لم تكن مسيرة آيت بوكماز مجرد خطوة احتجاجية عابرة، بل تحولت إلى لحظة فارقة في التعبير عن هموم المغرب العميق، بعدما اختار سكان هذه الجماعة الجبلية أن يقطعوا عشرات الكيلومترات سيرًا على الأقدام في مشهد استثنائي هزّ الرأي العام وأحرج صمت المؤسسات.
التحق المئات من الرجال والنساء والشباب بهذه المسيرة السلمية التي عبّرت عن تراكم سنين من التهميش والإقصاء، مطالبين بحقوق اجتماعية وتنموية أساسية طال انتظارها. وقد أثارت هذه الخطوة البطولية ردود فعل واسعة، ليس فقط على مواقع التواصل الاجتماعي، بل أيضًا لدى عدد من الفاعلين السياسيين والمدنيين والحقوقيين، الذين اعتبروا أن ما وقع في آيت بوكماز ينبغي أن يكون لحظة صحو وطنية لإعادة توجيه بوصلة التنمية نحو المناطق الجبلية والنائية.
في هذا التقرير، نستعرض أبرز ما قاله فاعلون وشخصيات وطنية عن "مسيرة الكرامة" التي انطلقت من عمق جبال الأطلس الكبير، حاملةً معها وجع الجبل ورسالة الصبر، ومطالب أبسط من أن تُهمَل، وأقوى من أن تُسكت.
محمد أوزين: صرخة الجبل أكبر من مجرد احتجاج
اعتبر محمد أوزين، الأمين العام لحزب الحركة الشعبية، أن مسيرة ساكنة آيت بوكماز ليست مجرد احتجاج محلي معزول، بل "صرخة جبل وصوت من أصوات الهامش المنسي في ظل تمركز بوصلة التنمية"، مشددًا على أن هذه الخطوة تعكس وعيًا جديدًا بأشكال التعبير النضالي في المغرب العميق.
وفي تصريح له حول المسيرة، قال أوزين إن صرخة آيت بوكماز تعبّر عن جيل جديد من الاحتجاجات، تنبع من عمق جغرافي يعاني من تغييرات ديمغرافية حادة، في ظل توسع قاعدة الشباب العاطلين عن العمل وغياب التكوين والتعليم في المناطق القروية والجبلية.
وأوضح أن مطالب الساكنة، من طبيب قار إلى مدرسة جماعاتية، ومن مركز للتكوين إلى الربط الرقمي، ليست سوى عناوين لمطلب أعمق هو العدالة المجالية والإنصاف التنموي، مضيفًا:
"نبهنا الحكومة مرارًا إلى أن التنمية القروية لا تعني فقط بناء الطرق أو تشييد البنيات، بل تتطلب مقاربة مندمجة، تنموية وإنسانية، تضع سكان الجبل ضمن أولويات السياسات العمومية."
وانتقد أوزين ما وصفه بـ"الغياب الفاضح لرؤية واضحة لدى الحكومة الحالية تجاه المناطق الجبلية"، وذكّر بأنها بدأت حملتها الانتخابية من إقليم أزيلال لكنها اليوم "تخلّت عن صرخات ساكنته بعد أن نالت أصواته".
وختم تصريحه بتحية لساكنة آيت بوكماز، داعيًا الحكومة إلى التقاط رسالتهم قبل أن تتحوّل إلى قطيعة ثقة.
سعد الدين العثماني: لهم كل التحية… ومطالبهم مشروعة
من جانبه، عبّر رئيس الحكومة السابق سعد الدين العثماني عن دعمه الكامل لمطالب ساكنة آيت بوكماز، مؤكدًا مشروعية الخطوة الاحتجاجية، ومشيدًا بالطابع السلمي الذي طبعها من بدايتها إلى نهايتها.
وفي تدوينة نشرها على حسابه الرسمي، قال العثماني:
"عندما يحتج ساكنة آيت بوكماز بإقليم أزيلال فهذا حق مكفول، إنهم يناضلون من أجل إصلاح الطرق وفك العزلة عنهم وتوفير الخدمات الطبية وبناء ملعب لكرة القدم. لقد قاموا بشيء رائع هو الاحتجاج السلمي ورفع طلباتهم وحاجاتهم. فلهم كل التحية، ومطلوب من الجهات المختصة النظر في تلك المطالب وتحقيقها في آجال معقولة."
وأكد أن هذا الشكل الحضاري من النضال يجب أن يُقابل باستجابة فعلية، لا بتجاهل إضافي يُعمق الفجوة بين المواطن والدولة.
نبيل بنعبد الله: الحكومة متعالية وتُغذّي الاحتقان الاجتماعي
بدوره، اعتبر نبيل بنعبد الله، الأمين العام لحزب التقدم والاشتراكية، أن المسيرة التي خاضتها ساكنة آيت بوكماز تُجسّد "تعبيرًا حيًّا عن تدهور المستوى المعيشي لفئات اجتماعية واسعة، ولعدد من المناطق الترابية المهمشة".
وفي تدوينة على مواقع التواصل الاجتماعي، أكد بنعبد الله أن هذه المسيرة تشكّل "دليلًا إضافيًا على تصاعد مؤشرات الاحتقان الاجتماعي"، محملًا المسؤولية لحكومة وصفها بـ"المتعالية"، في شخص رئيسها، مشيرًا إلى أن هذا ما سبق لحزبه أن نبه إليه مرارًا، وحذّر من عواقبه.
وأضاف:
"الوقائع الحالية تعكس الخواء السياسي والضعف التواصلي الذي تعانيه الحكومة، وتجاهلها المتكرر لمطالب المواطنين، وعدم إنصاتها لمعطيات الواقع الاجتماعي الصعب الذي لم يعد يُطاق."
واعتبر بنعبد الله أن مطالب ساكنة آيت بوكماز، مثلها مثل غيرها من مناطق المغرب، لا تتجاوز الحد الأدنى من الحقوق الاجتماعية، وتتمحور حول أبسط الخدمات العمومية: الصحة، التعليم، البنيات، والنقل.
وفي ختام تصريحه، شدد على أن الحكومة مطالَبة اليوم بـ"التحلي بالتواضع اللازم، وفتح قنوات الحوار، والتخلي عن الخطابات المستفزة التي لا تلامس الواقع"، داعيًا إلى تحمل المسؤولية السياسية الكاملة، وتجاوز الشعارات الفضفاضة التي لا تعني شيئًا للمواطن إن لم تتحقق على الأرض.
رشيد حموني: الحكومة مطالبة بالنزول من بُرجها العاجي
من جهته، دعا رشيد حموني، رئيس فريق التقدم والاشتراكية بمجلس النواب، جميع الفاعلين السياسيين إلى التقاط العِبَر والدروس من خروج ساكنة آيت بوكماز في مسيرة احتجاجية سيرًا على الأقدام، بحثًا عن باب مسؤول يُنصت لمطالبهم، بعدما ضاقت بهم السبل تحت وطأة الفقر والهشاشة والتهميش.
وأكد حموني أن أول هذه الدروس هو ضرورة أن تنظر الحكومة، بكل وزرائها، إلى تنبيهات وأسئلة البرلمانيين حول قضايا التعليم والصحة والبنية الطرقية والاتصالات والنقل في المناطق النائية، على أنها مسؤولية حقيقية تجاه كرامة المواطنين، لا مجرد واجبات شكلية أو بيروقراطية.
وأضاف أن ثاني الدروس يتمثل في ضرورة أن "تنزل الحكومة من بُرجها العاجي، وتُنصت لهموم المواطنين، وتتحاور معهم بصدق، وتعتمد التدرج في الاستجابة لمطالبهم، مع إعمال مقاربة التمييز الإيجابي تجاه المناطق ذات الخصاص التنموي".
أما الدرس الثالث، حسب حموني، فهو أن تجاهل الواقع، والتمسك بخطاب "العام زين"، لا يؤدي سوى إلى إحباط الناس، وزعزعة ثقتهم في المؤسسات، وتآكل الشعور بالانتماء الوطني، بما ينذر بموجات احتقان متصاعدة، لا يتمناها أي غيور على الوطن.
وختم تدوينته بالتأكيد على أن ما حدث في آيت بوكماز ليس معزولًا ولا استثنائيًا، داعيًا الحكومة وكل الفاعلين إلى تعزيز مؤسسات الوساطة، واحترام البرلمان والمنتخبين، وتوسيع فضاءات التعبير المؤسساتي، حتى لا يُضطر الناس للعودة إلى الشارع العفوي وغير المؤطر، وحتى لا تفقد الفئات المستضعفة ما تبقى من صبرها.
فاطمة التامني: المسيرة ضد "الحكرة" ودقّ لناقوس الخطر
من جانبها، وصفت فاطمة التامني، النائبة البرلمانية عن فيدرالية اليسار الديمقراطي، حراك آيت بوكماز بأنه "مسيرة أخرى ضد الحكرة"، مشيرة إلى أن المنطقة تعد من أكثر المواقع تهميشًا وإقصاءً، حيث لا تشملها مشاريع تنموية ولا مرافق إدارية أو صحية أو تعليمية.
وأكدت التامني أن ما وقع هو مشهد من مشاهد فشل النموذج التنموي وفشل سياسات النهوض بالعالم القروي، بسبب غياب الإرادة السياسية الحقيقية، رغم الخطابات الرسمية المتكررة حول فك العزلة وتنمية المناطق الجبلية.
وأشارت إلى أن هذه المناطق "ظلت تعيش لسنوات في دائرة التهميش والإقصاء، حيث تتوارث الأجيال نفس المعاناة، في غياب أي تحول حقيقي"، مبرزة أن الأصوات المنادية بالإنصاف لم تجد أذانًا صاغية.
وقالت التامني:
"نحن اليوم أمام دق ناقوس الخطر، فالوضع لا يمكن أن يستمر على هذا النحو دون أن يُؤخذ بعين الاعتبار في السياسات العمومية. لهؤلاء السكان حقوق وكرامة، وهذا ما يجب أن يُحترم."
وتساءلت البرلمانية:
"كيف يُعقل أن يكون الجواب في كل مرة هو القمع والتضييق؟ في حين أن صوت هؤلاء الناس يتحدث عن أبسط الحقوق، وكان حريًّا بالحكومة أن تجيب بالفعل، لا بالشعارات."
وختمت بالقول إن المسيرة تنبه الجميع إلى حق المواطنة والكرامة وعيش كريم، وهي قيم غائبة في هذه المناطق المعزولة، في ظل انعدام تواصل فعّال مع الساكنة، وضعف الالتقاط السياسي لرسائلها.
مسيرة آيت بوكماز لم تكن مجرد احتجاج محلي أو صيحة في وادٍ غير مسموع، بل هي جرس إنذار حقيقي يرنّ في أذن الجميع، مؤسسات وحكومةً ومجتمعاً. هذه المسيرة كشفت عمق الأزمة التي تعيشها المناطق الجبلية والقروية في المغرب، وأظهرت مدى تراكم الإهمال والتهميش الذي طال حق هذه الفئات في التنمية والكرامة.
التصريحات المتنوعة للفاعلين السياسيين والحزبيين تؤكد أن القضية لم تعد تهم فقط آيت بوكماز، بل هي تمثل تحدياً وطنياً يستدعي تحركاً سريعاً وشاملاً يُعيد الاعتبار للعدالة المجالية، ويضع حقوق السكان في صلب السياسات العمومية.
إن الاستجابة الفعلية لمطالب ساكنة آيت بوكماز وغيرها من المناطق المهمشة، من تحسين البنية التحتية إلى توفير الخدمات الصحية والتعليمية، هي الخطوة الأولى نحو بناء مغرب أكثر عدلاً وتضامناً، حيث لا يُترك أحد خلف الركب التنموي.
وبينما تنتظر الساكنة الجبلية فصولاً جديدة من الإصلاح، تبقى مسيرة آيت بوكماز علامة مضيئة على قوة الإرادة الشعبية في مواجهة الإقصاء، ورسالة واضحة بأن صوت الهامش لا يمكن تجاهله.