الودواري يكتب...الصيام في الإسلام، هل وجوب الصوم ينفي الحرية؟

في كل رمضان يتجدد النقاش حول مسألة وجوب الصيام من عدم وجوبه لكونه مسألة مرتبطة بحرية الإنسان، وفي هذا الصدد سنحاول أن نقارب الموضوع من زاوية النصوص الشرعية كالقرآن الكريم والحديث النبوي، بالإضافة إلى كتب من أصول فقه وعلماء دين، محاولين أن نصل نتيجة موضوعية لمسألة الصيام في رمضان، وفي هذا السياق سنعمل على تعريف أهم الكلمات الأساسية، مثل، الصيام، الوجوب، الحرية، بالإضافة تبيان النصوص من داخل النسق الإسلامي.
بسم الله الرحمان الرحيم: "يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (183) أَيَّامًا مَّعْدُودَاتٍ ۚ فَمَن كَانَ مِنكُم مَّرِيضًا أَوْ عَلَىٰ سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِّنْ أَيَّامٍ أُخَرَ ۚ وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ ۖ فَمَن تَطَوَّعَ خَيْرًا فَهُوَ خَيْرٌ لَّهُ ۚ وَأَن تَصُومُوا خَيْرٌ لَّكُمْ ۖ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ (184) شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِّلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِّنَ الْهُدَىٰ وَالْفُرْقَانِ ۚ فَمَن شَهِدَ مِنكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ ۖ وَمَن كَانَ مَرِيضًا أَوْ عَلَىٰ سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِّنْ أَيَّامٍ أُخَرَ ۗ يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَىٰ مَا هَدَاكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (185) وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ ۖ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ ۖ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ" '' سورة البقرة، الآية 183، 185"
سننطلق أولا من الآيات القرآنية أعلاه في قراءة داخلية بغية فهمها في هذا الإطار، فأول شيء نلاحظه هو النداء الموجه إلى المؤمنين حول موضوع الصيام، ويقول لهم بأنه "كتب عليكم، كما كتب على الذين من قبلكم" وحسب سياق الآية يمكن أن نفهم معنيين لمعنى كتب؛ المعنى الأول أن الصيام حدد لكم في وقت معين، ونجد مثل هذا التفسير في الآية 103 من سورة النساء، يقول الله عزوجل: "إن الصلاة كانت على المؤمنين كتابا موقوتا" وما يعطي للآية نفس المعنى هو أياما معدودات التي تلي الآية، وكذلك كما كتب على الذين من قبلكم، بمعنى آخر أن هناك أمم وديانات أخرى تحدد مواقيت صيامها حسب ما تعتقده. كما أنه هناك معنى ثاني هو معنى "فرض" والدليل على ذلك سياق الآيتين الأولى "فَمَن شَهِدَ مِنكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْه"ُ والآية الثانية تقول "فمن كان مريضا أو على سفر فعدة من آيام أخر، وعلى الذين يطيقونه فدية طعام مسكين" وإلا فلا معنى للرخصة كبديل عن الصيام، ولكن هذا لا ينفي أن الصيام تطوع في نفس الآن حسب سياق الآية ذاته القائل "فمن تطوع خيرا فهو خير له" بمعنى أنه من أراد الصوم من باب التطوع كخير، فإنه سيعود علي" ومن باب الإلحاح يقول الله عزوجل "وأن تصوموا خيرا لكم"، ولذلك فالصيام يدل على معنيين الأول أنه مفروض من عند الله، والثاني يمكن للمؤمن يتطوع خيرا لله عز وجل" وهذا ما سنفصله لاحقا. وتعتبر هذه الآيات هي المحددة للصيام وصيام رمضان خصوصا وعلى أساسها تبنى الأحكام الشرعية بالإضافة إلى مجموعة من الأحاديث الموجودة في صحيح البخاري، حيث سنعتمدها لأسباب منهجية تتمثل في تبيان مسألة الصيام هل واجبة أم مسألة اختيارية؟ أو بتدقيق أكبر بأي معنى يمكن فهم ضرورة الصيام في الإسلام؟ وهل هناك حدود للمفطر من القرآن والحديث؟ وكيف كان المسلمون في عهد النبي صل الله عليه وسلم يتعاملون مع الصيام ؟ بمعنى هل كان هناك اختيار أم إجبار؟
وقبل الإجابة عن هذه الأسئلة يتطلب منا من معرفيا أن نقف عند مجموعة من الألفاظ، أولهم كلمة صوم، ويعني الصوم في لسان العرب عند ابن منظور ترك الطعام والشراب والنكاح والكلام، كما يعني الإمساك عن أي فعل أو قول كان، والصبر على شيء ما، أو الامتناع على قول أو فعل يجعل الإنسان في حالة نشاط، ومن هنا يمكن أن نأخذ صورة معينة عن الكلمة، ونعطي بعض الأمثلة؛ تقول الآية 26 من سورة مريم: "فكلي واشربي وقري عينا فإما ترين من البشر أحدا فقولي إني نذرت للرحمان صوما فلن أكلم اليوم إنسيا" ومعنى الصوم هنا الامتناع عن الكلام، وهنا معنى آخر للصوم، مثلا يقول الرسول صل الله عليه وسلم: "يا معشر الشباب من استطاع منكم الباءة، فليتزوج فإنه أغض للبصر وأحصن للفرج، ومن لم يستطع فعليه بالصوم فإنه له وجاء" والصوم هنا إذا لم يكن الإنسان قادرا على الزواج فليمتنع عنه إلى حين أن تتوفر الشروط، وسياق الحديث يوضح ذلك، وهنا معنى ثالث للصيام ويعني الامتناع عن النكاح وقول الكلام الخبيث وكذلك الصبر وكذلك الامتناع عن الأكل، يقول النبي (ص): "الصيام جنة فلا يرفث ولا يجهل، وإن امرؤ قاتله فليقل: إني صائم مرتين، والذي نفسي بيده لخلوف فم الصائم أطيب عند الله تعالى من ريح المسك، يترك طعامه وشرابه وشهوته من أجلي، الصيام لي وأنا أجزي به والحسنة بعشرة أمثالها". إذن هذه هي المعاني الممكنة لكلمة الصيام أو الصوم وأعتقد بأنه لا فرق بينهما وإنما المسألة هي مسألة تصريف لغوي يجوز على الشكلين، والأحاديث هنا تؤكد ذلك، ومنه يمكن فهم معنى الصيام هو الامتناع المقصود عن فعل شيء معين يجعل الإنسان في حالة نشاط.
والآن سنتطرق إلى لفظة "كُتِبَ" التي جاءت في سورة البقرة، فالكلمة آتية من فعل كَتب، ويعني الفعل خط الشيء أي رسمه في خط، وكتب الكتاب تعني عقد قران الزواج، كما تعني اقترف زلة أو خطأ، بناء قوله تعالى "فويل مما كتبت أيديهم"، وكتب الله شيء، قدره، قضاه وأوجبه، مثل "كتب على نفسه الرحمة" وكتب مسرحية أي ألفها، وكتب في الأرض معناه منحه إياها، وكتب في العلم، معناه بحث فيه وعالجه، فهذه إذن هي معاني كتب، وكُتِبَ هنا فعل مبني للمجهول تقديره غائب وهو الله هنا. ثم سنتطرق إلى كلمة حرية، ولكن قبلها سنتحدث عن تطوع، بناء على ما جاء في الآية "فمن تطوع"، وتعني الكلمة قام بفعل بناء على رغبته واختياره، مثلا تطوع لمساعدة الناس، تعني تنفيذ رغبة اختيارية في المساعدة، وتعني التبرع بالشيء، مثل تطوع بماله، وكذلك تعني وهب، مثل وهب حياته فداءً، ويعني التطوع في الشرع زيادة على الفرض والواجبات، مثل صلاة النوافل، ومن هنا يبرز مفهوم الحرية، التي تعني القدرة على فعل الشيء وضده مع تحمل المسؤولية في نتائجه قبل وبعد الفعل. ومن هنا سننتقل إلى الجواب على الأسئلة التالية وهو هل الصوم فرض أم اختيار، وقبل الإجابة على السؤال وحتى نكون أكثر موضوعية، سنضع مجموعة من الأحاديث من صحيح البخاري، لكي نوضح المسألة أكثر في الشرح والتفسير.
1. حدثنا قتيبة بن سعيد، حدثنا اسماعيل بن جعفر عن أبي سهيل عن أبيه طَلْحَةَ بْنِ عُبَيْدِ اللَّهِ، أَنَّ أَعْرَابِيًّا، جَاءَ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم ثَائِرَ الرَّأْسِ فَقَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ أَخْبِرْنِي مَاذَا فَرَضَ اللَّهُ عَلَىَّ مِنَ الصَّلاَةِ فَقَالَ ‏"‏ الصَّلَوَاتِ الْخَمْسَ، إِلاَّ أَنْ تَطَّوَّعَ شَيْئًا ‏"‏‏.‏ فَقَالَ أَخْبِرْنِي مَا فَرَضَ اللَّهُ عَلَىَّ مِنَ الصِّيَامِ فَقَالَ ‏"‏ شَهْرَ رَمَضَانَ، إِلاَّ أَنْ تَطَّوَّعَ شَيْئًا ‏"‏‏.‏ فَقَالَ أَخْبِرْنِي بِمَا فَرَضَ اللَّهُ عَلَىَّ مِنَ الزَّكَاةِ فَقَالَ فَأَخْبَرَهُ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم شَرَائِعَ الإِسْلاَمِ‏.‏ قَالَ وَالَّذِي أَكْرَمَكَ لاَ أَتَطَوَّعُ شَيْئًا، وَلاَ أَنْقُصُ مِمَّا فَرَضَ اللَّهُ عَلَىَّ شَيْئًا‏.‏ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم ‏"‏أَفْلَحَ إِنْ صَدَقَ، أَوْ دَخَلَ الْجَنَّةَ إِنْ صَدَقَ ‏"‏‏.‏
2. حدثنا قتيبة بن سعيد حدثنا الليث عن يزيد بن أبي حبيب أن عراك بن مالك حدثه عروة أخبره عن عائشة رضى الله عنها؛ أَنَّ قُرَيْشًا، كَانَتْ تَصُومُ يَوْمَ عَاشُورَاءَ فِي الْجَاهِلِيَّةِ، ثُمَّ أَمَرَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بِصِيَامِهِ حَتَّى فُرِضَ رَمَضَانُ وَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم ‏"‏مَنْ شَاءَ فَلْيَصُمْهُ، وَمَنْ شَاءَ أَفْطَرَ‏"‏‏.‏
3. حدثنا خالد بن مخلد حدثنا سليمان بن بلال قال: حدثني أبو حازم عَنْ سَهْلٍ ـ رضى الله عنه ـ عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ ‏"‏ إِنَّ فِي الْجَنَّةِ بَابًا يُقَالُ لَهُ الرَّيَّانُ، يَدْخُلُ مِنْهُ الصَّائِمُونَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، لاَ يَدْخُلُ مِنْهُ أَحَدٌ غَيْرُهُمْ يُقَالُ أَيْنَ الصَّائِمُونَ فَيَقُومُونَ، لاَ يَدْخُلُ مِنْهُ أَحَدٌ غَيْرُهُمْ، فَإِذَا دَخَلُوا أُغْلِقَ، فَلَمْ يَدْخُلْ مِنْهُ أَحَدٌ ‏"‏‏.‏
4. حدثنا عبيد الله بن موسى عن إسرائيل عن أبي اسحاق عن البراء رضي الله عنه قال قَالَ كَانَ أَصْحَابُ مُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم إِذَا كَانَ الرَّجُلُ صَائِمًا، فَحَضَرَ الإِفْطَارُ، فَنَامَ قَبْلَ أَنْ يُفْطِرَ لَمْ يَأْكُلْ لَيْلَتَهُ وَلاَ يَوْمَهُ، حَتَّى يُمْسِيَ، وَإِنَّ قَيْسَ بْنَ صِرْمَةَ الأَنْصَارِيَّ كَانَ صَائِمًا، فَلَمَّا حَضَرَ الإِفْطَارُ أَتَى امْرَأَتَهُ، فَقَالَ لَهَا أَعِنْدَكِ طَعَامٌ قَالَتْ لاَ وَلَكِنْ أَنْطَلِقُ، فَأَطْلُبُ لَكَ‏.‏ وَكَانَ يَوْمَهُ يَعْمَلُ، فَغَلَبَتْهُ عَيْنَاهُ، فَجَاءَتْهُ امْرَأَتُهُ، فَلَمَّا رَأَتْهُ قَالَتْ خَيْبَةً لَكَ‏.‏ فَلَمَّا انْتَصَفَ النَّهَارُ غُشِيَ عَلَيْهِ، فَذُكِرَ ذَلِكَ لِلنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فَنَزَلَتْ هَذِهِ الآيَةُ ‏{‏أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ الرَّفَثُ إِلَى نِسَائِكُمْ‏}‏ فَفَرِحُوا بِهَا فَرَحًا شَدِيدًا، وَنَزَلَتْ ‏{‏وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الأَسْوَدِ‏}‏‏.‏
5. حدثنا أبو اليمان أخبرنا شعيب عن الزهري قال: أخبرني حميد بن عبد الرحمان أن أبا هريرة رضي الله عنه قال: قَالَ بَيْنَمَا نَحْنُ جُلُوسٌ عِنْدَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم إِذْ جَاءَهُ رَجُلٌ، فَقَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ هَلَكْتُ‏.‏ قَالَ ‏"‏ مَا لَكَ ‏"‏‏.‏ قَالَ وَقَعْتُ عَلَى امْرَأَتِي وَأَنَا صَائِمٌ‏.‏ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم ‏"‏ هَلْ تَجِدُ رَقَبَةً تُعْتِقُهَا ‏"‏‏.‏ قَالَ لاَ‏.‏ قَالَ ‏"‏ فَهَلْ تَسْتَطِيعُ أَنْ تَصُومَ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ ‏"‏‏.‏ قَالَ لاَ‏.‏ فَقَالَ ‏"‏ فَهَلْ تَجِدُ إِطْعَامَ سِتِّينَ مِسْكِينًا ‏"‏‏.‏ قَالَ لاَ‏.‏ قَالَ فَمَكَثَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم، فَبَيْنَا نَحْنُ عَلَى ذَلِكَ أُتِيَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم بِعَرَقٍ فِيهَا تَمْرٌ ـ وَالْعَرَقُ الْمِكْتَلُ ـ قَالَ ‏"‏ أَيْنَ السَّائِلُ ‏"‏‏.‏ فَقَالَ أَنَا‏.‏ قَالَ ‏"‏ خُذْهَا فَتَصَدَّقْ بِهِ ‏"‏‏.‏ فَقَالَ الرَّجُلُ أَعَلَى أَفْقَرَ مِنِّي يَا رَسُولَ اللَّهِ فَوَاللَّهِ مَا بَيْنَ لاَبَتَيْهَا ـ يُرِيدُ الْحَرَّتَيْنِ ـ أَهْلُ بَيْتٍ أَفْقَرُ مِنْ أَهْلِ بَيْتِي، فَضَحِكَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم حَتَّى بَدَتْ أَنْيَابُهُ ثُمَّ قَالَ ‏"‏ أَطْعِمْهُ أَهْلَكَ ‏"‏‏.‏
6. وَيُذْكَرُ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَفَعَهُ ‏"‏ مَنْ أَفْطَرَ يَوْمًا مِنْ رَمَضَانَ، مِنْ غَيْرِ عُذْرٍ وَلاَ مَرَضٍ لَمْ يَقْضِهِ صِيَامُ الدَّهْرِ، وَإِنْ صَامَهُ ‏"‏‏.‏ وَبِهِ قَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ‏.‏ وَقَالَ سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيَّبِ وَالشَّعْبِيُّ وَابْنُ جُبَيْرٍ وَإِبْرَاهِيمُ وَقَتَادَةُ وَحَمَّادٌ يَقْضِي يَوْمًا مَكَانَهُ.
7. عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ، قَالَ كُنَّا نُسَافِرُ مَعَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فَلَمْ يَعِبِ الصَّائِمُ عَلَى الْمُفْطِرِ، وَلاَ الْمُفْطِرُ عَلَى الصَّائِمِ‏.‏
أمامنا أحاديث مختلفة من الحديث بهدف فهم هل الصيام مسألة مفروضة أم اختيارية؟ وحتى إذا افترضنا بأن الصيام مسألة اقتضاها الله على المسلم كما تقول التفاسير مثل الطبري والبغوي وغيرهما من المفسرين القدامى، فهل تنفي الاختيار والطواعية؟ ولكي ندقق أكثر هل كل من الإجبار والاختيار هنا في هذه اللحظة تنافر أم بالعكس متكاملين مع بعضهما البعض. يذكر لنا الحديث الأول أن الصيام مفروض على المؤمن المسلم، وإن الأعرابي الذي جاء النبي محمد (ص) متفق مع هذه المسألة إذ يقول: "قَالَ وَالَّذِي أَكْرَمَكَ لاَ أَتَطَوَّعُ شَيْئًا، وَلاَ أَنْقُصُ مِمَّا فَرَضَ اللَّهُ عَلَىَّ شَيْئًا‏." بمعنى آخر بما أنه مؤمن مسلم سيلتزم بما فرضه عليه الله دون أن يزيد شيئا تطوعا، ويقول النبي في هذه المسألة: ‏"‏أَفْلَحَ إِنْ صَدَقَ، أَوْ دَخَلَ الْجَنَّةَ إِنْ صَدَقَ ‏"‏‏.‏ وهذا يعني أن الصوم كفرض يتطلب الصدق مع الله وأن يكون خالصا إليه، أي أن يصوم المؤمن المسلم ليس من باب الادعاء بأنه صائم، وإنما يقوم بواجب التزم به مع الله، ويؤكد هذا الحديث الثاني الذي يقول بأن رمضان تم فرضه بعدما تم إلغاء يوم عاشوراء التي كانوا يصومونها المسلمون في عهد النبي، ولكن من شاء صامها ومن لم يشأ تركها، وهذا ما يتفق مع منطوق الآية: "يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ". وإلى جانب هذين الحديثين هناك حديث ثالث، الذي يقول فيه النبي بأنه هناك باب خاص بالصائمين اسمه "باب الرّيان" بمعنى آخر أن هذا الباب يعطى امتيازا للصائمين دون غيرهم، أي يختص الصائمون بالعموم بامتياز دون غيرهم من باقي المؤمنين بهذا الباب كأفضلية، وهذا قد يدل على أن المسلمون في البداية شق عليهم الصيام، ولكي يلح عليهم الله ورسوله أعطى للصائمين امتيازا على الباقي، وإلا فما معنى اختصاصهم بهذا الباب؟ وهذا لا ينفي ضرورته عليهم، وإنما يدخل في إطار التدرج الذي من شأنه يفتح امتيازات أخرى، ولكي نقرب المسألة جيدا نقول مثلا أن أحد الأبوين أو كلاهما يقول لابنه أو بنته إذا قمت بواجباتك الدراسية فإني سأكافئك بشيء معين قد تكون نقودا مضافة أو حلويات أو نزهة...إلخ، وهذا ما ينسجم مع الآية التالية " فَمَن تَطَوَّعَ خَيْرًا فَهُوَ خَيْرٌ لَّهُ ۚ وَأَن تَصُومُوا خَيْرٌ لَّكُمْ" وهذا يعني أن الصيام هو التزام ذاتي أكثر من كونه إلزاما من الخارج، أي أن المؤمن يلتزم بنفسه مع الله للقيام بواجب يراه من جهته أنه مطالب بتنفيذه، هذا من جهة ومن جهة أخرى يتطلب القدرة الجسمية والنفسية لإخراج هذا الالتزام من القوة إلى الفعل، لنعطي مثال، نجد إنسانا مريضا مرضا لا يستطيع معه الصوم، أي لا يتوفر فيه شرط التفعيل، بالرغم من توفره على شرط الالتزام الذاتي الذي من خلال يرى بأنه ينبغي عليه أن يصوم ولهذا وجدنا رخصة المرض التي تحدث عنها القرآن. ولذلك يمكن فهم معنى فرض الصيام بأن المؤمن يلتزم من حيث الإيمان بالصيام بأنه واجب عليه، وهو ينفذه كالتزام ذاتي بينه وبين الله، أي في العلاقة العمودية بين الله من جهة والعبد من جهة أخرى، لكن هذه العلاقة لا يمكن أن تنقلب إلى ما هو أفقي بين المؤمن المسلم وآخر، لأنه في هذه الحالة قد يمارس شططا باسم الله في مسألة لا تخصه بتاتا، وإنما هي مسألة بين الله والعبد. لكن هذا لا ينفي تفسيرا آخر لمعنى أن التطوع في الصيام هو مسألة تنطلق من رغبة الإنسان في الصيام من عدمه كتطوع، أي كرغبة إذا أراد أن يقوم بها له جزاؤها وإن أراد ضدها فتلك المسألة هي بين الله والعبد، وللدليل أيضا من الحديث الشريف تأكيدا للآية القائلة "فمن تطوع خيرا". إذ كان الصيام شاق على المسلمين، وكانوا في البداية يصومون منذ صلاة العشاء إلى صلاة المغرب لليوم التالي، وكان بعضهم لا يستطيع القيام بذلك حيث كان منهم من يجامع زوجه في الصيام الذي كان مفروضا عليهم، والدليل هو الحديث القائل: "إِنَّ قَيْسَ بْنَ صِرْمَةَ الأَنْصَارِيَّ كَانَ صَائِمًا، فَلَمَّا حَضَرَ الإِفْطَارُ أَتَى امْرَأَتَهُ، فَقَالَ لَهَا أَعِنْدَكِ طَعَامٌ قَالَتْ لاَ وَلَكِنْ أَنْطَلِقُ، فَأَطْلُبُ لَكَ‏.‏ وَكَانَ يَوْمَهُ يَعْمَلُ، فَغَلَبَتْهُ عَيْنَاهُ، فَجَاءَتْهُ امْرَأَتُهُ، فَلَمَّا رَأَتْهُ قَالَتْ خَيْبَةً لَكَ‏.‏ فَلَمَّا انْتَصَفَ النَّهَارُ غُشِيَ عَلَيْهِ، فَذُكِرَ ذَلِكَ لِلنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فَنَزَلَتْ هَذِهِ الآيَةُ ‏{‏أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ الرَّفَثُ إِلَى نِسَائِكُمْ‏}‏ فَفَرِحُوا بِهَا فَرَحًا شَدِيدًا" ولذلك فالصوم الذي نصومه نحن اليوم لا يشيه الصوم في بدايته، بل أقصر منه في المدة ويسمى بصيام الرفث، كما تقول الآية، حيث تمت إضافة الجماع ما بين العشاء والفجر. وكذلك مما يدل على أن الصيام في بداية عهد الإسلام شق على المسلمين، هو حادثة الرجل الذي قال للنبي (ص): "فَقَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ هَلَكْتُ‏.‏ قَالَ ‏"‏ مَا لَكَ ‏"‏‏.‏ قَالَ وَقَعْتُ عَلَى امْرَأَتِي وَأَنَا صَائِمٌ" وهذا يدل على أن الإنسان ليس كله يصبر على التكليف، وإنما هناك من الناس من تهون أنفسهم ويتجهون نحو ميولاتهم الطبيعية التي هي الأصل في الإنسان، وما يؤكد ذلك هو أن النبي (ص) تفهم الأمر ولم يقم بأي حد أو عقوبة تجاهه، وإنما تدرج له في نوع الفدية التي يمكن أن يتصدق بها مقابل عدم صيام، من عتق رقبة، صوم ستين يوما، إطعام ستين مسكين، إلى التصدق بعرق تمر، بل أكثر من ذلك فإنه تصدق بها لنفسه نظرا لحاجته هو وعائلته، وهذا يقترب إلى الآية القائلة "وعلى الذين يطيقونه فدية طعام مسكين"، والفدية ليست هي الكفارة، فليس هناك كفارة في الصيام وإنما فدية، والفرق بينهما واضح، وهو حسب الفقهاء والأصوليين أن الكفارة تجيب العقوبة بخلاف الفدية فإنها ليس فيها معنى العقوبة، وهذا ما لاحظناه في الحديث الذي ذكرناه هنا. وما يزيد قوة هذا الطرح الذي نقول، حديث آخر يؤكد أن الصوم اختيار والتزام ذاتي أكثر من كونه إجبارا كما يذهب العديد من الجمهور، يقول الحديث الشريف: ‏"‏مَنْ أَفْطَرَ يَوْمًا مِنْ رَمَضَانَ، مِنْ غَيْرِ عُذْرٍ وَلاَ مَرَضٍ لَمْ يَقْضِهِ صِيَامُ الدَّهْرِ، وَإِنْ صَامَهُ ‏"‏‏.‏ وهذا يؤكد أنه لا إجبار على الصيام، وكما قلنا سابقا بأن الصائمون لهم امتياز إيجابي دون غيرهم هو دخول "باب الرّيان" للجنة، وأنه لا عقوبة ولا حد ولا كفارة على الإفطار وإنما الفدية، وحتى في حالة الاستثناء مثل السفر يمكن للإنسان أن يصوم أو يفطر بناء على قدرته البدنية والنفسية، بناء على الحديث القائل: " عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ، قَالَ كُنَّا نُسَافِرُ مَعَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فَلَمْ يَعِبِ الصَّائِمُ عَلَى الْمُفْطِرِ، وَلاَ الْمُفْطِرُ عَلَى الصَّائِمِ‏.‏" ومن هنا نصل إلى مجموعة من مستويات الصيام.
• المستوى الأول: أن صيام رمضان هو فرض على المؤمن المسلم، وهذا الفرض هو التزام ذاتي بين العبد وخالقه، في إطار العلاقة العمودية بين طرفين، ولا ينبغي أن تنتقل هذه العلاقة من العمودي إلى الأفقي بين المؤمن والآخر.
• المستوى الثاني: أن الصيام أيضا تطوع، ولا ينفي هذا الفرض، بمعنى ينبغي على المؤمن المسلم أن يشعر بأنه يلتزم ذاتيا بينه وبين الله بفرض هو معتقد به.
• المستوى الثالث: هو أن الله خص الصائمين بامتياز وأفضلية على غيرهم في الآخرة.
• المستوى الرابع: التحول الذي طرأ على صيام رمضان في بداية العهد الإسلامي، والمشقة التي أحس بها المسلمون، ولذلك كانوا يميلون إلى غريزتهم الطبيعية بدل الصيام.
• المستوى الخامس: هو أن عدم الصيام يقابل الفدية بالنسبة لمن يرى بأنه أخل بالتزامه مع الله، وهذه الفدية قد تكون إليه أو للمقربين منه حسب الحاجة.
• المستوى السادس: هو أن الصيام اختيار، من صامه له الجزاء ومن لم يصمه فالحساب بينه وبين الله، بناء على الحديث القائل: "الصوم لي وأنا أجزي به".
• المستوى السابع: هو أن الصيام حتى في حالة الاستثناء، من استطاع صامه ومن لم يستطع لم يصمه.
وبالرغم من هذا هناك من قد يحتج علينا بكون أن آيات التطوع في الصوم قد نسخت، بمعنى أبطلت وأزيلت، وإذا ذهبنا معه في هذا الاتجاه، يبقى الصيام باعتباره فرضا أي التزاما ووجوبا ذاتيا بين العبد والله، دون أن يتحول إلى إجبار بين المؤمن والآخر، هذا إذا افترضنا النسخ، أما إذا لم نفترض ذلك، نقول بأن مسألة النسخ هي عملية إشكالية بين الأصوليين الفقهاء وعلماء القرآن، سواء من حيث رفض النسخ، مثل ما يقول الأزهري عبد المتعالي الجبري، أو أبو مسلم الأصبهاني المعتزلي الذين أخذوا عنه مجموعة من الفقهاء من أهل السنة، أو من يأخذ بالنسخ يتفاوت في عدد المنسوخات من أربعة إلى ما يزيد عن مئة آية. وحسب الشيخ محمد الغزالي في كتابه "نظرات في القرآن" بأن النسخ لا يعني فقط الإبطال أو كما هو معروف إبطال الحكم سبق نزوله والإتيان بحكم جديد أصلح منه أو أدنى منه إلى الحق، وإنما يعني أيضا التدرج، بحيث يتدرج الحكم حسب كل وضعية معينة تختلف حسب الشروط والظروف، وقد يعني الاستثناء بحيث هناك المستثنى والمستثنى منه، ويقول الأصولي أبو الفضل عبد الله بن محمد بن الصديق الغماري الطنجي، بأنه لا يدخل النسخ في جميع الأحكام، وإنما يدخل في بعضها، وهو الوجوب والتحريم والإباحة. ودخول النسخ في هذه الأحكام ضروري، لا بد منه بسبب تطور الأمم وتدنيها أو ترقيها، ولكل جيل أو أمة أحكام تناسب حالها ومجتمعها، ونحن قلنا بأي معنى الصيام واجب على المسلم، ولكن وجوبه لا ينفي التطوع فيه من باب الخير، بناء على الآيات الواردة فيه، كما أن إجبارية الصوم لا يمكن أن تكون اليوم في مجتمع مثل مجتمعنا نظرا لكوننا متعددين ومنفتحين على العالم، ولذلك لا ينبغي إسقاط أحكام خلت على مجتمع مثل مجتمعنا، وهذا لا ينفي إسلامه، ويضيف الشيخ الغماري بأن النسخ ممتنع لعدة أسباب من أهمها أنه لا يمكن أن يقول الله قولا ويغيره في ما بعد، فهذا من عمل البشر نظرا لما يحوزهم من نقصان، يقول: "معنى نسخ التلاوة عند القائلين به: أن الله أسقط الآية المنسوخة من القرآن، وهذا خطير جدا، لأن كلام الله قديم، وكيف يعقل أن يغير الله كلامه القديم، بحذف آيات منه" بمعنى آخر كيف يعقل أن يقول الله في السورة نفسها بالقول وضده أي يقول وجوب الصوم والتطوع فيه في الآن ذاته، وينفي أخرهما الآخر فهذا محال عليه. ويرى أنه تقرر في علم الأصول، أن ظواهر النصوص تؤول لتوافق الدليل العقلي لأن الظواهر لا تقبل التأويل". ويقول شيخ الأزهر علي جمعة: بأنه هناك شيء يدعى بالنَّساء، معناه أن لكل أية في القرآن شروطها وظروفها وهي لا تنفي بعضها البعض، ويقول محمد الغزالي بأن معنى الآية لا ينبغي أن تفهم بالمعنى الحرفي، وإنما لها دلالات متعددة مثل الآيات التكوينية، مثل الآيات القصصية...إلخ، وهذا ما يجعل أن الآيات الواردة في القرآن بالنسبة لصوم رمضان كلها جائزة، سواء من حيث كونها فرضا على المسلم، وهذا الفرض لا ينفي التطوع، ومعناه أن الصيام يلتزم به المؤمن المسلم ذاتيا مع الله، ولا يعنيه باقي الناس في صومهم من عدمهم مادام أن المسألة مرتبطة بالله عز وجل، وينبغي على المؤمن المسلم أن يفترض بأن المفطر أمامه قد يكون من ديانة أخرى أو لا يدين بشيء، أو مريض أو على سفر أو مسلم لا يطيق الصيام، وهو لا يحق له التدخل في هذه الشؤون الذاتية.
مصادر ومراجع:
-القرآن الكريم.
سورة البقرة، (الآية 183 -185)
سورة مريم، (الآية 26)
سورة البقرة (الآية 79)
الأحاديث النبوية، صحيح البخاري، باب الصوم.
محمد الغزالي، نظرات في القرآن.
بن الصديق الغماري الطنجي، ذوق الحلاوة في نسخ التلاوة.