الخطاب الملكي في مرآة الحكامة المؤسساتية والترابية

أمام أعضاء البرلمان المجتمعين لافتتاح الدورة الأولى من السنة التشريعية الخامسة، رسم صاحب الجلالة الملك محمد السائس معالم خارطة طريق جديدة وطموحة للتنمية الترابية. بعيدًا عن كونه مجرد خطاب بروتوكولي، يشكل هذا التدخل الملكي حدثًا بارزًا في مجال الحكامة، يحدد رؤية استراتيجية واضحة ويحشد كافة الفاعلين الوطنيين حول مشروع مجتمعي: بناء “المغرب الصاعد والتضامني”.

رؤية استراتيجية مؤكدة: العدالة المجالية في صلب الأولويات

في جزء بارز من خطابه، أجرى صاحب الجلالة الملك محمد السادس إعادة تركيز استراتيجي أساسي من خلال إعلان “العدالة الاجتماعية ومحاربة اللامساواة المجالية” في مرتبة أولوية وطنية مطلقة. هذا التأكيد يتجاوز بكثير إطار التمنيات الطيبة أو تصريحات النوايا التقليدية. لقد حرص جلالة الملك على التوضيح بأن الأمر يتعلق بـ “توجه استراتيجي” وليس “شعارًا أجوفًا”، تمييز دلالي يحمل دلالات عميقة تمنح هذا الهدف صفة إلزامية ودائمة.

اتجاه سياسي لا لبس فيه

من خلال هذه الصياغة، يمنح جلالة الملك توجهاً سياسياً واضحاً لا يقبل الجدل لعمل الحكومة والبرلمان في السنوات القادمة. لم يعد الأمر مجرد خيار سياسي من بين خيارات أخرى، بل أصبح مبدأً أساسياً يجب عليه الآن أن “يُوجِد في مختلف سياسات التنمية”.

هذا التوجيه يضع القطاعات الحكومية والمؤسسات والجماعات الترابية أمام التزام حقيقي بتحقيق نتائج ملموسة في مجال تقليص الفوارق بين المناطق. الرسالة واضحة: يجب تقييم أي سياسة عمومية، سواء كانت قطاعية أو ترابية، على أساس مساهمتها في تقليص الفجوات بين مختلف أقاليم المملكة.

التنمية المحلية، المقياس الجديد للثروة الوطنية

تشكل العبارة البارزة في الخطاب – ” مستوى التنمية المحلية هو المرآة الصادقة التي تعكس مدى تقدم المغرب الصاعد والمتضامن ” – قطيعة مفاهيمية كبيرة في طريقة فهم التنمية الوطنية. وبذلك يقدم جلالة الملك إطارًا جديدًا لقراءة ازدهار البلاد. بينما كان النمو الاقتصادي يقاس لعقود بشكل أساسي من خلال المؤشرات الكلية – الناتج الداخلي الإجمالي، معدل النمو، الاستثمارات الأجنبية المباشرة – يعيد الخطاب الملكي تسليط الضوء على المستوى المحلي.

هذه الصياغة الجديدة تعني أن ثروة الأمة لم تعد تُقاس فقط بأداء أقطابها الحضرية وقطاعاتها الاقتصادية الرائدة، بل وأيضًا وبشكل خاص بالتحسن الملموس في ظروف عيش المواطنين “أينما كانوا”. وبالتالي فإن “المرآة الصادقة” تعكس حالة المستوصفات في الوسط القروي، وجودة المدارس في المناطق النائية، والولوج إلى الماء الصالح للشرب في الدواوير، وتوفر البنى التحتية الرقمية على كامل التراب الوطني، والحياة الاقتصادية للمدن الصغيرة والمتوسطة.

الجيل الجديد من البرامج: مقاربة متجددة للتنمية الترابية

لترجمة هذه الرؤية على أرض الواقع، يعلن جلالة الملك عن إطلاق “جيل جديد من برامج التنمية الترابية”. يشير هذا المصطلح إلى قطيعة مع المقاربات السابقة التي غالباً ما تعرضت للنقد لعدم فعاليتها، أو طابعها التصاعدي المفرط، أو عجزها عن الاستجابة للخصوصيات المحلية.

ويُلمح مصطلح “الجيل الجديد” إلى برامج أكثر تكاملاً وتشاركية، والأهم من ذلك، أكثر تكيفاً مع واقع كل إقليم. الهدف من ذلك واضح وهو “تسريع مسيرة المغرب الصاعد”، في إشارة إلى أن هناك إلحاحية في التنفيذ. فالتنمية الترابية لم يعد يُنظر إليها كمجرد عنصر ضمن السياسة الاقتصادية، بل أصبحت المحرك الأساسي لعملية الصعود ذاتها.

ويحذر الخطاب من أن المغرب الذي يفشل في معالجة الفجوات الترابية سيعرض طموحه في الصعود للخطر. إذ لا يمكن تحقيق ازدهار مستدام إذا ظل مقتصراً على جيوب تنموية محدودة، تاركاً على الهامش أقاليم كاملة بإمكانياتها غير المستغلة.

ضرورة التضامن الوطني

في ثنايا هذه الرؤية الاستراتيجية، يبرز واجب التضامن الوطني. لا يمكن تحقيق تنمية منسجمة، كما يؤكد جلالة الملك، دون “تكامل وتضامن فعال بين مختلف المناطق والجهات”. يتعلق الأمر ببناء عقد ترابي متجدد حيث تدفع الجهات الأكثر دينامية بالبلد ككل نحو الأمام، وحيث يتم تعزيز إمكانيات كل إقليم – سواء كانت فلاحية أو سياحية أو حرفية أو طاقية – في خدمة مشروع مشترك.

هذا الجزء من الخطاب الملكي يحدد إذن ليس فقط اتجاهًا، بل أيضًا منهجية: مقاربة ترتكز على الأقاليم، تضع الإنسان في المركز وتقوم على العدالة المجالية، كشرط لا محيد عنه للصعود الحقيقي والمستدام للمملكة. الكرة الآن في ملعب السلطات العمومية لترجمة هذه الرؤية إلى إجراءات ملموسة ونتائج قابلة للقياس.

تغيير في المنهجية: من التخطيط إلى الفعالية في العمل

أبعد من الرؤية الاستراتيجية، يتميز الخطاب الملكي بإرادته القوية في تحويل عمق طرق عمل الإدارة وفاعلي التنمية. لم يكتف صاحب الجلالة الملك محمد السادس برسم التوجهات؛ بل حدد ثورة منهجية حقيقية للانتقال من ثقافة التخطيط إلى ثقافة الفعل الفعال والنتيجة الملموسة.

“ثقافة النتيجة”: واجب الأداء العمومي

تشكل الدعوة إلى “ترسيخ حقيقي لثقافة النتيجة” الركيزة الأساسية لهذه المقاربة الجديدة. هذا التعبير، بعيدًا عن كونه مجرد شعار إداري، يمثل نقدًا ضمنيًا لكن لاذعًا للتعقيدات البيروقراطية والبطء الإداري الذي أعاق في كثير من الأحيان تنفيذ السياسات العمومية. يطلب جلالة الملك لا أكثر ولا أقل من تحول في العقليات: لم يعد يكفي تصميم برامج أو التصويت على ميزانيات؛ بل يجب إثبات تأثيرها الملموس على أرض الواقع وفي حياة المواطنين.

هذا المطلب للأداء يفترض متابعة صارمة للمشاريع، وتقييماً منهجياً للسياسات العمومية، وزيادة في المساءلة للمسيرين. وهو يعني أن كل موظف، وكل منتخب، وكل شريك، يجب أن يشعر بالمسؤولية الشخصية لإنجاز المشاريع المسندة إليه.

ثورة البيانات والرقمنة: ركيزة منهجية

لتأسيس هذه الثقافة الجديدة على قواعد متينة، أكد جلالة الملك على ضرورة “جمع معطيات ميدانية دقيقة واستعمال تكنولوجيات رقمية”. هذه الدقة المنهجية حاسمة: إنها تمثل نهاية عصر القرارات المبنية على الحدس أو معلومات تقريبية.

·         المعطى الميداني: يتعلق الأمر بإعطاء الأولوية للملاحظة المباشرة للوقائع الترابية عوض المقاربات التصاعدية والموحدة. لأن فهم الخصوصيات المحلية، وتحديد الحاجات الحقيقية للسكان، وتقييم إمكانيات كل إقليم بدقة، كلها عناصر تتطلب انغماسًا في الميدان وجمعًا منهجيًا لمعلومات موثوقة.

·         الرافعة الرقمية: التكنولوجيات الرقمية تقدم كمُسرع لا غنى عنه لهذا التحول. يجب أن تتيح تحسين تدبير المشاريع، وتعزيز شفافية المساطر، وتسهيل المتابعة في الزمن الحقيقي لمؤشرات الأداء، وتقريب الإدارة من المواطنين.

إدانة بدون لبس للتبذير

يرافق مطلب الأداء رسالة لا غموض فيها حول تدبير المال العام. عبارة ” لأننا لا نقبل أي تهاون في نجاعة ومردودية الاستثمار العمومي” تتردد كتحذير مهيب موجه لجميع مسيري المال العام.

هذه الإدانة للتبذير تعززها الدعوة إلى “محاربة كل ممارسة مستهلكة للزمن والطاقة والموارد”. اختيار المصطلحات ذو دلالة خاصة:

·         الممارسات التي تضيع الوقت: تستهدف التعقيدات الإدارية، المساطر المعقدة بدون داع، التأخيرات غير المبررة في تنفيذ المشاريع.

·         الممارسات التي تضيع الجهد: تشير إلى بذل جهود غير متناسبة مع النتائج المحققة، تكاثر الاجتماعات العقيمة، ازدواجية المساطر.

·         الممارسات الت تضيع الإمكانيات: تندد بتحويل أو سوء توزيع الأموال العمومية، التكاليف الإضافية غير المبررة، الاستثمارات غير المربحة.

خارطة طريق عملية لفاعلي الميدان

هذا التغيير في المنهجية لا يبقى على مستوى المبادئ العامة. بل يترجم إلى انعكاسات ملموسة لجميع فاعلي التنمية الترابية:

1.     للمسيرين الإداريين: يتعلق الأمر بالانتقال من منطق المسطرة إلى منطق النتيجة، بتبسيط دوائر اتخاذ القرار وإضفاء الطابع المسؤول على الفرق.

2.     للمنتخبين المحليين: يجب أن توضع الأولوية على تحديد أهداف واضحة وقابلة للقياس، مع مؤشرات متابعة شفافة.

3.     لمديري المشاريع: يتم التركيز على تحسين التكاليف، احترام الآجال، والقياس الدقيق لأثر الاستثمارات.

4.     لمجموع الشركاء: يجب أن يتم التعاون حول معطيات مشتركة وأهداف جماعية، باستعمال الأدوات الرقمية لتحسين التنسيق.

في الخلاصة، يرسم الخطاب الملكي معالم فلسفة جديدة للفعل العمومي: إدارة مرنة، مدفوعة بالمعطيات، و”مهووسة” بخلق قيمة للمواطن. الرسالة واضحة: لقد ولى عهد التخطيط بدون تنفيذ صارم. حان الوقت الآن للفعالية، والمسؤولية والنتائج القابلة للقياس.

حكامة تشاركية: شأن الجميع

رسم الخطاب الملكي بمهارة معالم نموذج جديد للحكامة، يقيم قطيعة مع المقاربات العمودية التقليدية. لقد وضع صاحب الجلالة الملك محمد السادس المشاركة الجماعية في صلب عملية التنمية، مؤكدًا بقوة أن المهمة ليست “من اختصاص الحكومة وحدها”. هذا المفهوم الموسع للفعل العمومي يمثل تحولًا في النموذج، جاعلاً من بناء “المغرب الصاعد” مشروع مجتمع شامل ومشترك.

تعبئة عامة للفاعلين الوطنيين

أجرى جلالة الملك تفويضًا استراتيجيًا لمجموع القوى الحية للأمة، محددًا سلسلة مسؤوليات واضحة وموسعة:

·         النواب في الصف الأول: بتحديدهم كمن هم “في الصف الأول”، يعيد جلالة الملك وضع التمثيل الوطني في مركز العملية الديمقراطية. لم يعد دورهم مقتصرًا على التصويت على القوانين؛ بل أصبحوا وسائل نقل أساسية “للدعوة لقضايا المواطنين”، وضمان رقابة عمل الحكومة، وتسهيل استفادة الساكنة من السياسات العمومية.

·         الأحزاب السياسية والمنتخبون المحليون: إدراج “المنتخبين في مختلف المجالس المنتخبة، على جميع المستويات” يكرس الدور الأساسي للامركزية الإدارية  من الجهات إلى الجماعات، كل مستوى من الحكامة الترابية مدعو لأن يصبح حلقة نشيطة في تنفيذ الرؤية الملكية، ضامنًا بذلك التوطين المحلي للسياسات العمومية.

·         المجتمع المدني والإعلام: الإشارة الصريحة لهؤلاء الفاعلين ترسخ هذه الهندسة التشاركية. منظمات المجتمع المدني تقدم خبرتها الميدانية وقدرتها على تحريك المواطنين. الإعلام، من جهته، مُوكل بمهمة التربية والتوعية، وإلقاء الضوء على النقاش العمومي والسياسات العمومية وضمان مساءلة المؤسسات.

التواصل: ركيزة الثقة المواطنة

أبعد من مجرد الاستشارة، أقام جلالة الملك التواصل كضرورة استراتيجية حيث ينبغي ” إعطاء عناية خاصة لتأطير المواطنين، والتعريف بالمبادرات التي تتخذها السلطات العمومية ومختلف القوانين والقرارات ” وهذا ما يكشف عن فهم عميق لتحديات الحكامة الحديثة.

·         تواصل استباقي وتربوي: لم يعد الأمر يتعلق بالإعلام بعد فوات الأوان، بل “بمواكبة” المواطنين مسبقًا وطيلة العملية. هذا النهج يهدف إلى شرح مبررات الإصلاحات، تهيئة الأذهان للتغييرات، وتفريق سوء الفهم الذي قد يعرقل الالتفاف الجماعي.

·         الشفافية كضمان للمصداقية: الإشارة الخاصة للقرارات ” التي تهم حقوق وحريات المواطنين بصفة مباشرة ” ليست عابرة. إنها تعترف بأن أكثر الإصلاحات هيكلة لا يمكن أن تنجز بدون جهد خاص للشرح والتبرير. والتوضيح للمواطنين حول دوافع وأهداف القرارات لكي يتم بناء شرعية السياسات العمومية واستعادة الثقة في المؤسسات.

نحو عقد اجتماعي جديد

هذه الرؤية لحكامة تشاركية تتجاوز بكثير الإطار التنفيذي لتلامس فلسفة العقد الاجتماعي نفسه. بربط المواطنين وممثليهم بشكل وثيق بتحقيق المشروع الوطني، يضع الخطاب الملكي أسس عقد اجتماعي جديد يقوم على:

·         المسؤولية المشتركة: كل فاعل، حسب موقعه وإمكانياته، مدعو للمساهمة بنشاط في الجهد الجماعي للتنمية.

·         المساءلة الموسعة: شرعية الإجراءات المتخذة لم تعد تنبع فقط من مطابقتها للمساطر، بل من قدرتها على إنتاج نتائج مرئية ومفهومة من الجميع.

·         الذكاء الجماعي: حشد مجموع الكفاءات والطاقات المتوفرة على جميع المستويات، يزود المغرب نفسه بقدرة متضاعفة على الابتكار والتكيف لمواجهة التحديات المعقدة للتنمية الترابية.

في الخلاصة، لا يكتفي الخطاب الملكي بإطلاق دعوة للمشاركة؛ بل يجعل منها مبدأً هيكلياً للفعل العمومي. الرسالة واضحة: نجاح مشروع تحديث المغرب لن يكون من عمل الدولة المنفرد، بل ثمرة لدينامية جماعية حيث لكل مواطن، وكل مؤسسة، كول منظمة، دور يجب أن يلعبه ومسؤولية يجب أن يتحملها.

ثلاثة مجالات، ثلاث سياسات نوعية

تكمن القوة التنفيذية الكبيرة للخطاب الملكي في ترجمته الملموسة للرؤية الاستراتيجية عبر ثلاثة أنواع من المجالات محددة بوضوح. بالانتقال من المبدأ العام للعدالة الترابية إلى سياسات متمايزة للمناطق الجبلية، الساحل، والمراكز القروية الصاعدة، يظهر صاحب الجلالة الملك محمد السادس فهماً دقيقاً للتحديات النوعية لكل مجال ويرفض صراحة الحل الوحيد والموحد، غالبًا غير الفعال.

1. المناطق الجبلية والواحات: إعادة تأهيل عاجلة عبر سياسة مندمجة

تحديد المناطق الجبلية والواحات كـ “جهات في وضعية هشة جدًا” هو تشخيص لا يحتمل التأويل. بالتدقيق على أنها تغطي 30% من التراب الوطني، يسلط جلالة الملك الضوء على حجم التحدي والضرورة القصوى لإدماجها كليًا في مشروع التنمية الوطني. تجاهلها يعني القبول بأن ما يقرب من ثلث البلاد سيبقى في المؤخرة.

الاستجابة المطلوبة هي “سياسة عمومية مندمجة”. هذا المصطلح حاسم: إنه يعني نهاية التدخلات القطاعية المتناثرة (برنامج فلاحي هنا، مشروع سياحي هناك) لصالح مقاربة شمولية. يجب على هذه السياسة أن تعمل في نفس الوقت على روافع اقتصادية، اجتماعية، بيئية وبنيات تحتية. خاصة:

·         تعزيز الإمكانيات الفريدة: أبعد من هشاشتها، تزخر هذه الأقاليم بثروات: تراث ثقافي وطبيعي، منتجات المجال، طاقات متجددة، إلخ. يجب على السياسة المندمجة أن تعتمد على هذه الأوراق لخلق أنشطة اقتصادية مستدامة.

·         أخذ الخصوصيات بعين الاعتبار: تحديات العزلة، التضاريس أو ندرة الماء في الواحات تتطلب حلولاً مصممة خصيصًا، مستحيلة التصميم من الرباط بدون معرفة عميقة بالميدان.

2. الساحل الوطني: التوفيق بين التنمية والحماية في اقتصاد بحري مستدام

مقاربة الساحل تمثل توازنًا دقيقًا بين ضرورة اقتصادية والحفاظ على البيئة. لا يناصر جلالة الملك التنمية العشوائية، بل يدعو إلى وازن ضروري الهدف منه هو جعل هذه الفضاءات محركات للنمو مع ضمان استدامتها.

يعطي الخطاب خارطة طريق دقيقة بالاعتماد على أدوات موجودة لكن يجب تفعيلها:

·         القانون المتعلق بالساحل والبرنامج الوطني للساحل: يدعو جلالة الملك إلى تنفيذهما الفعلي، مشيرًا بذلك إلى أن الإطار القانوني موجود وأنه حان وقت الانتقال إلى الفعل. هذا يفترض تنظيمًا صارمًا ضد البناء غير القانوني، والتلوث والاحتكار.

·         نحو اقتصاد بحري وطني: الرؤية تتجاوز مجرد الحماية حيث يتعلق الأمر بهيكلة اقتصاد حقيقي للبحر “مولد للثروة والشغل”: صيد مستدام، تربية المائيات، سياحة شاطئية ذات جودة، لوجيستيك مينائي، وتكنولوجيات حيوية بحرية. وبالتالي يُنظر إلى الساحل كنظام إيكولوجي اقتصادي بكل معنى الكلمة.

3. المراكز القروية الصاعدة: تشبيك التراب لتدعيم القرب

يستجيب توسيع البرنامج الوطني لتطوير المراكز القروية الصاعدة لتحد استراتيجي: تثبيت الساكنة القروية وتقليل الهجرة نحو المدن الكبرى. بتحويل هذه المراكز إلى “حلقات فعالة”، يقترح الخطاب الملكي جغرافيا جديدة للخدمات العمومية.

الدور المسند لهذه المراكز ثلاثي:

·         رافعة لتدبير التمدين: بتقديم بدائل ذات جودة للمدينة، تتيح “تقليل الآثار السلبية” لتمدن غالبًا عشوائي ومكلف على هوامش المدن الكبرى.

·         منصة لخدمات القرب: يجب أن تصبح نواقل خدماتية للدولة في الوسط القروي، موفرة “خدمات إدارية، اجتماعية واقتصادية” (الحالة المدنية، علاجات صحية أولية، مكاتب بريد، ولوج للقرض، إلخ). هذا يقلص الفجوة الرقمية والإدارية.

·         محفز للتنمية المحلية: بتركيز التجهيزات والخدمات، يمكن لهذه المراكز أن تنشط الاقتصاد المحلي، وتخلق مناصب شغل في قطاع الخدمات، وتُهيكل مجال عيش جذاب.

الانسجام الكلي: مقاربة نسقية

تكمن قوة هذا التوزيع الترابي للسياسات في انسجامه. لا يتعلق الأمر بثلاثة برامج منعزلة، بل بقطع رئيسية لنفس النسق:

·         المراكز القروية الصاعدة تُهيكل البنية الداخلية للتراب.

·         الساحل يُنشط الواجهة البحرية.

·         المناطق الجبلية والواحات تُعزز الداخل.

هذا التمايز النشط هو الشرط الأساسي لكي يصبح “التضامن الفعال بين مختلف المناطق” الذي نادى به جلالة الملك حقيقة واقعية. كل إقليم، بقواه ونقاط ضعفه، يجد مكانًا واستراتيجية نوعية في المشروع الوطني، مجسدًا بشكل ملموس وعد تنمية عادلة ومتوازنة.

خارطة طريق للسنة التشريعية

في سياق سياسي خاص – السنة الأخيرة من ولاية مجلس النواب – يتجاوز خطاب صاحب الجلالة الملك محمد السادس إطار التوجيه الاستراتيجي البسيط ليتحول إلى خارطة طريق آمرة ونداء مهيب للعمل. لقد حول خطاب جلالة الملك الفترة القبل-انتخابية، التي غالبًا ما تكون مرادفة لتباطؤ الفعل العمومي، إلى فرصة لتسريع الإصلاحات وتنفيذ الالتزامات.

مُهمة تشريعية: الفرصة الأخيرة والمسؤولية التاريخية

الدعوة الملحة إلى “إنجاز العمليات التشريعية” هي ضرورة قاطعة. تضع النواب أمام مسؤوليتهم التاريخية: لكي لا تترك نصوص قانونية أساسية في متاهات المسطرة البرلمانية. يطلب منهم جلالة الملك إنهاء التشريع الجاري، خاصة كل النصوص الضرورية لتشغيل الجيل الجديد من برامج التنمية الترابية. يتعلق الأمر بتجنب “مُهمة تشريعية بيضاء” وضمان أن ترث الحكومة القادمة إطارًا تشريعيًا حديثًا وعمليًا.

بالمقابل، يؤكد الأمر بالبقاء “متيقظين ومنخرطين للدعوة لقضايا المواطنين” المهمة الأساسية للبرلمان. حيث يذكر جلالة الملك في نهاية هذه الولاية أن دور المنتخبين لا يقتصر على التصويت على القوانين في القاعة بل يجب أن يبقوا ناطقين باسم انشغالات مواطنيهم، ضامنين لرقابة عمل الحكومة، ومروجين لا يعرفون الكلل للمصلحة العامة، خاصة مع اقتراب الاستحقاقات الانتخابية حيث يمكن أن تعود الإغراءات الزبونية.

تعبئة كل الطاقات: وطنية فعل تتجاوز الانقسامات

نداء تعبئة “كل الطاقات وكل الإمكانيات” هو رسالة قوية للتماسك الوطني. يتجاوز جلالة الملك عمدًا منطق الأحزاب بأمر الجميع، “الحكومة والبرلمان، كأغلبية وكمعارضة”، بجعل “المصالح العليا للأمة” في المقدمة.

هذه الدعوة تشكل تذكيرًا قويًا بتحديات التنمية الترابية والعدالة الاجتماعية الكبيرة جدًا لكي لا لتُستغل على مذبح المنافسات السياسية. إنها تدعو إلى “وطنية الفعل”، حيث يُحكم على كل فاعل سياسي ليس على انتمائه الحزبي، بل على مساهمته الملموسة في تحقيق الأهداف الوطنية الكبرى. إنها تفويض للتعاون البناء بين التنفيذي والتشريعي، بين الأغلبية والمعارضة، بروح من المسؤولية المشتركة.

سنة الاختبار: من الرؤية إلى النتائج الملموسة

يحدد الخطاب بذلك موعدًا حاسمًا ومعيار تقييم بدون لبس. السنة التشريعية التي تفتح لن تقيم بعدد الخطب التي ألقيت أو اللجان التي عقدت، بل على قدرة المؤسسات على إنتاج نتائج ملموسة. إنها سنة اختبار لنضج القوى السياسية الحالية.

·         بالنسبة للقطاعات الحكومية: المهمة هي ترجمة الرؤية الملكية إلى مشاريع قابلة للتنفيذ، خطط عمل مُدرجة في الميزانية وجدول زمني صارم لإطلاق فعال للبرامج الترابية الجديدة.

·         بالنسبة للبرلمان: التحدي هو إظهار فعالية تشريعية ودقة في الرقابة، بتسريع دراسة النصوص بدون التضحية بجودة النقاش الديمقراطي.

·         بالنسبة لمجموع الطبقة السياسية: الاختبار يكمن في القدرة على تجسيد “النزاهة، الانخراط والتضحية” التي طالب بها جلالة الملك، بإثبات أن مصلحة المواطنين تعلو على كل اعتبار آخر.

في الخاتمة، يأتي الخطاب الملكي كمحفز قوي. يحول رؤية طويلة المدى إلى خطة عمل فورية، ويحدد مسؤوليات واضحة لكل فاعل ويضع مجموع النظام السياسي أمام مسؤوليته القصوى: أن يكون جديرًا بالثقة الملكية، وقبل كل شيء، على مستوى الانتظارات المشروعة للمواطنين. الكرة الآن في ملعب المؤسسات. وسيتذكر التاريخ إذا كانت هذه السنة الأخيرة من المُهمة التشريعية كانت سنة الإنجاز أو سنة الفرصة الضائعة.

أبعاد الخطاب الملكي: هندسة متماسكة لحكامة متجددة

يكشف تحليل معمق للخطاب الملكي عن هندسة حكامة متماسكة بشكل لافت، مُفصلة حول أربع ركائز مترابطة تترجم رؤية طموحة وعملياتية في نفس الوقت للفعل العمومي.

1. رؤية استراتيجية مسيطرة: التوجيه عبر التنمية الترابية

يضع الخطاب بشكل حازم التوجيه الاستراتيجي والتخطيط في قلب فعل الدولة. خارطة الطريق لا تحتمل اللبس: التنمية الترابية والعدالة الاجتماعية لم تعد أهدافًا ثانوية، بل أصبحت النموذج الجديد المركزي لصعود المغرب. برفع “ثنائية العدالة الاجتماعية ومحاربة اللامساواة المجالية” إلى “توجه استراتيجي” دائم، يمنحها جلالة الملك صفة إلزامية ومستعرضة. هذه الرؤية تتجاوز إطار برنامج حكومي بسيط لتصبح مشروع مجتمع يجب أن يتجاوز التناوبات السياسية ويُدمج في كل السياسات القطاعية، من التعليم إلى البنى التحتية مرورًا بالصحة.

2. نموذج حكامة متجدد: من دولة الرفاه إلى الدولة الميسرة

يُجري الخطاب تحولًا عميقًا في نموذج الحكامة، منتقلًا من نظام عمودي إلى مقاربة مندمجة، تشاركية وتُعزز المسؤولية بشكل حازم. بالتأكيد أن مهمة التنمية ليست “من اختصاص الحكومة وحدها”، حيث يقوم جلالة الملك بتفويض استراتيجي للمسؤوليات. هذا التحشيد لمجموع النسق السياسي والمجتمعي – البرلمان، الأحزاب السياسية، المنتخبون المحليون، المجتمع المدني – يشكل نداءً غير مسبوق للمسؤولية المشتركة. لم تعد الدولة وحدها تحمل التنمية، بل شبكة من الفاعلين المترابطين، كل واحد يصبح مسؤولاً عن مساهمته في العمل الجماعي. هذه المقاربة تجعل من التنمية الترابية مشروعًا مواطنًا بقدر ما هو مؤسساتي.

3. نقد ضمني وخارطة طريق متطلبة

خلف التوجهات الاستراتيجية، يُقرأ في الثنايا تشخيصًا بدون مجاملة للاختلالات الحالية. النداءات المتكررة لـ “السرعة”، “الفعالية” و “ثقافة النتيجة”، مقرونة بفضح الممارسات “المستهلكة للزمن والطاقة والموارد”، تشكل نقدًا مقنعًا لكن لاذعًا للبطء البيروقراطي وعدم فعالية بعض الإدارات. يتحول الخطاب بذلك إلى حافز قوي لتسريع وتحسين أداء الفعل العمومي. مطلب “معطيات ميدانية دقيقة” و “استعمال تكنولوجيات رقمية” يكمل هذا الجهاز بوصف علاجات لهذه الأمراض المُحددة.

4. مقاربة ترابية متمايزة: نهاية الحلول الموحدة

الابتكار الكبير للخطاب يكمن في مقاربته الترابية الدقيقة والقابلة للتكيف. باستهدافه نوعيًا ثلاثة أنواع من الأقاليم – مناطق جبلية وواحات، ساحل، مراكز قروية صاعدة – بسياسات مصممة خصيصًا، يدفن جلالة الملك بشكل نهائي أسطورة الحل الوحيد والموحد. هذا التمايز النشط يعترف بتنوع التحديات والإمكانيات للتراب الوطني. إنه يشهد على فهم عميق للوقائع المحلية ويعلن عن قدوم تهيئة تراب “مصممة حسب الطلب”، حيث التضامن الوطني يمر عبر الاعتراف بالخصوصيات الجهوية.

يظهر الخطاب كفعل توجيه أسمى يستعمل بإتقان كل روافع الحكامة الحديثة. يطلق جلالة الملك رؤية، ويوجه الفعل بتوجيهات دقيقة، ويسرع التحول بأوامر حازمة. لكن أبعد من الوصف البسيط، يخلق شروط تحشيد جماعي بتوسيع دائرة المسؤوليات وإقامة مطلب للمساءلة المشتركة. الرسالة واضحة: نجاح مشروع التنمية الترابية سيعتمد على قدرة مجموع المؤسسات والمنتخبين على ترجمة هذه الرؤية إلى إجراءات ملموسة ونتائج قابلة للقياس للمواطنين. هذا الخطاب لا يكتفي بتحديد اتجاه؛ بل يجعله واجبًا أخلاقيًا وسياسيًا لمجموع الأمة.

خلاصة : الخطاب الملكي، فعل تأسيسي لعصر جديد في الحكامة الترابية

يظهر خطاب صاحب الجلالة الملك محمد السادس في افتتاح الدورة البرلمانية أكثر من كونه تقليدًا: إنه يتبين كفعل تأسيسي يرسم معالم عصر جديد للحكامة والتنمية في المغرب. بتركيبه بشكل متماسك لرؤية استراتيجية واضحة، ومنهجية متجددة وخارطة طريق تنفيذية دقيقة. لقد أجرى جلالة الملك تركيبًا لافتًا بين علو النظر وعقلانية الفعل.

إن تكريس العدالة الترابية كـ “توجه استراتيجي” وليس كشعار بسيط، والتأكيد على أن “مستوى التنمية المحلية هو المرآة الحقيقية لتقدم المغرب”، يشكلان تغييرًا في النموذج التدبيري. من الآن فصاعدًا، لن تُقاس ثروة الأمة فقط بمؤشراتها الكلية-الاقتصادية، بل بالتحسن الملموس لظروف عيش كل مواطن، “أينما كان”.

تكمن قوة ومصداقية هذه الرؤية في ترجمتها التنفيذية المتطلبة للثلاثي “ثقافة النتيجة – معطيات ميدانية – تكنولوجيات رقمية” حيث ترسم الأسس الجديدة للفعل العمومي، بينما إدانة الممارسات “المستهلكة للوقت والجهد والإمكانيات” بدون لبس ترسل إشارة قوية لمجموع الإدارة حيث تمايز السياسات بين المناطق الجبلية، الساحل والمراكز القروية الصاعدة يظهر فهماً دقيقاً للوقائع الترابية ويرفض الحلول الموحدة وغير الفعالة.

تخدم هذه المقاربة نموذج حكامة تشاركية غير مسبوق، يجعل من مهمة التنمية “شأن الجميع” – برلمان، منتخبون محليون، أحزاب سياسية، مجتمع مدني وإعلام – قاطعًة بذلك مع المقاربات العمودية في الماضي.

يضع هذا الخطاب الطموح السنة الأخيرة من المُهمة التشريعية تحت علامة الفعل والمسؤولية.  حيث يأمر بـ “إنجاز العمليات التشريعية” وتعبئة “كل الطاقات” عبر تجاوز الانقسامات السياسية ويفرض التزامًا بالنتائج لمجموع الطبقة السياسية. يحدد الخطاب بذلك موعدًا حاسمًا ومعيار تقييم بدون لبس: قدرة المؤسسات على ترجمة الرؤية إلى إجراءات ملموسة ومنافع مرئية للمواطنين. إنه لا أكثر ولا أقل اختبار لنضج ديمقراطي ومصداقية لمجموع المنظومة.

في النهاية، لا يكتفي الخطاب الملكي بتحديد ملامح ضبط سياسة عمومية فقط، بل يرسم ملامح عقد اجتماعي وترابي جديد للمغرب في القرن الحادي والعشرين. عقد يقوم على الإنصاف بين الأقاليم، وفعالية الفعل العمومي، والمسؤولية المشتركة والثقة المستعادة بين الدولة والمواطنين. الكرة الآن في ملعب المؤسسات والقوى الحية للأمة. سيتذكر التاريخ إذا كان هذا الدفع الملكي قد وجد، في واقع الأقاليم ويوميات المغاربة، الترجمة التي تتوق إليها. الطموح في مستوى الرهانات؛ والرهان يستحق أن يُخاض.

سعد بوعشرين / رئيس المعهد الدولي للحكامة

الآراء الواردة في هذا المقال لا تعبر بالضرورة عن رأي بلبريس وإنما عن رأي صاحبها.

المقالات المرتبطة

أضف رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *