ظاهرة إغلاق المقرات الحزبية: هل تحولت إلى دكاكين موسمية؟

فتح المقرات الحزبية في أكبر عدد من المدن المغربية، مرتبط بالأحزاب الجادة التي تتوفر على هياكل حزبية جهوية وإقليمية ومحلية حقيقية وفعلية، وذلك بشكل يحترم الفصل السابع من دستور 2011 الذي ينص في فقرته الأولى على أن الأحزاب السياسية تعمل على تأطير المواطنات والمواطنين وتكوينهم السياسي، وتعزيز انخراطهم في الحياة الوطنية، وفي تدبير الشأن العام، وتساهم في التعبير عن إرادة الناخبين، والمشاركة في ممارسة السلطة، على أساس التعددية والتناوب، بالوسائل الديمقراطية، وفي نطاق المؤسسات الدستورية.
وفي سياق التحولات التي عرفها المشهد السياسي المغربي خلال العقد الأخير، أضحت ظاهرة إغلاق المقرات الحزبية بعد الحملات الانتخابية تعاني منها العديد من الأحزاب بما فيها الأحزاب الوطنية وكذا الأحزاب التقدمية، وهذا مرتبط بعدة أسباب نذكر منها:
أولا: تعويض الأعيان بالنخب المثقفة
"مقولة المقاعد لاتهم" أضحت من الحكايات التاريخية التي لا تؤمن بها الأحزاب السياسية في لحظة الانتخابات، ذلك أن طبيعة المشهد الانتخابي، ونمط الحملات الانتخابية، وهيمنة السيسيولوجيا القروية، وتعقد التقسيم الانتخابي، وتجذر العزوف الانتخابي في المدن الكبرى، جعل الأحزاب السياسية تتهافت على شخصيات قادرة على كسب المقعد الانتخابي في ظل سياق سياسي واجتماعي فقد ثقته في منظومة الوساطة، وهو توجه مبني على إعطاء الأولية للأعيان وكذا بعض الأصناف التي تجمع بين المال والقبيلة والعلاقة المرنة مع السلطة.
ومن هذا المنطلق، فإن أغلبية المرشحين الذين فازوا في دوائرهم الانتخابية، يغلقون مقراتهم الحزبية، بسبب قناعتهم الرئيسية بأن النجاح في المحطة الانتخابية غير مرتبط بالتواصل اليومي وبالتأطير والتكوين، وأن فتح المقرات الحزبية قد ينعكس بشكل سلبي، نظرا للكم الهائل من المطالب والحاجيات التي تحتاجها الساكنة المحلية الحالمة بتحقيق الحد الأدنى من الوعود الانتخابية، بالإضافة إلى أن بعض المرشحين يفتقدون لشرعية صلبة على مستوى القواعد، من خلال فرضهم من المركز على التنظيمات المحلية.
ثانيا: ضعف الحكامة المالية الحزبية
في كثير من المدن تعجز القواعد المحلية عن أداء الوجيبة الكرائية للمقرات الحزبية، ولقد صدرت العديد القرارات القضائية المطالبة بإفراغ المقرات الحزبية بسب تماطلها في أداء الوجيبة الكرائية، وهذا ما يطرح النقاش حول الإمكانيات المالية المتوفرة للأحزاب السياسية، حيث أن جميع الأحزاب السياسية ليس لها الإمكانيات المالية لتغطية مصاريف جميع المقرات الحزبية، وتدير ظهرها للفروع المحلية التي تفتقد للإمكانيات المالية.
وتجدر الإشارة إلى أن القانون التنظيمي للأحزاب السياسية، حصر الدعم المخصص للأحزاب السياسية في جانبين رئيسيين؛ الأول يتعلق بالدعم السنوي الذي تقدمه الدولة للمساهمة في تغطية مصاريف تدبير الأحزاب السياسية، وكذا الدعم المخصص في تغطية مصاريف تنظيم مؤتمراتها العادية، أما الجانب الثاني، فيشمل الدعم المخصص للأحزاب السياسية برسم المساهمة في تمويل حملاتها الانتخابية في إطار الانتخابات العامة الجماعية والجهوية والتشريعية.
وفي المقابل من الدعم الذي تقدمه الدولة للأحزاب السياسية، تتضمن موارد الأحزاب السياسية، واجبات انخراط الأعضاء، والهبات والوصايا والتبرعات النقدية والعينية على أن لا يتعدى المبلغ الإجمالي أو القيمة الإجمالية لكل واحدة منها 300000 درهم في السنة بالنسبة لكل متبرع، بالإضافة إلى العائدات المرتبطة بالأنشطة الاجتماعية والثقافية للحزب، ثم عائدات استثمار أموال الحزب في المقاولات التي تصدر الصحف الناطقة باسمه، وفي مقاولات النشر والطباعة لحسابه.
وهكذا يتضح أن الأحزاب السياسية تفتقد للإمكانيات المالية لتغطية مصاريف مقرات الفروع المحلية، حيث ينبغي التفكير في صياغة ميزانية تعتمد على مبدأ العدالة المحلية، وتخصيص نفقات مالية مخصص للأقاليم مقتطعة من الدعم الذي تحصل عليه، والترافع من أجل الرفع من قيمته مع إلزام المنتخبين بأداء مساهمة إجبارية للأحزاب التي يحمثلونها.
ثالثا: تراجع فضاءات التأطير
تعرف قاعات السينما ودور الشباب والمقاهي الأدبية والنوادي الثقافية والمكتبات تراجعا مهولا مقابل تنامي العديد من الظواهر السلبية، كالهدر المرسي وتنامي آفة المخدرات، كما أن التراجع الكبير لمنسوب الثقة في الأحزاب السياسية، انعكس بشكل سلمي جميع المبادرات الحزبية، وأضحت العديد من الأنشطة الحزبية لا تحظى باهتمام فئات المجتمع بما فيها الشباب، وينبغي العمل على قراءة تصورات الشباب للمقرات الحزبية، وتفكيك تمثلات هذه الفئة الساخطة عن المؤسسات التمثيلية بجميع أصنافها، حيث أن المقرات الحزبية ترمز إلى الوعود الانتخابية، وهي مرادف للانتهازية والوصولية، مما جعل البعض يطلق عليها تسمية الدكاكين السياسية، بالرغم أن الدكان العادي يستمر في تقديم خدماته ومعاملته من الأفراد طول السنة، في حين أن أغلبية الدكاكين السياسية هي موسمية وتشتغل بشكل مؤقت ولا تفتح إلا في لحظة المحطات الانتخابية.
لابد من بدل مجهود من قبل كافة الأطراف والفاعلين، وخاصة الإعلام وجمعيات المجتمع المدني لإعادة الدور التأطيري الذي كانت تضطلعه به الأحزاب السياسية من خلال فروعها المحلية، حيث كانت منبع للإبداع والتكوين والمواكبة والدعم، من خلال انفتاحها على جميع مكونات المجتمع.
رابعا: بروز المقرات الافتراضية داخل وسائل التواصل الاجتماعي
تشهد وسائل التواصل الاجتماعي، خاصة الفاسبوك في المغرب حضور نوعي للعديد من الأنشطة الحزبية، وأضحت الأحزاب السياسية تنظم الكثير من اللقاءات والندوات على مستوى وسائل التواصل الاجتماعي، غير أن السؤال المطروح في هذا السياق، مرتبط بهل الأنشطة الافتراضية يمكنها أن تعوض اللقاءات المباشرة التي تنظم داخل الفروع المحلية، أم أن اللقاءات الافتراضية هي مكمل للتواصل اليومي المباشر في سياق مجتمعي مطبوع بتنامي ظاهرة الأمية وبغلبة العالم القروي على مختلف الدوائر الانتخابية.
مغربيا، يصعب الرهان على وسائل التواصل الاجتماعي، خاصة أن أغلب الأنشطة الحزبية الافتراضية لها طبيعة شبه داخلية، مع بعض الاستثناءات وحتى اللقاءات الموجهة إلى العموم فهي لا تحظى بمتابعة كبير من قبل المواطنين وأثرها ضعيف على مستوى التعبئة والتأطير والتوجيه والتكوين.
لذلك، فإن البنية الحزبية تحتاج إلى إصلاحي شمولي وعميق يعالج أغلب الاعطاب البنيوية اللصيقة بالحقل الحزبي.
أمين السعيد

أستاذ القانون الدستوري والعلوم السياسية بجامعة سيدي محمد بن عبدالله فاس