، من معارضين في الجزائر إلى برلمانيين مغاربة، ينتمون إلى مشارب ومسؤوليات متعددة.
في هذا السياق، قال المستشار البرلماني وعضو مجلس أمناء المنظمة العربية للتربية خالد السطي، في تفاعله مع الخطاب الملكي، إن الملك “جدّد مرة أخرى تأكيد التزام المغرب بسياسة اليد الممدودة تجاه الجزائر”، معتبراً أن ما جاء في خطاب العرش “قرار حكيم يجسد رؤية ملكية راسخة تؤمن بوحدة الشعوب المغاربية، وبأهمية الحوار والتفاهم لحل الخلافات”.
وأضاف السطي أن هذا التوجه المتكرر في الخطب الملكية يعكس اتساقاً واضحاً في السياسة المغربية، وحرصاً على تغليب منطق الحكمة والعقل على منطق الاصطفاف والتصعيد، مشيراً إلى أن دعوة الملك محمد السادس الأخيرة ليست مجرد إعلان نوايا، بل دعوة صادقة لبناء مستقبل مغاربي مشترك، يقوم على أسس الاحترام المتبادل والتكامل الإقليمي.
وتابع عضو مجلس أمناء المنظمة العربية للتربية حديثه بالقول إن ما عبّر عنه جلالة الملك هو “نداء نبيل يستدعي من القيادة الجزائرية التفاعل الإيجابي لما فيه مصلحة الشعبين الشقيقين، وخدمة للاستقرار والتنمية في المنطقة”، مضيفاً أن المغرب، وهو يفتح قلبه وعقله من جديد، يُراكم المصداقية والشرعية الأخلاقية والسياسية، في وقت تختار فيه أطراف أخرى نهج القطيعة والتجاهل.
بهذه المواقف المتناغمة، يبدو أن خطاب العرش لهذه السنة لم يكن فقط لحظة خطابية عابرة، بل لحظة سياسية عميقة، تتسع لتشمل قناعة مشتركة لدى الفاعلين العقلاء في الجانبين، بأن تجاوز الخلافات لم يعد فقط ضرورة أخلاقية، بل أيضاً شرطاً استراتيجياً لبناء توازن إقليمي واعد، في مواجهة تحديات لا تعترف بالحدود، ولا تنتظر المواقف المتأخرة.
وفي سياق مشحون بالتوترات الإقليمية وجمود العلاقات الثنائية بين المغرب والجزائر، يواصل الخطاب الملكي ترسيخ سياسة متّسقة قائمة على الانفتاح والحوار.
وقد لاقى خطاب العرش الأخير تفاعلاً قوياً، ليس فقط داخل المغرب، ولكن أيضاً لدى عدد من الشخصيات الجزائرية المعارضة التي رأت فيه رسالة شجاعة وعاقلة، كما عبّر عن ذلك وليد الكبير.
ليست مناورة ديبلوماسية ظرفية
ومن الضفة المغربية، لم يكن التفاعل أقل قوة، فقد عبّر المستشار البرلماني خالد السطي عن ترحيبه بما اعتبره قراراً ملكياً حكيماً يجسد رؤية استراتيجية عميقة، قائلاً إن الخطاب “دعوة صادقة لبناء مستقبل مشترك يقوم على الاحترام المتبادل والتكامل الإقليمي”، داعياً القيادة الجزائرية إلى التجاوب مع هذه المبادرة النبيلة خدمة للاستقرار والتنمية في المنطقة.

ولم يقف صدى الخطاب عند حدود السياسة، بل امتد ليحظى باهتمام الفاعلين الأكاديميين، ممن يرصدون التحولات في خطاب الدولة المغربية تجاه محيطها الجهوي.
وفي هذا الإطار، يرى مراد غالي، أستاذ العلاقات الدولية بالجامعة الدولية بأكادير، أن التأكيد المتجدد في خطاب العرش على سياسة “اليد الممدودة” لا يمكن اختزاله في كونه مجرد مناورة دبلوماسية ظرفية، بل هو “تجسيد لثابت من ثوابت السياسة الخارجية المغربية التي أرساها الملك محمد السادس، والمبنية على رؤية استراتيجية طويلة الأمد”، كما قال.
وأضاف غالي أن هذه الدعوة المستمرة لتجاوز القطيعة بين المغرب والجزائر تعبّر عن وعي عميق بـ”حتمية الجغرافيا وعمق الروابط التاريخية والإنسانية بين الشعبين الشقيقين”، مشيراً إلى أن سياسة اليد الممدودة “ليست فقط دعوة للمصالحة السياسية، بل نداء براغماتي لبناء مستقبل مشترك أكثر ازدهاراً وأمناً”، في منطقة تعاني من التحديات المركبة، الاقتصادية والأمنية على حد سواء.
وتابع أستاذ العلاقات الدولية قائلاً إن استمرار القطيعة بين البلدين “لا يحرم فقط شعوب المنطقة من فرص اقتصادية تقدر بمليارات الدولارات، بل يضعف أيضاً القدرة الجماعية على مواجهة التهديدات العابرة للحدود، من إرهاب وهجرة غير نظامية وجريمة منظمة”، مشدداً على أن الخطاب الملكي، بما يحمله من رسائل واضحة، يمثل قاعدة سياسية وأخلاقية يُمكن أن تُبنى عليها علاقات مستقبلية حين تنضج الظروف السياسية في الجزائر.
واعتبر غالي أن رفض القيادة الجزائرية المستمر لهذه المبادرات، واشتراطها ربط أي تقارب بملف الصحراء المغربية، لا يقلل من قيمة المبادرة المغربية، بل يزيدها رسوخاً، إذ تُظهر للمجتمع الدولي أن الرباط لا تضع العراقيل أمام أي تطبيع محتمل، بل تنطلق من قناعة صلبة بأن المصالح المشتركة ومستقبل الشعوب المغاربية تفرض تجاوز الخلافات، لا تأبيدها.
ضرورة إعادة العلاقات المغربية الجزائرية
وخرج الوزير السابق نور الدين بوكروح، أحد أبرز الوجوه الفكرية والسياسية في البلاد، بتدوينة نادرة من حيث جرأتها وتحليلها النقدي، عبّر فيها عن قلقه العميق من المسار الذي تتخذه الدولة الجزائرية في تعاطيها مع ملف الصحراء المغربية.
ولم يكتف بوكروح بمجرد الإشارة إلى الانعكاسات الدبلوماسية السلبية، بل وصف الوضع بـ”الكارثي”، معتبراً أن الجزائر توجد اليوم في “أسوأ موقع ممكن”، محاطة بعزلة إقليمية ودولية خانقة، في ظل هشاشة داخلية، وغياب أي خطة بديلة تحفظ ماء الوجه، أو تخفف من وطأة التقهقر الذي يشهده موقفها في هذا النزاع الإقليمي.
وبنبرة لا تخلو من التوبيخ السياسي، أشار رئيس حزب التجديد الجزائري إلى أن الزيارة الأخيرة للمبعوث الأمريكي الخاص، مسعود بولس، لم تُطمئن الجزائريين كما كانت تأمل السلطة، بل على العكس، زادت من حدة الشعور بالحصار، ووصف المشهد الإقليمي بأنه “حفرة أسود محاطة بوحوش ضارية لا رحمة فيها”، في تعبير رمزي مكثف عن الضيق الاستراتيجي الذي تعيشه الجزائر، نتيجة تراكمات من السياسات المغلقة والتقديرات الخاطئة في قراءة موازين القوى المتغيرة في المنطقة.
كما قدّم بوكروح تشخيصاً اقتصادياً حاداً لتكلفة الانخراط الطويل في دعم جبهة البوليساريو، معترفاً بأن الجزائر أنفقت ما لا يقل عن خمسين مليار دولار خلال خمسين سنة، على ما وصفه بـ”القضية الخاسرة”.
هذا الاعتراف العلني، من شخصية ذات تجربة حكومية، يعكس إدراكاً داخلياً متنامياً بأن الرهان على هذا الملف لم يعد يجلب للجزائر سوى العزلة والنزيف المالي، دون أن يفضي إلى أي مكاسب سياسية ملموسة، بل على العكس، يُضعف موقع الجزائر التفاوضي ويفاقم من عزلتها حتى داخل فضائها العربي والإفريقي.
وفي تحليله للفارق بين الدعم الذي تتلقاه القضيتان الفلسطينية والصحراوية، أشار بوكروح إلى أن الجزائر راهنت على القضيتين معاً، غير أن النتائج جاءت متباينة؛ فبينما نالت فلسطين دعماً دولياً واسعاً، حالت الولايات المتحدة دون استفادتها الكاملة من هذا الاعتراف، أما في حالة الصحراء، فإن الدعم يتآكل يوماً بعد يوم، في ظل ازدياد عدد الدول التي تعترف بمغربية الصحراء أو تدعم مبادرة الحكم الذاتي التي تقترحها الرباط.
هذا التآكل في الحاضنة الدولية، بحسب بوكروح، لا يُقابله أي تحرك سياسي جزائري عقلاني لتدارك الوضع، مما يُنذر بانفجار وشيك للأزمة على المستويات كافة.
وفي خضم هذا التشخيص القاسي، لم يغفل نور الدين بوكروح الإشارة الضمنية إلى البديل المنطقي والطبيعي الذي كان يجب أن تسلكه الجزائر منذ البداية، وهو تعزيز العلاقات مع المغرب بدل استنزاف عقود من الزمن والموارد في نزاع مفتعل.
فبالنسبة له، لا توجد أي مصلحة استراتيجية أو تاريخية أو اقتصادية تبرر الإصرار على العداء مع بلد تربطه بالجزائر روابط الدم والجغرافيا والمصير المشترك. بل إن استمرار القطيعة، في نظره، لا يخدم إلا القوى الأجنبية التي تستفيد من الانقسامات داخل المنطقة المغاربية، وتحول دون قيام تكتل إقليمي قوي قادر على الدفاع عن مصالح شعوبه في عالم متحول.
ويبدو من خلال هذا الموقف أن بوكروح، مثله مثل أصوات أخرى بدأت ترتفع داخل الجزائر، بات يرى في العلاقة المغربية الجزائرية الخيار الأمثل والأكثر انسجاماً مع الواقع الجيوسياسي الراهن. فالرهان على تقارب الجارين لا يندرج فقط ضمن منطق حسن الجوار، بل يشكل أفقاً تنموياً وأمنياً من شأنه أن يعوّض ما فات من فرص، ويعيد التوازن للموقع الإقليمي للجزائر، الذي أضعفه الانغلاق والمواقف المتصلبة. إن الاعتراف الصريح بفشل الرهانات السابقة، هو في حد ذاته بداية طريق نحو مراجعة حقيقية، شرط أن تتحول هذه الأصوات الصريحة إلى إرادة سياسية داخل دوائر القرار.