تتجه بعض أحزاب اليسار للتنسيق فيما بينها بشأن المشهد السياسي المغربي، لكون هذا المشهد يعاني من تنسيقيات وتحالفات مشينة واعتباطية، لا رابط ايديولوجي او فكري او تاريخي بينها اللهم تقاسم المصالح والسلطة، وهذه الملاحظة تعمم على احزاب الاغلبية واحزاب المعارضة.
فالأغلبية الحكومية الحالية تبنت مبدأ التوافقات، بعد أن عانى المغرب في فترة حكومة "بنكيران" و"العثماني"، من تأخر مجموعة من الأوراش الكبرى، نتيجة لحسابات سياسية ضيقة، فهم منها أن الاختلاف رحمة، فأدى توسيع هامش الإختلافا إلى اختلافات، انعكست ضد التوافقات، بالرغم من أنها ميزة ديمقراطية حسنة.
فالوسم الأول الذي تبناه تحالف الأغلبية هو التوافقات، كثابت في الميثاق الأغلبية الحكومية المكونة من "الأحرار" و"الأصالة والمعاصرة" و"الإستقلال"، والتأكيد على التجانس الحكومي، وتجاهل الاختلافات التي من شأنها عرقلة مسار الحكومة.
وقد أدى هذا الشعار إلى انتشار خطاب ولغة واحدة في المشهد السياسي المغربي، يقوم على عبارة واحدة مفادها "العام زين"، مما أدى بالحكومة لأن تكون في موقع قوة، وتمرر ما تشاء، دون القبول بالاختلاف الذي من شأنه تقويم السياسات الحكومية، عبر الممارسة الديمقراطية والمؤسساتية.
كما سجلت الساحة السياسية غياب زعماء الأحزاب السياسية والقيادات الحزبية، بالإضافة إلى سواد خطاب رومانسي حول الأوضاع الاجتماعية والاقتصادية؛ في المقابل ظهر المؤثرون في الفضاء الرقمي لأداء دور المعارضة، في ظل الاحتقان الذي سجلته الساحة العمومية في كثير من المحطات.
وقد أضحت الاحتجاجات تؤطر من الفضاء الرقمي، عبر قيادات رقمية مجهولة بدون تاريخ اوكاريزما اوأهلية، الأمر الذي من شأنه أن يقوض المشهد السياسي، في ظل سواد لغة واحدة في المشهد السياسي المؤسساتي، وغياب آليات الرقابة والوساطة والتقويم.
وفي ظل هذا الوضع، ومن باب المسؤولية السياسية، استيقظ أخيرا كل من حزب "الاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية" و"التقدم والاشتراكية"، لأجل أداء هذا الدور، لمواجهة الأغلبية الحكومية القوية، على المستوى المركزي والجهوي؛ رغم أن تلك الأحزاب تعاني من ضعف الآليات والأرقام، في مواجهة الحكومة التي تستقوي بالمعطى الكمي لما أفرزته صناديق الاقتراع.
وقد ظهر جليا ضعف الأحزاب التي اصطفت في خندق المعارضة، من خلال بدعة سياسية للأغلبية، مكنت منسقي الأحزاب من التحكم في البرلمان والجماعات الترابية، دون أداء تلك المؤسسات لأدوارها الدستورية في تقويم المسار الحكومي والتنمية المحلية.
وفي هذا الباب وقع حزب "الاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية" و"التقدم والاشتراكية"، وثيقة "التصريح السياسي المشترك"، خلال لقاء بين المكتبان السياسيان، يوم الجمعة 15 دجنبر 2023؛ برئاسة "إدريس لشكر" و"نبيل بنعبد الله"، حول خارطة الطريق للعمل السياسي المشترك.
وحسب الإعلان، فإن الوثيقة تشكل اللبنة الأولية لمبادرة التنسيق بين زعماء الأحزاب؛ بعلة الاختلالات والممارسات التي تطبع المشهد السياسي الوطني السلبي، منذ اللحظات الأولى لتشكيل حكومة "أخنوش"، المكونة من "التغول الثلاثي" على حد ما جاء في البيان، أما أسباب النزول وفقا لما أدلى به زعماء الأحزاب، يتمثل في:
- هوس الأغلبية بالهيمنة والاستفراد بالقرار السياسي المركزي والمحلي؛
- السعي نحو تكريس منطق الهيمنة والتحكم؛
- انعدام التجانس بين مكوناته الاغلبية وتعارض مصالحهم في العديد من اللحظات؛
- ارتباك حكومي ملحوظ في تدبير الشأن العام؛
- ارتجالية في معالجة مجموعة الملفات الحساسة خاصة في المجالين الاقتصادي والاجتماعي.
وقد أشار البيان إلى مستوى الصراعات والتناقضات بين الأغلبية، كشفتها بروز تناقضات وصراعات على المستوى الجهوي والمحلي، عرقلت السير العادي في المؤسسات المنتخبة، ما أدى في كثير من الأحيان إلى تعطيل العملية التنموية، وعرقلة الأداء العمومي لخدمة مصالح المواطنات والمواطنين.
ويرى الكاتب الأول للاتحاد الاشتراكي "إدريس لشكر"، أن الوضع السياسي سجين منطق التغول، ويطبعه الغموض والتردد في معالجة المشاكل الاقتصادية والاجتماعية الأساسية، وينعكس بشكل سلبي على المسار الديمقراطي، ويهدد التوازن المؤسساتي، ويشكل خرق صريح لما تنص عليه المقتضيات الدستورية في هذا الشأن.
كما أكد "إدريس لشكر" على غياب الامتداد البرلماني للأغلبية الحكومية، وافتقاره القدرة على تمرير مبادرات تشريعية، بالإضافة إلى التباين بين مكونات الأغلبية البرلمانية، وانعدام القدرة على توحيد قرارها، بشأن العديد من القضايا المطروحة على البرلمان في الجلسات العامة أو في اللجان الدائمة.
وسجل "لشكر" سيادة الفهم الكمي للممارسة الديمقراطية، بفرض الأغلبية العددية، والتضييق على المعارضة البرلمانية، بالرغم من الحقوق الدستورية التي تتمتع بها، ونوعية المقترحات والمبادرات التي أقدمت عليها، خاصة مبادرات فريق "المعارضة الاتحادية" و"فريق التقدم والاشتراكية"؛ مضيفا أن الدستور يضمن حقوق المعارضة، ويحدد أدوارها ويضمن ممارسة اختصاصاتها.
وأضاف "لشكر"، أنه لم يعد مقبولا تقويض المؤسسات الدستورية، وتعميق انعدام ثقة المواطن في العمل السياسي وفي المؤسسات، ومن غير المعقول تعطيل الأداء المؤسساتي البرلماني، وتجميد آليات المراقبة المتاحة للبرلمان والمعارضة البرلمانية، من قبيل انعدام الشروط التي تضمن تقديم ملتمس الرقابة، وتشكيل لجان تقصي الحقائق.
أما "بنعبد الله" فيؤكد أن الحكومة غائبة سياسيا وصامتة تواصليا، وتتحمل كامل مسؤوليتها في الملفات الاجتماعية، وعليها أن تكون في المستوى السياسي المطلوب، وتعاني من ضعف في مواجهة الأزمات، وخير دليل هو ما أظهره ملف التعليم؛ مضيفا أن المرحلة في حاجة إلى صوت يقول كفى للفراغ السياسي ومنطق الانتفاع، ونفس سياسي جديد لمعالجة قضايا اقتصادية أساسية، والاهتمام بالشأن الاجتماعي.
لكن المتتبع للشان السياسي المغربي لم يفهم بعد اسباب وابعاد هذا التنسيق المفاجئ بين الاخوة- الاعداء لشكر وبنعبدالله، هل هو تنسيق استراتيجي ام تكتيكي؟ ما علاقته بالتعديل الحكومي المرتقب؟؟ ما علاقته بتعيين عدد من السفراء والولاة والعمال من الاحزاب كما يروج؟؟ هل هو محاولة ضغط على عزيز اخنوش لادخال احدهما للحكومة؟؟
هل هو تنسيق سياسوي محض عابر في زمن عابر؟؟ هل هو محاولة من سياسين لاعادة الاعتبار للسياسة وللفعل السياسي؟؟ هل هو خوفا من الفراغ القاتل الذي تمر منه الساحة الساسية بعد ظهور التنسيقيات التي اكدت موت الاحزاب والنقابات؟؟ اي موت الوساذط التقليدية؟؟
ومن غير المعلوم إلى حدود الساعة، ما هو الدافع وراء هاته الخرجة للزعيمين السياسيين، هل الأمر يتعلق بفراغ سياسي؟ هل هذا التقارب مبني عن قناعات ام عن مزاج؟؟ أم أن الأمر يتعلق بتحالف استراتيجي بين حزبين يشكلان نواة اليسار في المغرب، من أجل إضعاف القوة الانتخابية لأحزاب الأغلبية، التي التي تحتكم إلى منطق العدد، لكونها آلة انتخابية.
فالاحتقان الاجتماعي الحالي، والقضايا والتحديات التي تواجهها الحكومة، أظهرت ضعفها في تدبير العديد من القطاعات، كما أظهرت ضعف الفاعل السياسي عموما في أداء أدواره السياسية في المراقبة والمعارضة، ليس فقط على المستوى المؤسساتي؛ بل من خلال ضعف الخطاب والتواصل، وغياب مشاريع وأطروحات حزبية، من شأن أن تكون بديلة لسياسات الحكومة.
كما أظهرت الاختلالات فراغا سياسيا من قبل الجانبين، سواء من خلال الأغلبية أو الحكومة، ناهيك عن أن منطق التوافقات لا يعني عدم الاختلاف والتشابه في الأراء؛ بل التوافق هو اَلية سياسية لتدبير الاختلاف وليست لاستئصاله.
بالإضافة إلى أن هاته الخرجة، بالرغم من أنها خطوة إيجابية لامتصاص جزء من أزمة الفراغ السياسي، إلا أنها تطرح العديد من الأسئلة، حول ما الغاية من الخروج في هاته اللحظة بالذات؟ ولماذا ظلت هاته الأحزاب غائبة إلى حين تنامي الاحتقان؟ ولماذا لم تؤدي دورها في الوساطة سابقا للحيلولة دون وقوع احتقان؟
لكن، رغم ذلك تبقى خرجة موفقة، إلا أن اليسار في المغرب تخلف عن أداء دوره في محطات عديدة، وبالمنطق العددي يبدو من من الصعب مواجهة الأغلبية في الاستحقاقات القادمة، والمنطق الوحيد الذي يمكنه من الاستقواء، هو الاتحاد الشامل والواسع بين تيارات اليسار، لأجل أن يكونوا جزء من الحكومة وعلى مستوى تدبير المحلي، والعودة إلى المشهد السياسي.
لكن الرسائل السياسية التي مررها اللقاء، تؤشر على بوادر اتحاد بين اليسار في الاستحقاقات القادمة، اتضحت من خلال تصريح "نبيل بنعبد الله"، الذي تحدث عن مواجهة الأزمات وحمل القضايا السياسية خاصة الانتخابات المقبلة؛ بينما أكد "لشكر" على وحدة اليسار وتدارس الصيغ الممكنة في اتجاه تقوية الفرقاء السياسيين والنقابيين والمدنية، بالإضافة إلى التاريخ المشترك بين الحزبين.
وأوضح "لشكر" أن المطلوب من قوى اليسار، هو الانشغال بالبحث عن آليات تمكن من انصهار مكوناته، بل ابتكار مبادرات مشتركة تكون عامل للجذب والاستقطاب، وتعزيز الجبهة الوطنية بكل القوى السياسية التي ينبغي أن تناضل، من أجل تلبية حاجة المغرب لنفس سياسي جديد.
أما زعيم "التقدم والاشتراكية"، لمح إلى الوثائق التاريخية التي تعود إلى بداية الستينيات منذ نشأة الحزبين، على أنها تؤكد على وحدة الصف؛ مضيفا إلى ضرورة بلورة خطوات رصينة حتى يكون لهم وقع في كل المجالات والقطاعات، مؤكد إلى أن وثيقة مبادرة عميقة وايجابية، وخطوة للتنسيق بين الحزبين في كل المجالات ومفتوحة على الحاضر والمستقبل، وكل القوى التي تريد أن تنضم.
فالتنسيق على حد ما جاء في نص وثيقة الإعلان، يهم خطوة أولية في انتظار خطوات أخرى، منفتحة على كافة المبادرات التي من شأنها تعزيز تواجد اليسار في الساحة السياسية، وتترك باب المشاركة أمام القوى اليسارية الأخرى، من أجل الإجراءات وترتيبات أخرى، تهم الاستعداد لوحدة الصف في الاستحقاقات القادمة.
كما تجدر الإشارة، إلى أن القانون التنظيمي رقم 29.11 المتعلق بالأحزاب السياسية، يسمح للأحزاب أن تنتظم في اتحادات، بهدف العمل الجماعي لتحقيق غايات مشتركة، شرط أن تكون مؤسسة بكيفية قانونية، ويترتب عن ذلك التمتع بالشخصية الاعتبارية، دون أن يفهم من ذلك أنه حزب سياسي.
ويخول اتحاد الأحزاب السياسية، إمكانية تقديم لائحة الترشيح على صعيد كل دائرة انتخابية، مكونة من لائحة الأحزاب المشكلة للاتحاد، في مختلف الاستحقاقات الانتخابية؛ شرط أن لا تحتكر لحزب بعينه.
لكن ما لم تعلن عن ترتيبات إجرائية، إحتمالية التخطيط لاستحقاقات انتخابية تبقى مجرد شكوك، لأن اتحاد الأحزاب السياسية أو الانضمام إليها، يقتضي استنفاذ الشروط الشكلية لدى السلطة المكلفة بالداخلية؛ وإلى حدود الساعة يبدو أن الأمر سابق لأوانه للحكم على الغاية من التنسيق بين حزبي اليسار.