يبدو من الوهلة الأولى أنه عنوان طويل، لكن الكلام الذي أصبحنا ملزمين بقوله لا يقبل الاختصار، ولا حتى التكرار، كي لا يكون كلاما بدون معنى، ويفرض علينا الوضوح التام تقديرا وتقديسا لهذا المقام، مقام يحتاج منا الدقة في اختيار المقال، واختيار العبارات المناسبة لمحاولة تقديم مجرد محاولة للإجابة على أربعين مليون سؤال، في عدد خاص جدا من سلسلة ” مجهر بلبريس” أسئلة الشهداء رحمهم الله و أسئلة عائلاتهم الصغيرة والكبيرة من طنجة العالية للجويرة الغالية، أسئلة الأحرار والأبرار اللذين يردون أن يبروا بهذا الوطن، أسئلة الوطن والشعب والملك، أسئلة الدستور والمؤسسات ومن يقدسون ويقدرون تحمل المسؤوليات، ومن لا زال في قلبهم نبض يعطي للأجيال القادمة التي لم تجرفها السيول، ولم تحرقها انفجارات الحافلات وحوادث السير على أرصفة الطرقات، ولم تدفنها ثلوج الجبال، ولم تغرقها أمواج الهجرة السرية أملا في غد أفضل، أمل في أن لا يصبح لسلطة المال والجشع والفساد مزيد من القدرة والقوة على تبخيس وإفشال كل المخططات التي تهدف إلى تحقيق نموذج تنموي جديد، وبناء الإنسان والوطن وتقدم البلاد.
فإذا كان الملك يدشن هنا حملة تلقيح ليساهم في زرع الثقة والأمان، ويدشن هناك حملة دبلوماسية ليساهم في تعزيز وحدة الوطن من شماله إلى صحرائه، وإذا كانت هناك مؤسسة تقوم بدورها وبرلمانية تطرح سؤالها ووزير يبحث عن جواب يليق بها وبالأمة التي تمثلها، وأستاذ يقوم بواجبه بحب وشرطي يأمن جزءا من وطنه بإخلاص وطبيب يحرص على صحة المواطنين بتفاني، ومواطن يكافح من أجل لقمة عيشه، فكيف لمسؤول لا مسؤول أن يسمح بوجود مقاولة لا مواطنة تستغل فقر المواطنين وحاجتهم لتشغلهم في وحدة صناعية “سرية” تصنع البئس في العلن، ويغتني صاحبها الجشع على حساب وطن، كيف يحدث ولماذا يستمر في حدوثه وإلى أين وإلى متى؟
تجرنا ذاكرة الفواجع للعزف على وثر المواجع، وجع يصيب القلب ويسبب انطفاء في مصابيح الروح، فنموت ونحن على قيد الحياة ألف مرة قبل أن تكتب أسمائنا في لائحة شهداء أحد المصانع، مصانع الفساد والاستبداد، لنصبح بذلك أموات على قيد الحياة، ليتسلل ذلك الشعور الغريب إلينا، ونحس بكل عمق وصدق بغربتنا في الوطن، ونعرف حقا أن “يد الملك” وحدها لن تستطيع أن تصفق، وجناح أحلام أي مسؤول نزيه لوحدها لن تستطيع أن تحلق، فلا يبقى لنا سوى الكلام الذي نرتب حروف جمله الكئيبة والمتعبة داخل بيوتنا وفي مقاهي أحيائنا، وعلى صفحات بعض جرائدنا “إن سمحو لها بذلك”، وعلى صفحات مواقع التواصل الاجتماعي إن سمحنا لأنفسنا ذلك، وفي حبر أقلامنا إن سمحت لنا ضمائرنا بذلك، حتى يصبح مرة أخرى هذا الكلام المكتظ بالحزن والآلام وبعض الأمل بلا معنى، عندما يطويه النسيان ونرى مرة أخرى فاجعة جديدة تأكد لنا أن الفساد الذي يسكن بعضا منا لا يقدر ويقدس روح الإنسان، ويبيعها بأرخص الأثمان.
لقد قصدت التركيز على الجمع بين الصالح والطالح قي نفس الميزان، ولا أعرف حقا من سيمنحه المخرج الخفي “لفلم حياتنا في هذا الوطن” دور البطل في باقي التفاصيل، لكننا نريد لكفة الصالح أن تنتصر يوما ما بكل وضوح وجدارة وبعيدا عن لغة التبخيس واليأس وإشعال الشرارة، وبكل ما تحمله قواميس الأمل والتغيير من عبارة، ككل مشاهد يتابع أحداث فلم مشوق، ولو افترضنا أن حياتنا في هذه الأرض السعيدة، وفي هذه الرقعة لجغرافية التي نحبها وعلينا أن نحبها رغم كل ما فيها من وجع، فلما سينمائيا أو عملا روائيا، فعذرا سيدي المخرج، عزيزي الكاتب، ارحم قرائك الاوفياء ومتابعيك الأشقياء، لم تعد قوانا قادرة على تحمل مزيد من الانكسارات، ولكن قوى الشر تصبح أكثر قوة وهي تكدس أحلام الكادحين في مقابر الأمنيات، وتستمتع ” على غرار مشاهدها في السينما”، بالتخلص من كل هؤلاء الفقراء والأحرار في جميع المجالات، ونحن نحلم أن ” نستفهم جميعا فوق الشواية” أن نتخلص منهم يوما ما، وتشرق الشم بعد كل هذا الظلام الدامس، لأننا مواطنون ومسؤولون ومهنيون أحرار ولسنا مجرد حشرات.
إن التأكيد على حب الوطن كعرف وكقانون وكمبدأ أساسي ليس من باب الادعاء أو التباهي أو المزايدة “السياسية أو الشفهية الخطابية الفارغة”، بل لأن ذلك هو السبيل الوحيد لإعادة الأمل وبناء لإنسان لبناء الوطن، فواقع وطننا اليوم لم يعد قابلا أو متقبلا للمزايدات وتصفية الحسابات في تحميل المسؤوليات، بل يفرض الوضوح التام تقديرا وتقديسا مرة أخرى لهذا المقام، فلو افترضنا جدلا أن الكل سيعيد ترتيب أوراقه ويراجع نفسه، و يحب وطنه كما ينبغي، فعلى الأقل و بكل تأكيد سنرى معالم وطن آخر يعيش و يتعايش فيه الجميع بأمن وأمان وبارتياح واطمئنان، وبدون لغة خشب، ولا بد أن مثل هذه الفواجع التي تؤكد تبخيس قيمة الوطن والمواطن، المؤسسات والمجهودات، هي ما يبرمج الانسان على تبني الأفكار السلبية، وتعيد صناعة ثقافة الجشع والاستغلال، وتبخس ثقافة الصدق والجد والعمل في مختلف المجالات.
في الوقت الذي نفرح بالانتصارات التي يحققها المغرب على كافة المستويات بقيادة الملك محمد السادس وبروح دولة المؤسسات، نفرح كل الفرح عند انتصاراتنا الصغيرة منها والكبيرة، ونحزن كل الحزن عندما نرى من يريد أن يسرق منا حتى تلك الافراح المؤقتة في أعمارنا القصيرة، ولهذا فإن حادثة “طنجة” ليست مجرد حدث عابر، يقبل منا حديثا عابرا يثير عواطفنا، او أحاديث تعبر عن عمق وجعنا، او متحدثا يعزف بلاسانه ليمتعنا ويبهرنا، أو كاتبا يكتب بقلمه ليثيرنا، أو عاشقا لوطنه بنبض إحساسه ليذكرنا بأهمية عشقنا، أو رساما يرسم بريشته لوحات تلخص حالنا، أو مغنيا يغني بحرقة عن أوجاعنا، أو مسؤولا يخرج لنا بخطاب حكيم يرتب بعثرتنا، بل نحتاج إلى وقفة يقفها الطالح قبل الصالح، ويغني بصوت مرتفع ” أنا وين رايح”، نعم، إلى أين يريد هؤلاء الذهاب بنا، ألا يكفي كل ما فعلوه وكل الجرائم التي اقترفوها في حق الملك والشعب والوطن، في حق البلاد والعباد، في حق الدستور والقانون، في حق القرآن والانجيل والثورات، في حق العرب والأمازيغ، في حق الأزمان والألوان، في حق الاعراق والأسواق، في حق الاختلافات والامتدادات، في حق صغيرنا وكبيرنا، في حق حزننا وفرحنا، في حق ماضينا وحاضرنا ومستقبلنا، في حق الإنسان وإنسانيتنا، في حق تفاصيل تفاصينا، إلى أين يريدون الذهاب بنا؟ ألا يكفي كل ما فعلوه في حقنا؟ أسئلة لا ننتظر أجوبتها على مستوى القول بقدر ما نحن بحاجة إلى ملامسة معالمها في واقع الفعل والانجاز باستراتيجيات وخطط أفعال واضحة جدا.
في ذات السياق وبكل وقاحة ندينها من عمق الأعماق، وردنا خبر من مصادرنا الخاصة في بعض الأنفاق، أن بعضهم ممن هو مسؤول عن كل هذا الاختناق، سيفتح تحقيقا لكشف ملابسات الفاجعة ليحاول إخفاء الرماد الذي خلفه هذا الاحتراق، وليكشف لنا عن المسؤول الذي تلاعب بالأرواح وقطع الأرزاق، المسؤول الذي تسبب في حزننا وأزمنا نفسيا وبخس مجهودات بناء وطننا فعليا، وبعثر مرة أخرى في سقف طموحاتنا الشرعية كل الأوراق، إنها ليست ضرورة شعرية، ولا حشوا نثريا ولا خروجا عن السياق، إنها حقيقة وبداية تحقيق يغلق قبل فتحه ولا يستطيع بقدرة قادر وكعادته أن يكمل المساق، “كثرة الهم كاضحك” وما علينا سوى الضحك بسخرية على هذا العبث أيها القراء، أيها الرفاق…! إنما الأمم الأخلاق ما بقيت فإن هم ذهبت أخلاقهم ذهبوا كما قال الشاعر أحمد شوقي في بيت يجوز لنا أن نترحم به على عظمة ما أصبحنا نراه من أخلاق… !
طنجة الكبرى، السرح الاقتصادي الثاني بعد الدار البيضاء، تجمعهما أحلام النهضة الاقتصادية، والغرق بين أوحال العواصف الموسمية، فبعدما شاهدنا جميعا وتتبعنا بحسرة وألم غرق العاصمة الاقتصادية قبل أسابيع، وتابعنا سقوط المنازل، وغرق أرضية ملعب الدار البيضاء في مباراة عصفت بأحلام فريق “الرجاء البيضاوي”، نشاهد اليوم فاجعة جديدة تغرق فيه أمنيات ” رجاء الشعب” في توفير لقمة العيش، هي ليست مجرد صدفة عابرة، بل نتيجة إهمال كبير من طرف المسؤولين الذي منحهم الوطن ثقة التدبير والتسيير، ونهجو أسلوب العبث والتدمير، مليارات تخسر في الصفقات العمومية لتأهيل البنية التحتية، لكن النتيجة تكون أبعد بكثير عن أحلامنا الوردية، وكل هذا التكرار في إعادة إنتاج المآسي، وكل تلك الوعود بالإصلاح والتغير التي تعج بالكلام الذي يصبح بلا معنى عندما يقاس بالفعل والانجاز، لا يسمح لهؤلاء ولو للحظة بإجراء وقفة صادقة مع الذات، وكل تلك التوقيفات التي تطال بعضا منهم من الملك بصفة خاصة، وكل تلك الخطابات الملكية التي تدعو إلى قيام المؤسسات بدورها في إصلاح الوطن، وكل مجهودات الصالحين منهم، ألا تحرك في من لا زالت أمامهم الفرصة للمراجعة، نبضا وطنيا يدعوهم إلى الاستفادة من مناصبهم لخدمة الوطن الذي أعطاهم كل شيء، ولم يقدموا له أي شيء؟
يذكر أنها ليست الفاجعة الأولى، لكن هل يحق لنا أن نحلم بأن تكون الأخيرة، أحدهم يقول في نفسه وهو يقرأ، يا له من حلم تتسلح به ويا لها من ذخيرة، كطفل يرى العالم بقلبه البريء ويكتشف عوالمه بعينيه الصغيرة، وقارئة الفنجان تجلس فوق غيمة قاتمة بسماء وطني لتخبرني، يا ولدي لا نهاية لمساعي الأيادي الشريرة، وأعود إلى غرفتي لأستجمع كل هذا الألم الذي أمطرتني به سماء مدينتي الغالية والعالية من الصباح إلى المساء، وكل هذا الغضب الذي عاتبت به فصلا عشقته اسمه فصل الشتاء، وكل الوجع الذي تقاسمه معي أبناء وطني الأغلى من كل الارجاء، لأفرغه في صفحة بيضاء، أصبحت مكتظة بالألوان السوداء، التي لم تلغي البياض، وحاولت أن أجمع بينهما لأعطي لاستيقاظي غدا بعضا من المعنى، ولأملي في إشارة جديدة لتغيير أفضل بعضا من المعنى، وإلا فسأقط في التكرار، ويصبح الكلام بلا معنى، وسيكون مقالي لا يليق بالمقام، وبجوز لي ولكم أن نقرأ على روحنا وروح وطننا السلام