ذ.حنين يتساءل: لماذا أدى القاسم الانتخابي إلى تمرد الحزب الأغلبي على إرادة الأغلبية ؟

لم يسبق أن شكل موضوع القاسم الانتخابي أي نقاش بين الفرقاء السياسيين في مختلف المحطات الانتخابية السابقة رغم الإصلاحات التي كان يعرفها النظام الانتخابي من محطة الى أخرى ، و كون هذا الموضوع على خلاف ما سبق شكل نقطة خلاف جوهرية بين مختلف الأطياف الحزبية من جهة و الحزب الأغلبي الذي يقود الحكومةمن جهة أخرى ، فإن السؤال يطرح حول خلفية هذا الخلاف سيما و أن هذا الحزب هو المستفيد من القاسم الانتخابي الملغى ، فهل دفاعه على هذا القاسم يروم فعلا تحصين الاختيار الديمقراطي ، أم أنه على خلاف ذلك يسعى الى الحفاظ على الوضع القائم بما يكفله ذلك له من مكاسب و ما يجنيه أعضاؤه من منافع و امتيازات ، أم أنه يسعى إلى تحويل اهتمامات الرأي العام عن المحاسبة على قيادته لتدبير الشأن العام خلال السنوات العشر الماضية ؟ سيما و أنهفي خطابه حول القاسم الانتخابي يحاول تقمص حالة المظلوم و الظهور بمظهر الضحية الذي تآمر عليه الجميع .

أكذوبة الانقلاب على الاختيار الديقراطي .

إن المتتبع لخطاب الحزب الرافض بمفرده للقاسم الانتخابي يلاحظ أن هذا الرفض يتم تبريره أساسا بتكريس سلوك و ممارسة انتخابية منافية لثابت الاختيار الديمقراطي و المس بحق و واجب التصويت ، بل ذهب بعض أعضائه إلى اتهام الأغلبية التي صوتت على القانون بأنها جماعة انقلابية تريد اختطاف الدستور و المؤسسات .

لكن ، حيث إن الثابت من مفهوم الاختيار الديمقراطي أنه ينطوي على ضمان التعددية الحزبية و على التناوب على السلطة بناء على انتخابات حرة و نزيهة ، و ليس في هذا المفهوم ما يربط صيانة هذا الاختيار باعتماد نظام انتخابي معين أو قاسم انتخابي محدد ، على اعتبار أن القاسم الانتخابي لا ينفي إجراء الانتخابات و لا يمس بحرية التصويت باعتباره حق دستوري و لا ينفي الاحتكام الى عدد الأصوات لتوزيع المقاعد ، و إنما هو مجرد آلية لتوزيع المقاعد المخصصة لكل دائرة انتخابية على مختلف المرشحين ، و لئن كان لا يوجد نظام انتخابي مثالي يحظى بالإجماع على أنه يحقق التمثيل الديمقراطي أكثر من غيره ، فإن كل نظام انتخابي له عيوبه و لا ينجو من انتقادات الطبقة السياسية  ، و قد تتبع الجميع الانتقادات الواسعة لرونالد ترامب للنظام الانتخابي الأمريكي ، غير أن انتقادات عيوب الأنظمة الانتخابيةغالبا ما تخضع للتحليل العلمي المبني على المقارنة و الاستنتاج و ليس الى الاتهامات الانفعالية من قبيل الانقلاب أو النكوص أو  اختطاف الدستور أو غيره من الاتهامات التي واجه بها الحزب الأغلبي رفضه لإصلاح القاسم الانتخابي ، و هي اتهامات لم يسبق لها مثيل حتى بمناسبة الاصلاح العميق لنمط الاقتراع سنة 2002 بالانتقال من الاقتراع الأحادي الإسمي الى اقتراع اللائحة .و كون الاصلاح الحالي لم يمس بجوهر نظام اللائحة و إنما اقتصر على تعديل جزئي للقاسم الانتخابي بجعله يحتسب على أساس عدد المقيدين في اللوائح الانتخابية عوض الاصوات الصحيحة ، و أمام الضجة التي أثارها رفض الحزب الأغلبي لهذا الإصلاح يحق التساؤل حول ما إذا كان احتساب القاسم الانتخابي على أساس الأصوات الصحيحة خاليا من العيوب و يستجيب لمتطلبات التمثيل الديمقراطي السليم ، أم أنه على خلاف ذلك ينطوي على مساوئ تؤدي الى الاقطاع الانتخابي من خلال الاحتكار و بسط النفوذ الحزبي و فرض نخب غير مؤهلة بسبب نظام اللائحة المغلق و ما يؤدي اليه من تحكم في ترتيب المرشحين بناء على منطق المصالح و الارضاءات و الولاءات ، و حرمان الناخب من انتقاء الأفضل من المرشحين في نفس اللائحة كون حقه يقتصر على التصويت على اللائحة أو رفضها برمتها.

و لما كانتعديل كيفية احتساب القاسم الانتخابي غالبا ما يكون استجابة لمتطلبات سياسية إما بتحقيق الرغبة في الانفتاح على جميع الحساسيات السياسية و تمكينها من الارتقاء الى المشاركة في تدبير الشأن العام ، و إما تشديد الخناق على الأحزاب الصغرى من خلال وضع عقبات أمام تمثيليتها بالمؤسسات المنتخبة و بالمقابل تمكين الأحزاب الكبرى من الهيمنة و الاستفراد بتدبير الشأن العام ، فإن القاسم الانتخابي باعتباره مجرد نمط من الأنماط لترجمة هذا الاختيار السياسي أو ذاك لا يمس لا بالدستور و لا بثابت الاختيار الديمقراطي المفترى عليه . و كون النظام الانتخابي لمجلس النواب يندرج ضمن صلاحيات المشرع طبقا لما هو مقرر في الفصل 62 من الدستور ، و أن إصلاح القاسم الانتخابي كان موضوعتصويتللأغلبيةبغرفتي البرلمان ، فإنه لايحق لأي حزبأن يعمد الىالتشكيك في مصداقية التعديل المصادق عليه من خلال الترويج لادعاءات غريبة على الاختيار الديمقراطي ، سيما و أن الالتزام بآثار هذا الاختيار تجعل رفض قرارات الأغلبية و اتهاماتها بأشكال مختلفة من الإهانة و التشهير بمثابة ردة و تمرد على الاختيار الديمقراطي و انقلاب حقيقي عليه و ليس العكس ، على اعتبار أن القانون الصادر وفق المساطر التشريعية المقررة دستوريا يعتبر بناء على الفصل 6 من الدستور هو أسمى تعبير عن إرادة الأمة و الجميع أشخاصا ذاتيين أو اعتباريين ، بما فيهم السلطات العمومية ، متساوون أمامه ، و ملزمون بالامتثال له ، و هو ما لم يتقيد به الحزب الأغلبي ، و هي سابقة سيئة في تاريخ عدم الامتثال للقانون و بدعة سياسية خبيثة لما تنطوي عليه من عدم الانضباط للمساطر التشريعية و التشكيك في مصداقية القوانين ، سيما أن هذا التمرد يقوده حزب سياسي يترأس الأغلبية الحكومية .

خرافة المس بحق التصويت

إذا كان حق التصويت مضمون ، فإن جميع المسجلين في اللوائح الانتخابية يحق لهم ممارسة هذا الحق الدستوري لاختيار ممثليهم في المؤسسات المنتخبة ، و أن عدم إدلاء أي مسجل من هؤلاء بصوته يوم الاقتراع لأي سبب كان ما هو إلا استثناء على القاعدة . و لئن كان عدد الأصوات التي يحصل عليها كل مرشح أو لائحة الترشيح حاسم في نيل المقعد أو المقاعد المخصصة لكل دائرة انتخابية ، فإن الادعاء بأن القاسم الانتخابي الجديد يمس بحق التصويت ادعاء عار من الصحة و لا يعكس الحقيقة ، فلا هو يحرم الناخبين من الادلاء بأصواتهم و لا هو يمنع من اعتبار عدد الأصوات المحصل عليها من طرف اللوائح المتنافسة في توزيع المقاعد، بل إن عدد الأصوات المحصل عليها من طرف كل لائحة تظل له أهميته في توزيع هذه المقاعد و كذا في ترتيب الفائزين ، و مادام أن اعتماد القاسم الانتخابي المذكور يعبر عن اختيار سياسي تمت ترجمته تشريعيا بمقتضى القانون التنظيمي المطعون فيه باعتباره حسب المصوتين عليه يستجيب لحاجة المؤسسات الى تجديد عميق يكفل التحفيز على المشاركة لما يوفره من ضمانات ضد الاحتكار و الإقصاء و الارتقاء بالتعددية السياسية ، فإن الادعاء بكونه لا يوجد له مثيل في العالم ادعاء مغلوط لكون اختيار نمط الاقتراع في كل دولة يخضع للتوازنات السياسية ، و ذلك لغياب الإجماع عالميا على وجود نمط مثالي يطبق في جميع الدول أو على الأقل في أغلبها ، فهناك الاقتراع الأحادي في دورة واحدة و تعتمده أنجلترا و الهند ، و الاقتراع الأحادي في دورتين بفرنسا ، و اقتراع اللائحة مع حق الناخب في ترتيب المرشحين و تعتمده بلجيكا ، و النمط المختلط بين اللائحي الأغلبي و الأغلبي الفردي و تأخذ به اليابان ، و الاقتراع باللائحة مع التمثيل النسبي مع أكبر بقية أو مع أقوى المعدلات و غير ذلك من الأنماط ، و لئن كان الاقتراع باللائحة يقترن بالقاسم الانتخابي من أجل توزيع المقاعد ، فإن احتساب هذا القاسم يخضع لتقنيات متنوعة و يتم الحسم في اختيار  طريقة على الأخرى بناء  على الاختيارات السياسية في كل دولة و خلال كل مرحلة حسب الرغبة في خدمة الأحزاب الكبرى أم الأحزاب الصغرى أو التوفيق بين تقنيات تحقق التوازن السياسي (لمن أراد الاطلاع على هذه الأنماط و التقنيات نحيله على الدراسة المستفيضة المنجزة من طرف لجنة البندقية تحت عدد 250/2003 الصادرة بستراسبورغ في 04/02/2004 حول موضوع الأنظمة الانتخابية ).

و أمام هكذا تعدد لأنماط الاقتراع و اختلاف تقنيات القاسم الانتخابي ، فإنه لا يمكن الاحتجاج بعدم وجودالقاسم الانتخابي الجديد في دول أخرى لكون هذا الاحتجاج ينطوي على مجرد مغالطات لا أساس لها ، و كون كيفية احتساب القاسم الانتخابي تخضع لاعتبارات سياسية محضة فإنه لايصح الادعاء بالانقلاب على الانتقال الديمقراطي ، كون التعديل المصادق عليه لا تأثير له على حرية الانتخاب و لا على نزاههة الانتخابات بل إنه يساهم في توطيد أسس هذا الانتقال من خلال توفير ضمانات أكثر للتعددية السياسية و تمكين نخب جديدة من الارتقاء الى تدبير الشأن العام .

خلفية التمرد على الإجماع الحاصل بخصوص القاسم الانتخابي

لاشك في أن تصدي الحزب الأغلبي الحاكم لتغيير طريقة احتساب القاسم الانتخابي و مواجهته على السواء لتكثل فرق المعارضة و حلفاءه في الأغلبية ، يشكل سابقة لا مثيل لها في الممارسة التشريعية ، سيما و أن هذا التصدي لم يقتصر على رفض التصويت على القانون التنظيمي بل امتد إلى عدم الامتثال لإرادة الأغلبية المؤدية الى صيرورة التعديل قانونا. و لئن كانت هذه السابقة ستثير فضول الباحثين في حقل العلوم السياسية لدراستها و سبر أغوارها ، فكونها ناذرة في الحياة السياسية و البرلمانية ، فإن السؤال يطرح حول أبعادها الخفية سيما أن وقوعها تزامن مع قرب احتفال هذا الحزب بقضاء عشر سنوات على رأس الحكومة.

إن كل المؤشرات تثبت أن الحزب الأغلبي المذكور قد أصبح بفعل تناقضات داخلية على صفيح ساخن ، منها ما خرج الى العلن من خلال إعلان قياديين عن استقالاتهم و التراجع عنها  و منها ما زال خفيا و يلقي بضلاله على القرارات و المواقف بكيفية أصبح معها هذا الحزب يمارس المعارضة و هو يقود الحكومة و هي ظاهرة غير عادية في الحياة السياسية . و من المؤكد أن رفض القاسم الانتخابي ما هو الا مظهر لهذه النزعة الهجينة الرامية الى انشغال الرأي العام بقضايا جانبية عوض التركيز على القضايا المرتبطة بالمعيش اليومي للمواطن و التي عرفت تدهورا على مدى عشر سنوات الأخيرة ، وذلك بغرض تفادي المحاسبة عن تدبير الشأن العام خلال الاستحقاقات المقبلة و التي من المنتظر أن تكون محرجة و عسيرة ، لذلك فإنه لئن كان المواطن العادي في حاجة ماسة الى الارتقاء بوضعه الاجتماعي بما يضمن له العيش الكريم ، فإنه ليس في حاجة الى ضياع مزيد من الوقت في اختلاق الخلافات و الانخراط في نقاشات عقيمة لا يجدي منها نفعا ، فالأهم بالنسبة اليه حكومة ذات كفاءة و مبادرةلحل مشاكله و تدبير قضاياه بحنكة و نجاعة و لا يهمه شكل النظام الانتخابي المنبثقة عنههذه الحكومة سواء كان بهذا الشكل أو ذاك ، فرجاء من الفاعلين السياسيين احترام الذكاء الجماعي للمواطنين .

 

المقالات المرتبطة

أضف رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *