“كيف فشل جواسيس إسرائيل، ولماذا قد يكون التصعيد كارثيا؟”، هو عنوان اختارته مجلة “فورين بوليسي” لمقال مطول لها حاولت من خلاله عد وتفسير أسباب وتداعيات الفشل الأمني الإسرائيلي الكبير الذي اتضح مع عملية “طوفان الأقصى”.
وحسب المجلة الأميركية، فإن الصدمة التي عانت منها إسرائيل في السابع من أكتوبر الجاري لم يسبق لها مثيل ولا يمكن تصورها بأي مقياس تاريخي إسرائيلي، ولم يسبق لإسرائيل أن شهدت مثل هذه الكارثة في تاريخها، وحتى حماس لم تتوقع قط مثل هذا النجاح العملياتي، والواقع أن الجهات الفاعلة في مختلف أنحاء المنطقة، وأبرزها حزب الله وإيران، أصيبت بالذهول إزاء نجاح هجوم حماس.
ووصف المجلة ما حدث بالخطأ الاستخباري الإسرائيلي” الفادح”، حيث لم يفكر المخططون العسكريون الإسرائيليون قط في مثل هذا الهجوم، حتى في أسوأ السيناريوهات، مشيرة إلى أنه في الواقع، كان السيناريو الأسوأ المتصور هو شن هجوم متزامن على خمس إلى سبع مستوطنات مدنية، بينما استهدف هجوم حماس ما يقرب من خمسة أضعاف هذا العدد، بالإضافة إلى مهرجان موسيقي.
واعتبرت المجلة أن مفاجآت بهذا الحجم تعمل على تغذية البيئة التي قد تحدث فيها حسابات استراتيجية خاطئة كبرى ــ بل ومن المرجح أن تحدث ــ في واقع الأمر، ونظرا للأعمال العدائية المستمرة، من المهم أن نفهم الديناميكيات الداخلية داخل المؤسسة الأمنية الإسرائيلية التي أدت إلى فشل الاستخبارات ومخاطر التصعيد غير المقصود، مع الأخذ في الاعتبار أن إسرائيل تمتلك أسلحة نووية غير معلنة.
وأوضحت “فورين بوليسي” أن نظام التحذير الإسرائيلي ضد الهجمات الصغيرة أو الواسعة النطاق من غزة على يعتمد ثلاث طبقات دفاعية رئيسية، الأولي، تتألف بشكل رئيسي من مصادر الاستخبارات البشرية في “الشاباك”، الذي يهدف إلى تقديم تحذير بأن قيادة حماس قررت التخطيط والإعداد وتنفيذ هجوم كبير، أما الطبقة الثانية، المستندة إلى قدرات جمع” SIGINT الخاصة بـ” Aman ” (الوحدتان 8200 و81) والصور الاستخبارية (الوحدة 9900)، فقد تضمنت جمع الأدلة حول الاستعدادات الفعلية لحماس للهجوم، أما الطبقة الثالثة فكانت الحاجز الأرضي الكبير على طول الحدود مع غزة، والذي ضم عوائق مادية، وأجهزة استشعار إلكترونية، ووسائل بصرية أخرى تهدف إلى توفير خط دفاع أخير ضد أي محاولة لاقتحام إسرائيل.
وأكدت المجلة الأمريكية أن هذه الطبقات الثلاث انهارت صباح يوم 7 أكتوبر الجاري، ولم تقدم أي تحذير استراتيجي بشأن طبيعة وحجم الهجوم الوشيك.
وعزت المجلة الأمريكية جذور هذا الخطأ الفادح إلى إخفاقين أساسيين، الأول مفاهيمي، كما كان الحال في سنة 1973، مشيرة إلى أن التقدير المشترك الذي قدمته “الشاباك” و”أمان” كاذب، ولكنه ثابت ومتين، يتألف من عنصرين، أولا، التفوق العسكري والاستخباراتي الإسرائيلي من شأنه أن يردع حماس عن الشروع في أي عمل عسكري كبير، وثانيا، إذا شنت حماس مثل هذا الهجوم، فإن “الشاباك” و”أمان” سيقدمان تحذيرا في الوقت المناسب.
وأشارت المجلة الأمريكية إلى أن ضبط النفس النسبي الذي أبدته حماس في السنوات الأخيرة واهتمامها الواضح بمواصلة تدفق الأموال النقدية وزيادة عدد سكان غزة المسموح لهم بالعمل في إسرائيل أدى إلى تعزيز هذا المفهوم في النفسية الجماعية للقادة السياسيين والعسكريين والاستخباراتيين في إسرائيل، مضيفة أن الالتزام بمفهوم التهدئة دفع كبار الضباط إلى تجاهل المؤشرات التحذيرية قبل الهجوم.
وكشفت المجلة ذاتها أنه على مدى السنوات العديدة الماضية، قام هواة مدنيون بالقرب من الحدود بمراقبة الاتصالات اللاسلكية لحماس، حيث نظمت القوات وأجرت تدريبات لا نهاية لها في احتلال المستوطنات الإسرائيلية، وفي الأسابيع الأخيرة، تلقى هؤلاء الضباط تقارير عن أنشطة غير قانونية مثل قيام مزارعين متنكرين بالتقاط صور للسياج الحدودي وقوات حماس مع خرائط تراقب المعاقل العسكرية والمستوطنات على الجانب الإسرائيلي، لكنهم تجاهلوا هذه التقارير.
وادعت المجلة أنه كانت هناك فرصة في الساعة الحادية عشرة لردع الهجوم أو التقليل منه، ذلك أنه في ليلة 6 أكتوبرالجاري، اكتشفت المخابرات الإسرائيلية بعض المؤشرات التحذيرية التي أدت إلى سلسلة من المشاورات رفيعة المستوى في وقت متأخر من الليل، لكن المفهوم المعيب هو الذي ساد ولم يكن هناك أي أهمية تذكر. وتم رفع حالة التأهب على طول الحدود، وأرسل “الشاباك” عددا قليلا من العملاء الإضافيين إلى الجنوب، لكن مدير “أمان” واصل إجازته في إيلات ولم يتم إجراء أي عمليات انتشار كبيرة.
وتطرقت المجلة الامريكية إلى الفشل الثاني ، الذي وصفته ب”الأكثر إثارة للدهشة” هو فشل التحصيل، إذ يبدو أن “الشاباك” فشل في مهمته الأساسية ولم يقدم أي تحذير مهم بشأن نية حماس شن هجوم كبير، وتحمل مديرها في 16 أكتوبر المسؤولية عن هذا الفشل، وتبعه زميله في “أمان” بعد فترة وجيزة.
ووفق المجلة، فإن ” السجل الممتاز للشاباك، فضلا عن حقيقة أن عدد نشطاء حماس المطلعين على العملية السرية كان كبيرا إلى حد ما، يضاعف من الفشل”، مبرزة أنه على الرغم من الصعوبات المعروفة جيدا في تجنيد مصادر بشرية في الجماعات الإسلامية في المقاومة الفلسطينية، إلا أن الافتقار إلى أي معلومات مسبقة من الأصول الاستخبارية في غزة أمر مدمر بالنسبة لإسرائيل.
وهناك تفسيرات أخرى تتعلق بسمات محددة لجهاز “الشاباك” والأهم من ذلك هو ثقافتها التنظيمية، التي تؤكد على العمليات والحاجة إلى درء التهديدات الملموسة والمعزولة بدلا من تقديم تحذيرات مجردة ضد هجوم شامل، وإحدى نتائج هذه الثقافة، وفقا للعديد من عملاء “الشاباك” المتقاعدين الذين تحدثت إليهم “فورين بوليسي” كانت إعطاء محاولة واسعة النطاق من قبل حماس لاحتلال المستوطنات الإسرائيلية القريبة من الحدود مرتبة منخفضة في ترتيب أولويات الجهاز. والسبب الآخر هو تدهور القدرات البحثية للشاباك.
وذكرت المجلة أنه تم إنشاء قسم أبحاث كبير في أواخر الثمانينات من أجل تقديم التقييمات الإستراتيجية، وبسبب التفضيلات التنظيمية، فقدت فعاليتها في السنوات الأخيرة. بالإضافة إلى ذلك، وعلى النقيض من تقليده القديم، اتجه “الشاباك” في السنوات الأخيرة إلى تقديم معلومات استخباراتية لإرضائ، ودعمت تقديراتها سياسة رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو الرامية إلى تعزيز حكم حماس في غزة وتقليص قوة ونفوذ السلطة الفلسطينية في الضفة الغربية.
وأشارت المجلة إلى أنه لا يعرف الكثير عن مساهمة “أمان” في الفشل، ولكن يبدو أنها عانت من الضعف المعروف المتمثل في عدم ربط النقاط، وذلك في المقام الأول بسبب وجود عدد كبير جدا من المحللين وعدم التكامل الكافي، موضحة في السياق ذاته أن تدريبات حماس لاحتلال المستوطنات الإسرائيلية – كما هو موضح، على سبيل المثال، من قبل شبكة سي إن إن – تمت مراقبتها جيدا من قبل الطائرات بدون طيار الإسرائيلية وغيرها من وسائل التجميع.
ومع ذلك، تضيف المجلة الامريكية، فشل محللو “أمان” في التعرف على معناها الحقيقي، واعتبروها بدلا من ذلك تمارين استعراضية، ذلك أنه وفقا لبعض التقارير، قامت حماس بتضليل وخداع وسائل جمع” SIGINT “الإسرائيلية من خلال التحدث في مكالمات تراقبها الوحدة” 8200 “- وربما الوحدة” 81 و الشين بيت” SIGINT – حول تجنب حرب جديدة، وبالتالي الكشف عن مستوى أعلى بكثير من التطور مما كان متصورا في السابق.
أما خط الدفاع الأخير، وهو الحاجز الذي يبلغ طوله 40 ميلاعلى طول الحدود، فقد أكدت المجلة الامريكية أنه وفر للإسرائيليين شعورا زائفا بالثقة، مشيرة إلى أنه عندما كشف الجيش الإسرائيلي عن هذا المشروع الذي تبلغ قيمته 1.1 مليار دولار عند اكتماله في دجي 2021، أعطى الانطباع بأنه لن يتمكن أي أحد من عبوره. وكان العنصر الرئيسي فيها هو بناء حاجز ضخم مضاد للأنفاق، مع ما يكفي من الأسمنت “لبناء طريق من غزة إلى بلغاريا”، على حد تعبير الجيش الإسرائيلي. أثبت هذا الجزء الموجود تحت الأرض من الحاجز فعاليته في 7 أكتوبر.
وسجلت المجلة أنه بالإضافة إلى الأسمنت الموجود تحت الأرض، استثمر مخططو المشروع جهودهم في توفير حماية إلكترونية فعالة لنظام التجميع الإلكتروني الموجود على السياج، لكنهم لم يأخذوا في الاعتبار السيناريو الذي تستخدم فيه حماس المتفجرات لتحطيمها والطائرات بدون طيار لإسقاط المتفجرات على نقاط المراقبة المتطورة التي تنقل المعلومات الاستخبارية البصرية إلى شاشات الجنود المدربين الذين يخدمون في الملاجئ تحت الأرض (بعض هؤلاء الجنود خارج الخدمة، قتل الكثير منهم من النساء أثناء نومهم بعد أن اخترقت حماس الحدود وهاجمت القاعدة).
كما دمرت الطائرات بدون طيار ما يقدر بنحو 100 برج رشاش يتم تشغيله عن بعد، واستغربت في هذا السياق من هذا الخطأ، بالنظر إلى العديد من مقاطع الفيديو الحربية من أوكرانيا والتي تظهر كيف استخدم الأوكرانيون طائرات بدون طيار لإسقاط قنابل يدوية على الدبابات والجنود الروس.
وكشفت المجلة أن الجيش الإسرائيلي استخدم ثلاثة بالونات مراقبة كبيرة كمنصة للخط الثاني لمراقبة غزة في قطاعاتها الجنوبية والوسطى والشمالية، وفي الأسابيع التي سبقت الهجوم، تم إخراج البالونات الثلاثة من الخدمة بسبب تفعيلها في ظروف جوية غير مناسبة، لكن الجيش أهمل إعادتها إلى الخدمة، مبرزة أنه رغم أن عدم كفاية الاستخبارات التحذيرية العالية الجودة كان السبب الرئيسي للرضا عن النفس الإسرائيلي، فلا ينبغي للمرء أن يتجاهل دور الافتقار إلى الخيال، وهو ما أبرزه تقرير لجنة الحادي عشر من شتنبر في سياق الولايات المتحدة الامريكية.
وأوضحت المجلة الامريكية أنه نظرا لقدرات حماس وقرب المستوطنات الإسرائيلية من الحدود، لم يكن هذا سيناريو بعيد المنال كما كان الحال مع هجوم 11 شتنببر الذي شنه تنظيم القاعدة باستخدام طائرات مختطف، وفي هذا الصدد، ساهم الافتقار إلى الخيال في فشل عملية جمع الأموال، كما عززت عملية جمع المعلومات غير الكافية الاعتقاد بأن هجوما شاملا من جانب حماس كان غير مرجح إلى حد كبير، وبالتالي خلق حالة كلاسيكية من الفشل المنهجي.
واستبعدت المجلة تحقيق هدف الاستئصال الكامل لقوة حماس العسكرية والمدنية، معتبرة التزام اإسرائيل بالإبادة الكاملة لحماس كمنظمة أنه أمر سابق لآوانه، وكما أشار رئيس الوزراء الإسرائيلي السابق إيهود باراك وآخرون، فإن هذا الالتزام ربما يكون غير قابل للتحقيق.
وترى المجلة الأمريكية أن مثل هذا الالتزام قد يخلق مخاطر غير عادية، ذلك أنه إسرائيل تواجه أيضا حدودا ذات شقين في الشمال – حوالي 80 ميلا مع حزب الله على طول الحدود اللبنانية، وأكثر من 40 ميلا على طول مرتفعات الجولان مع سوريا، حيث إنه في الوقت الحالي، ما تزال الحدود الشمالية متوترة، وقد تتصاعد بسرعة كبيرة إلى حرب واسعة النطاق.
وأشارت المجلة الأمريكية إلى أن حزب الله، كما صرح وزير الدفاع الإسرائيلي في 18 أكتوبر، أقوى بعشر مرات من حماس، حيث يدعي أنهيتقود 100 ألف مقاتل، ويمتلك عشرات الآلاف من الصواريخ والقذائف، بعضها دقيق للغاية، والتي يمكن أن تستهدف كامل أراضي إسرائيل وتلحق أضرارا جسيمة بالمدن الكبرى والمنشآت العسكرية، وذلك بالإضافة غلى شبح إيران، راعية حزب الله، التي تلوح في الأفق.
وخلصت”فورين بوليسي” إلى أن لا أحد يعرف ما إذا كان حزب الله ـ وربما إيران ـ سيبقى على الهامش أثناء الهجوم الإسرائيلي المطول والمدمر على غزة للقضاء على حماس، ومن ناحية أخرى، وبعد الصدمة الناجمة عن فشلها في الكشف عن الهجوم القادم الذي شنته حماس، أصبحت أجهزة الاستخبارات الإسرائيلية الآن شديدة الحساسية تجاه أي إشارة تشير إلى وجود تهديد مماثل، الأمر الذي أدى إلى سلسلة من الإنذارات الكاذبة في الأيام الأخيرة.
وكان هذا هو الحال بعد خطأهم الفادح في سنة 1973، عندما أصدروا عددا من الإنذارات بهجوم مصري أو سوري قادم، كما ورد في المذكرات العبرية لرئيس القيادة الشمالية بعد الحرب، ومع ذلك، هناك شيء واحد واضح ، حسب المجلة الامريكية، التصعيد الشامل المتعمد أو غير المتعمد بين إسرائيل وحزب الله، مع إيران أو بدونها، يمكن أن يولد سيناريوهات حرب من نوع من الشراسة والوحشية التي لم تشهدها المنطقة من قبل.
وأكدت المجلة الأمريكية أن هذا الخطر الكبير وغير المؤكد هو الذي يسلط الضوء على بروز العامل الأميركي في المعادلة الحالية، مذكرة في الصدد أنه قبل خمسين سنة، في السابع من أكتوبر، وهو ثاني وأسوأ يوم في الحرب العربية الإسرائيلية سنة 1973، طلب وزير الدفاع الإسرائيلي آنذاك من رئيسة الوزراء حشد جاهزية الأسلحة النووية الإسرائيلية للتظاهر. كما يزعم البعض (بما في ذلك سيمور هيرش في كتابه خيار شمشون) أن قرار الرئيس الأمريكي ريتشارد نيكسون في 12 أكتوبر 1973، ببدء جسر جوي فوري إلى إسرائيل، اتخذ بسبب التنبيه النووي الإسرائيلي.
واشارت المجلة إلى أن الرئيس الأمريكي جو بايدن أدرك الطبيعة غير المسبوقة للوضع وأمر على الفور المجموعة الهجومية لحاملة الطائرات الأمريكية “يو إس إس جيرالد ر. فورد” بالإبحار نحو الشواطئ الإسرائيلية، بينما بدأ أيضا جسرا جويا للإمدادات العسكرية إلى إسرائيل. والآن، وبعد أكثر من أسبوع، أصبحت مجموعة حاملة الطائرات الضاربة الثانية، يو إس إس أيزنهاور، في طريقها إلى شرق البحر الأبيض المتوسط.
وأكدت المجلة الامريكية أنه لم يحدث قط في أي حروب إسرائيلية سابقة أن تصرفت الحكومة الأمريكية بمثل هذا الحسم والسرعة كما تصرفت هذا الأسبوع، معتبرة أن دعم بايدن لإسرائيل غير المسبوق، هو مزيج فريد من القيم والمصالح والمشاعر والمتطلبات الاستراتيجية. على الجانب الاستراتيجي، فإن الهدف واضح تماما – الردع – وهو إخبار حزب الله وإيران، كما قال بايدن نفسه: “لا تفعلا، لا تفعلا، لا تفعلا “.