د.بوعيدة يكتب: من يملك حق الكلام في حضرة الصحراء المغربية؟

في قضيتنا الوطنية.. كلما ارتفع صوت مختلف في حضرة “النقاش”، نزلت عليه تهمة الانفصال كما تنزل اللعنة على عابر لا يحمل تأشيرة العبور إلى “الصف الوطني الموحد”..

وكأن الوطن قد أصبح حيازة فكرية محفوظة في أسماء بعينها، لا تقبل التعدد، ولا الاختلاف، ولا حتى السؤال المشروع.

ملف الصحراء ليس يافطة ترفعها النوايا الحسنة، ولا براءة اختراع مسجلة باسم أكاديميين وخبراء بعينهم، يدورون بها في الندوات والصالونات، يوزعون صكوك الغفران الوطنية على من شاءوا، ويشهرون “كارت” الانفصال في وجه من قال: لعلّ الحقيقة أوسع من روايتكم.

ما لا يريد بعض “الخبراء” أن يفهموه أن الصحراء ليست سردية محنطة، بل روح وطن تنبض في أعماق كل مغربي..
لا تحتاج وصياً، ولا رقيبا، بل تحتاج فهماً عميقاً، وتجرداً يرقى إلى مستوى ما يطلبه التاريخ من صدق وجرأة.

نحن لا نمتلك "ترمومترًا" نقيس به منسوب الوطنية في دماء بعضنا.. ولا نملك مرآة تعكس نوايا الآخر على الوجه الدقيق.
نحن نملك فقط أدوات البحث، شهوة الفهم، وبعض الخوف من أن نُختطف باسم “الإجماع على نفس الرؤية”.

الاختلاف في الوطن لا يعني الخيانة.. والانتقاد لا يعني أننا نرفع رايةً غير رايته، بل هو حبٌ من نوع آخر، حبٌّ يقسو أحياناً كي لا يُخدع.

من المعيب أن نربط الوطنية بالصوت الأعلى، أو بمن يحفظ الملف أكثر، أو بمن يصرخ في وجه الآخر أكثر.
الوطني ليس من يُجيد التغريد داخل السرب، بل من يُغامر بالخروج عنه ليعيد تشكيل المعنى،

نحتاج اليوم إلى نخب تقرأ الواقع لا تُؤدلجه.. إلى أقلام تُشبه الوطن حين يتأمل ذاته في مرآة الصدق.. لا حين يُزيف ملامحه بمساحيق الرضا العام.

نحتاج من يكتب بالصمت حين يعلو الصراخ، ومن يتحدث بالعلم حين يتحول النقاش إلى مقصلة.

لقد عشت التجربة.. وخبرت كيف يمكن لاتهام “الانفصال” أن يُسدل على نوايا طيبة فقط لأنها طرحت سؤالاً مختلفًا.
وكم مرة وجدت الدولة متفهمة وأكثر رحمةً من بعض الأفراد الذين يملكون مفاتيح الجحيم الفكري، ويعشقون إحراق كل من لا يُصلي في محراب روايتهم.

ملف الصحراء المغربية لا يحتاج حنجرة.. بل ذاكرة
لا يحتاج تنظيرات غارقة في الغرور.. بل عقل يعرف أن العاطفة وحدها لا تبني مصيراً.

نحتاج إلى جبهة داخلية متناسقة في تنوعها.

نحتاج إلى نقاش لا يتورع عن الاعتراف بالأخطاء.

نحتاج إلى إنسان يرى في المختلف عنه شريكًا في المعركة، لا خصمًا في الحلبة.

نحن لا نحارب عدوًا خارجيًا فقط.. بل نحارب هشاشة الفهم، وسطحية التناول، وخوفنا من بعضنا البعض.

أما “الآخر”.. ذاك الذي نود إقناعه بعدالة قضيتنا، فهو لا ينظر فقط إلى خريطة الوطن، بل إلى خريطة عقولنا
يرى كيف نتحدث، كيف نتخاصم، كيف نرجم المختلف.. فيتساءل: أي وطن هذا الذي يضيق بأبنائه؟

رجاءً..

لا تُغلقوا علينا نوافذ السؤال باسم الوطنية..
الوطن لا يرتقي بالشعارات.. بل يرتقي بمن يقول له الحقيقة كما هي، لا كما يحب أن يسمعها.

نريد نقاشاً عميقاً.. لا عقيمًا

نريد نخبة تحب الوطن بالعلم..

لا بالصراخ

نريد أن نختلف..

دون أن نخوِّن

نريد أن نُحِب الوطن..

لا أن نُزايد عليه

لأن الوطنية ليست كلاماً معسولاً على وسائل الاعلام..
بل قلب نعتني به كلما نزف...

 

بقلم د.عبد الرحيم بوعيدة