في قلب مدينة مولاي إدريس زرهون، حيث يمتزج التاريخ بالتصوف، يتجدد موسم عيساوة كأحد أعرق المواسم الدينية والروحية في المغرب، جامعًا بين البعد الروحي والرمزي والفني.
ويشكل هذا الحدث السنوي، الذي ينتظم حول الزاوية العيساوية، نقطة التقاء للمريدين والزوار والتجار من مختلف مناطق المملكة، في مشهد يختزِل قرونًا من التقاليد المتوارثة والطقوس ذات الحمولة الصوفية العميقة.

في هذا السياق، وفي تصريح خص به “بلبريس”، أكد زياد الحافظي، أحد أبناء المدينة، أن موسم عيساوة بزرهون يُعد امتدادًا للتراث الروحي المرتبط بشخصية الشيخ الكامل، وهو سيدي محمد بن عيسى، مؤسس الطريقة العيساوية، والذي توفي حوالي سنة 1526، مشيرا إلى أن ما يميز هذا الموسم هو تعدد مستوياته، بين التعبد الجماعي، والتعبير الفني، والتنظيم الصوفي المحكم.
وأضاف المصدر نفسه، “أنه ومن أبرز معالم الموسم ما يُعرف بـ”الطايفة”، وهي جماعة منظمة من الفقهاء والمريدين والموسيقيين تنتمي للطريقة العيساوية، لكل واحدة منها “مقدّم” يشرف على تنسيق الأداء، سواء تعلق الأمر بقراءة الأوراد أو بالعزف الجماعي على آلات الغيطة والبندير (الطّارة) والطبل”.
ووفق نفس المتحدث “فالطايفة” ليست مجرد جوق موسيقي أو فرقة صوفية، بل مؤسسة روحية تحمل نظامًا داخليًا صارمًا ومتصلاً بالولاء الديني والسياسي في آن واحد”.
“ويبرز في هذا السياق حضور طايفة توارگة، التي تعتبر رمزًا للهيبة والارتباط بالعرش، وتُعرف بتقدمها الدائم في المواكب بإيقاعات تُحاكي أجواء المواكب السلطانية”، حسب المصدر ذاته.

وتابع الحافظي: “ومن بين الطقوس الرمزية التي تؤشر على انطلاق كل طايفة في الموسم، ما يُعرف بـ”حلّان العلامات”، حيث تُنصب الرايات الخاصة بكل طايفة يُعلن بداية الاحتفالات الروحية، هذه الرايات، بألوانها المتعددة، تُجسد الهويات الروحية للطوائف، وتُعتبر بمثابة تجديد واحياء للذكرى مع الطريقة والشيخ المؤسس”، وفق المصدر نفسه.
“ويتواصل البعد الروحي بعد انتهاء الموكب عبر تنظيم “الليلة العيساوية”، حيث يجتمع المريدون داخل الزاوية أو في أحد البيوت، لإنشاد المديح النبوي، وتلاوة الأوراد والقصائد العيساوية والتي يُستلهمُ بعضها من فن الملحون، والولوج في لحظات من الوجد التي تسمى ب “الحضرة”، في مزيج روحاني يُحاكي السمو الداخلي والتطهر الرمزي.”
وتابع المتحدث قوله بأن “موسم عيساوة لم يكن أبدًا حدثًا روحيًا فقط، بل شكّل تاريخيًا فرصة لاجتماع القبائل والعائلات حول ضريح الشيخ الكامل، كما لعب أدوارًا سياسية واقتصادية، إذ كان يُعتبر مناسبة لإعلان الولاء للسلطان، ولتنشيط الأسواق المحلية، في تداخل واضح بين التصوف والبُعد المجتمعي العام.”
وختم ابن منطقة زرهون، زياد حافظي حديثه بالقول إن “التحولات الاجتماعية المتسارعة، يظل هذا الموسم شاهدًا على استمرارية البنية الصوفية المغربية، التي لا تفصل بين الدين والفن والهوية، فحتى في عصر الهواتف الذكية ومواقع التواصل، لا يزال المريدون يرددون الأوراد نفسها، ويسيرون في المواكب على خطى من سبقوهم، بحثًا عن ذات الصفاء الروحي ودفء الانتماء.”