ذ. طبيح يفكك سياق وخلفيات قرار المحكمة الدستورية خصوصا المادة 17 منه

نشرت المحكمة الدستورية في موقعها الإلكتروني قرارها رقم 255/25 م. د المتعلق بقانون المسطرة المدنية الذي أحاله عليها رئيس مجلس النواب وفاءً منه لما سبق له أن تعهد به في حديث له مع الصحفي الأستاذ عبد العزيز الرماني. وهو الموقف الذي لا بد من الإشادة به والتنويه بمبادرة رئيس مجلس النواب مع أن الدستور لا يلزمه بذلك، ما دام أن الأمر يتعلق بقانون عادي وليس بقانون تنظيمي. وإن مبادرة رئيس مجلس النواب تلك أدت إلى إطلاع الرأي العام الحقوقي والوطني بشكل عام على رأي المحكمة الدستورية بخصوص النقاش المجتمعي الذي عرفه مشروع قانون المسطرة قبل وأثناء دراسته والتصويت عليه من قبل مجلسي البرلمان.

 

ونأمل أن يحال كذلك قانون المسطرة الجنائية على المحكمة الدستورية لمعرفة رأيها بخصوص هذا القانون الجد مهم، والذي له مرتبة متقدمة على مرتبة قانون المسطرة المدنية. تتمثل في كون قانون المسطرة المدنية ينظم في أغلب مواده النزاعات والعلاقات بين أفراد المجتمع، بينما قانون المسطرة الجنائية ينظم علاقة الدولة بأفراد المجتمع، وهو بذلك من القوانين التي يهتم بها المواطن المغربي وكذا المستثمر الأجنبي وكل من له علاقة مع بلدنا الحبيب.

 

ومن الواجب الوقوف عند الزخم في المعلومات ذات الطبيعة القانونية والدستورية التي يكتنزها قرار المحكمة الدستورية، سواء ما تعلق بتثبيته لقواعد جديدة في عملية التشريع، أو تذكيره بالقواعد الأساسية في القانون التي لا يمكن مخالفتها، أو حرصه على إعطاء الأولوية لحماية حقوق الدفاع، وتحصينه للأمن القضائي، وحماية استقلال السلطة القضائية.

 

فهو وثيقة جد مهمة سيتاح لأساتذة القانون الدستوري الفرصة لشرحه واستخراج منه كل الدروس التي تساعد على تطوير التشريع في بلادنا.

 

ومن المفيد التذكير بكون التعليق على قرار المحكمة الدستورية وإبداء الرأي بخصوصه ليس ممنوعًا لا من قبل الدستور ولا من قبل القانون التنظيمي المتعلق بتلك المحكمة. ما دام أن الفصل 134 من الدستور يتوجه إلى السلطات العامة والجهات الإدارية والقضائية ويمنع الطعن فيه بأي من طرق الطعن.

 

وفي تقديري فإن أهم ما أتى به القرار المذكور هو الانتصار، في حدود معينة كما سأبين ذلك فيما بعد، للموقف المخالف للمقتضيات التي أتت بها المادة 17. تلك المادة التي أعطت للنيابة العامة الحق في المطالبة بالتصريح ببطلان أي مقرر قضائي قد تعتبره النيابة العامة مخالفًا للنظام العام. كما أن تلك المادة كلفت رئيس المجلس الأعلى للسلطة القضائية بمهام جديدة لم يسندها له لا الدستور ولا القانون التنظيمي المتعلق بالمجلس الأعلى للسلطة القضائية.

 

وبتاريخ 2024/07/08 نشرت مقالًا بخصوص مشروع قانون المسطرة المدنية في كل من جريدة الاتحاد الاشتراكي وجريدة الصباح تحت عنوان “دعوة لرئيس الحكومة لتعديل مشروع قانون المسطرة المدنية ليتلاءم مع الدستور”.

 

وبتاريخ 2024/07/25 نشرت مقالًا ثانيًا في نفس الجريدتين يتعلق بنفس مشروع القانون تحت عنوان ” الحكومة تعيد الحياة لكل ما من شأنه وتخرق الدستور مرة ثانية”.

 

وبتاريخ 2024/08/06 نشرت مقالًا ثالثًا في نفس الجريدتين يتعلق بنفس مشروع القانون تحت عنوان ” الأغلبية الحكومية لم تصوت على مشروع وزارة العدل فهل ستسحبه الحكومة”.

 

وبتاريخ 2024/08/09 نشرت مقالًا رابعًا في نفس الجريدتين يتعلق بنفس مشروع القانون تحت عنوان ” وأخيرًا سمعنا وزير العدل في غياب محرر المقال الذي يحمل توقيعه”.

 

وهذه المقالات الأربعة تناولت عدة مواد من مشروع قانون المسطرة المدنية وعلى رأسها المادة 17. كما أن هذا القانون تناولته مقالات وتحليلات أخرى لعدد من المتتبعين للشأن القانوني في بلدنا من أساتذة جامعيين وقضاة ومحامين.

 

فما هي حقيقة ما قضى به القرار الذي اتخذته المحكمة الدستورية بخصوص المادة 17 من قانون المسطرة المدنية.

 

حول قرار المحكمة الدستورية بخصوص المادة 17

 

من المعلوم أن المادة 17 في مشروع قانون المسطرة المدنية نصت على أن من حق النيابة العامة مطالبة أي هيئة قضائية ابتدائية أو استئنافية أو محكمة النقض بأن تبطل المقرر الذي أصدرته إذا تبين للنيابة العامة فيما بعد فيه مخالفته للنظام العام وبدون احترام أي أجل وحتى ولم تكن طرفًا في النزاع كما أسندت لرئيس المجلس الأعلى للسلطة القضائية نفس المهمة.

 

وعند مناقشة هذه المادة أمام لجنة العدل والتشريع بمجلس النواب وتفاعلت اللجنة مع النقاش المجتمعي المعترض على تلك المادة قررت حذفها من المشروع بشكل كلي. وأحالت المشروع على الجلسة العامة بدون المادة 17.

 

غير أن الحكومة قدمت صيغة جديدة لنفس المادة للجلسة العامة لمجلس النواب مباشرة. وهي الصيغة التي أعادت الاحتفاظ فيها بنفس المقتضيات مع تغيير في بعض الكلمات. فصوت عليها مجلس النواب بالصيغة المشار إليها أعلاه.

 

غير أن مجلس المستشارين عندما عرض عليه مشروع قانون المسطرة المدنية بادر إلى حذف الفقرة التي تتكلم على رئيس المجلس الأعلى للسلطة القضائية. وأبقى فقط على الفقرة التي تتكلم على حق النيابة العامة في المطالبة بالتصريح ببطلان أي مقرر قضائي يتبين لها أنه مخالف للنظام العام.

 

وهذه الصيغة الأخيرة هي التي أحيلت على المحكمة الدستورية. وهي الصيغة التي ستعتبرها هذه المحكمة بكونها غير مطابقة للدستور. وبذلك انتصرت المحكمة الدستورية لكل الآراء التي ارتفعت للمطالبة بحذف المادة 17.

 

لكن قرار المحكمة الدستورية عندما اعتبر أن الفقرة الأولى لوحدها غير مطابقة للدستور، فإنها، أي المحكمة الدستورية، أبقت على الفقرة الأخيرة من المادة 17 فقط التي تنص على ما يلي:

 

“يتم الطعن أمام المحكمة المصدرة للمقرر بناء على أمر كتابي يصدره الوكيل العام للملك لدى محكمة النقض”

 

فأصبحت هذه المادة مكونة من فقرة واحدة تنص على المسطرة الواجب اتباعها لتطبيق الفقرة الأولى منها مع أن المحكمة ألغت تلك الفقرة الأولى.

 

فهذه المادة بهذه الصياغة أصبحت بلا معنى لا قانوني ولا منطقي ولا غيره.

 

وأن الأثر الدستوري لقرار المحكمة الدستورية هو أن قانون المسطرة المدنية عندما سينشر سيتضمن المادة 17 وهي مكونة فقط من الفقرة الثانية لوحدها. ما دام أن لا أحد له الحق في حذف ما أصبحت تنص عليه المادة 17 من قانون المسطرة المدنية. بعدما أصدرت المحكمة الدستورية قرارها بخصوص ذلك القانون بكامله، عملاً بمقتضيات الفصل 132 من الدستور.

 

وهكذا يتبين أن قرار المحكمة الدستورية ترك المادة 17 بصياغة معيبة، لأن المحكمة احتفظت بالفقرة الثانية التي تتكلم على كيفية مباشرة النيابة العامة لطعن منعتها المحكمة الدستورية من ممارسته. واعتبرت إعطاء النيابة العامة الحق في الطعن في الأحكام القضائية النهائية غير مطابق للدستور.

 

وعندما نتمعن قليلًا في التعليل الذي اعتمدته المحكمة الدستورية يتبين أنها لم تلغ حق الحكومة في سن المقتضيات المذكورة في المادة 17 من مشروع القانون. بل أكدت على ذلك الحق واعتبرت أن إسناد حماية النظام العام للنيابة العامة والنص على حقها في المطالبة ببطلان المقررات القضائية ليس فيه ما يخالف الدستور. إذ ورد في تعليل المحكمة الدستورية ما يلي:

 

“حيث إنه، وإن كان القانون قد أسند إلى النيابة العامة المختصة، وهي التي تناط بها حماية النظام العام والعمل على صيانته، “طلب التصريح ببطلان المقرر القضائي المشار إليه في الفقرة الأولى من المادة 17 المعروضة، مما لا يشكل، في حد ذاته، مخالفة للدستور….

 

بل أن المحكمة الدستورية طالبت فقط من الحكومة عندما تريد أن تسن تلك القاعدة أن تحدد الحالات التي يجب على النيابة العامة المطالبة ببطلان المقررات القضائية. مع استحضار أن الدستور في المقابل كفل بمقتضى مبدأ الأمن القضائي للمحكوم لصالحهم الحق في تمسكهم بحجية المقررات القضائية الحائزة لقوة الشيء المقضي به، وإنفاذ آثارها.

 

وهكذا يكون قرار المحكمة الدستورية وهو يباشر الرقابة الدستورية القبلية قد اعتبر أن القانون الذي يسند حماية النظام العام للنيابة العامة ويعطي لها الحق في المطالبة ببطلان المقررات القضائية، هو قانون لا يشكل مخالفة للدستور. لكن بشرط أن يضع ذلك القانون محددات للحالات التي تمارس فيها النيابة هذه السلطة. وعلى رأس تلك المحددات التي تحمي حجية المقررات القضائية الحائزة لقوة الشيء المقضي به، والتي وصفها القرار بكونها هي من تكفل الأمن القضائي.

 

ملاحظات حول قرار المحكمة الدستورية

 

بعد تسجيل هذا الموقف لقرار المحكمة الدستورية، سنحاول تقديم قراءة قد تكون قريبة من التعرف على ما يكتنزه من مبادئ قانونية هامة قد لا تظهر من أول قراءة له.

 

في تقديري أن محاولة فهم والإلمام بما أتى به القرار يمر عبر الوقوف على المفاتيح التي وضعها القرار للتمكن من الدخول إلى كنه ما قضى به. والوقوف على المحددات التي وضعها لنفسه حتى لا يلام على نقص أو عدم انسجام فيما قضى به. وهي المفاتيح والمحددات التي يمكن تلخيصها في الملاحظات التالية:

 

الملاحظة الأولى

 

سجل القرار أن القانون أحيل عليه من رئيس مجلس النواب. وذكر بأن رئيس مجلس النواب لم يحل عليه الصيغة النهائية للقانون التي صادق عليها مجلس المستشارين في القراءة الثانية. وإنما أحال عليه فقط الصيغة التي صادق عليها مجلس النواب في القراءة الثانية. وهو ما يعني أن رسالة الإحالة المنصوص عليها في الفصل 132 من الدستور التي ترخص للمحكمة الدستورية بأن تضع يدها على قانون عادي معين، لم تحل عليها الصيغة النهائية للقانون كما يوجب ذلك الفصل 132 من الدستور. أي تلك التي صادق عليها مجلس المستشارين في القراءة الثانية، وليس تلك التي صادق عليها مجلس النواب في القراءة الثانية.

 

وفي تقديري الأمر لا يمكن أن يتصور أن رئيس مجلس النواب أخطأ أو نسي ولم يبعث بالصيغة التي صوت عليها مجلس المستشارين في القراءة الثانية. بل أظن أن تساؤلات تكون قد وضعها رئيس مجلس النواب تتمثل في:

 

هل حق الإحالة على المحكمة الدستورية الذي يدخل في اختصاصه كرئيس لمجلس النواب منحصر فقط في القوانين التي يصوت عليها المجلس الذي هو يترأسه أي مجلس النواب، أم من حقه أن يحيل حتى القوانين التي صوت عليها في المرحلة النهائية مجلس الذي لا يترأسه، أي مجلس المستشارين؟

 

أنه من الناحية المبدئية وإعمالًا لمبدأ تعاون السلط المنصوص عليه في الفقرة الثانية من الفصل الأول من الدستور فإن جوابًا من رئيس البرلمان يصبح مطلوبًا للرد على ما تضمنه القرار الذي أصدرته المحكمة الدستورية، لما فيه من توضيح للعلاقة بين المؤسسة التشريعية وبين المؤسسة المكلفة بمراقبة احترام الدستور من قبل تلك السلطة التشريعية.

 

الملاحظة الثانية

 

إن المحكمة الدستورية ورغبة منها في تجاوز عدم إحالة القانون الذي صادق عليه مجلس المستشارين في القراءة الثانية استعملت في قرارها عبارة (… قامت هذه المحكمة باستحضار الصيغة النهائية للقانون). كما يتبين من البند الثاني من الفقرة المعنونة ب “فيما يتعلق بالاختصاص”.

 

لكن قرار المحكمة الدستورية لم يبين ماذا قصد بكلمة “باستحضار”. فهل هذه الكلمة تعني الاستحضار المبني على الذاكرة والتذكر والعلم الشخصي لأعضاء المحكمة المتوفر من الإعلام العمومي وغيره بكون مجلس المستشارين صوت في قراءة ثانية على مشروع قانون المسطرة المدنية، أم يقصد بها الإحضار الفعلي ورقيًا أو إلكترونيًا لنص القانون الذي صادق عليه مجلس المستشارين في القراءة الثانية. وفي هذه الحالة الثانية لم تبين المحكمة الدستورية من أحضر نص القانون ورقيًا أو إلكترونيًا الذي صوت عليه مجلس المستشارين في القراءة الثانية للمحكمة الدستورية. لأن الجهات التي نص الدستور على حقها في التعامل مع المحكمة الدستورية محددة على سبيل الحصر في الفصل 132 من الدستور كمؤسسات دستورية أو كأعضاء من البرلمان.

 

الملاحظة الثالثة

 

أن المحكمة الدستورية آخذت على رسالة رئيس البرلمان أنها لم تتطرق إلى نوع المآخذ التي تتعلق بمقتضيات النص المحال على المحكمة على نحو محدد. وهو ما يعرف في الفقه الدستوري ب “الإحالة البيضاء” (blanche saisine La). أي أن رسالة الإحالة لا تتضمن ما هي أوجه المخالفة للدستور وما هي المقتضيات المشوبة بالمخالفة للدستور، والتي تشتكي منها الجهة التي تحيل القانون على المحكمة الدستورية.

 

وهذه الوضعية ليست معزولة أو خاصة بالمغرب. بل إن المجلس الدستوري الفرنسي وضعت عليه نفس الإشكالية في عدة مناسبات ومع ذلك لم يصرح بعدم قبول رسالة الإحالة. وكان آخرها قراره رقم 2023-849 عندما أحالت عليه رئيسة الوزراء في الحكومة الفرنسية السيدة BORNE Elisabeth قانون التقاعد الذي عرف احتجاجات ومعارضة قوية في فرنسا. مع ذلك قبل المجلس الدستوري تلك الإحالة وبث في دستورية ذلك القانون.

 

وفي تقديري، قد يكون هذا التقدير غير صحيح، فإن المحكمة الدستورية نهجت نفس المنحى. وقبلت رسالة الإحالة الصادرة عن رئيس مجلس النواب مع أنها لم تبين ما هي المقتضيات التي تعتبرها مخالفة للدستور وجديرة بفحص مطابقتها له. لكن تلك المحكمة لم يكن قبولها لرسالة الإحالة قبولًا مطلقًا وبدون شروط. بل إن المحكمة الدستورية وضعت لنفسها ما سميته سابقًا ب “المحددات” وهي تتعامل مع رسالة الإحالة المذكورة. وهي المحددات التي نقرأها في البند الأخير من الفقرة المعنونة ب “فيما يتعلق بالإحالة” والتي ورد فيها ما يلي:

 

“فإن هذه المحكمة، في إطار مراقبتها لدستورية هذا القانون تراءى لها أن تثير فقط، المواد والمقتضيات التي بدت لها بشكل جلي وبين أنها غير مطابقة للدستور أو مخالفة له”.

 

أي أن المحكمة الدستورية ستمارس الرقابة القبلية لنص قانون المسطرة المدنية في بعض المواد التي تبين لها بشكل جلي أنها غير مطابقة للقانون أو مخالفة للقانون. وستترك باقي المواد للرقابة البعدية في إطار الدفع بعدم الدستورية.

 

وهذا الاختيار جعل المحكمة الدستورية تعفي نفسها من البحث في بعض المواد التي توجد بين وضعية المخالفة الجلية للدستور وبين وضعية المطابقة الجلية للدستور. وهي الحالات التي تستعمل فيها صيغة “ليس فيها ما يخالف الدستور” وهي صيغة أو آلية استعملها المجلس الدستوري السابق. والمحكمة الدستورية نفسها في قرارات سابقة، من أجل إنقاذ بعض المقتضيات من جزاء الإلغاء.

 

الملاحظة الرابعة

 

إن المحكمة الدستورية ستؤكد على أنها اطلعت ودرست كل مواد قانون المسطرة المدنية من المادة الأولى إلى المادة 644. كما يتبين ذلك من الفقرة المعنونة ب “فيما يتعلق بالموضوع”. لكنها اختارت أن حصرت المواد التي أخضعتها للرقابة الدستورية في 11 مادة فقط. علمًا أن عددًا من المواد لم يشملها الفحص لذاتها، بل فقط لكونها موضوع إحالة من أو على المادة 84 التي ألغتها المحكمة الدستورية.

 

أي أن ما يقرب من 633 مادة من قانون المسطرة المدنية قررت المحكمة الدستورية صراحة بأنها لن تخضعها للفحص والمراقبة القبلية لمعرفة مدى مطابقتها للدستور. وهو القرار الصريح والواضح من السطر الأول من فقرة “لهذه الأسباب” والتي ضمن فيه ما يلي:

 

“ومن غير الحاجة لفحص دستورية باقي مواد ومقتضيات القانون الحالي”.

 

وهي الفقرة التي أتت بعد دراسة 11 مادة فقط، من القانون المكون من 644 مادة.

 

والمقصود بهذه الفقرة هو أن ما يقرب من 633 مادة من قانون المسطرة المدنية قررت المحكمة الدستورية عدم فحصها. وبالتالي لم تخضعها للرقابة القبلية من طرفها. علمًا أنها بررت ذلك بما آخذته على رسالة الإحالة التي توصلت بها من طرف رئيس مجلس النواب التي لم يذكر فيها المقتضيات التي يؤاخذ عليها المخالفة للدستور والتي على المحكمة التصدي لها.

 

مع أن المحكمة الدستورية سبق لها اتخذت موقفًا عكسيًا. أي أن الحكومة حددت لها المواد التي تطلب منها رأيها فيها. وأن المحكمة الدستورية لم تستجب لطلب الحكومة وقامت بوضع يدها على كامل مواد القانون وأخضعتها بكاملها للرقابة القبلية وللفحص في مدى مطابقته أم لا للدستور.

 

وبالفعل فإن الحكومة التي كان يترأسها السيد سعد الدين العثماني أحالت على المحكمة الدستورية التعديلات التي أدخلها مجلس المستشارين على القانون المتعلق بالتنظيم القضائي. غير أن المحكمة الدستورية قررت أن من حقها في وضع يدها على القانون بكامله وأصدرت بشأنه قرارها المعروف.

 

الملاحظة الخامسة

 

أن عدم إخضاع كل مواد قانون المسطرة المدنية للرقابة القبلية من طرف المحكمة الدستورية بعدما أتيحت لها الفرصة في ذلك، يلقي بظلال الغموض على المواد التي لم تشملها تلك الرقابة القبلية. وهو الغموض الذي يدفع للتساؤل هل المواد 633 التي لم تخضعها المحكمة الدستورية للرقابة القبلية مطابق للدستور أو مخالفة للدستور؟

 

وأن هذا الغموض ليس منحصرًا في الجانب اللغوي. أي باعتباره توصيفًا لحالة معينة. بل تترتب عليه آثار مرتبطة بسؤال الشرعية الدستورية لقانون المسطرة المدنية بكامله. أي هل سيدخل إلى حيز التنفيذ مع أن المحكمة الدستورية لم تخضعه صراحة واختيارًا للرقابة الدستورية القبلية. أي لم تحسم في شرعيته الدستورية. أم أن موقف المحكمة الدستورية قد يحول دون دخول قانون المسطرة المدنية حيز التنفيذ.

 

إن ما انتهت إليه المحكمة الدستورية صراحة واختيارًا يطرح الإشكالات الدستورية والقانونية التالية:

 

من المعلوم أن الفصل 50 من الدستور ينص على أن الملك يأمر بتنفيذ القانون خلال أجل 30 يومًا من بعد تمام الموافقة عليه. ويجب أن ينشر خلال أجل أقصاه شهرًا من تاريخ صدور الأمر بتنفيذه.

أنه من المعلوم كذلك أن الأجل المنصوص عليه في الفصل 50 يتوقف عندما يحال القانون على المحكمة الدستورية. وذلك وفقًا لأحكام الفصل 132 من الدستور. وهو ما يعني أن أجل الأمر بتنفيذ القانون ونشره ينطلق من جديد بعد إصدار المحكمة الدستورية لقرارها.

أليس سؤال الشرعية الدستورية لقانون المسطرة المدنية مطروح اليوم نظرًا للغموض الذي يحوم حول مطابقة أو عدم مطابقة مقتضياته للدستور. وهو السؤال الذي يبرر طرحه سبب أن:

السبب الأول: هو أننا نتذكر أن الأغلبية الحكومية نفسها لم تصوت عليه بالموافقة عندما عرض في الجلسة العامة على مجلس النواب. ما دام أن الأغلبية الحكومية في هذا المجلس تتكون من 292 عضوًا، بينما صوت عليه فقط 103 أعضاء منها، أي أقل من ثلث أعضاء الأغلبية.

 

السبب الثاني: أنه أمام اختيار المحكمة الدستورية عدم فحصها لما يقرب من 633 مادة من قانون المسطرة، أي 98% من مواد قانون المسطرة المدنية مما جعل الغموض حول مطابقته للدستور حاضرًا.

 

وسؤال الشرعية الدستورية هذا يطرح كذلك سؤالًا آخر وهو هل يمكن أن يدخل قانون المسطرة المدنية إلى حيز التنفيذ، رغم عدم التحقق من مطابقته للدستور. أم أن المغرب سيعرف لأول مرة إعمال مسطرة القراءة الثانية له. وهي المسطرة التي يختص بها جلالة الملك وحده طبقًا للفصل 95 من الدستور، من أجل ترميم قانون سيحكم الحياة القضائية لفترة لن تكون قليلة.

 

القواعد القانونية التي أسس لها قرار المحكمة الدستورية

 

إنه بالاطلاع على القرار الذي أصدرته المحكمة الدستورية، يتبين منه أنه وإن قضى بعدم مطابقة بعض المواد التي فحصها للدستور، وقضى بمخالفة باقي البعض الآخر للدستور، إلا أنه تناول في طيات تعليله إما تأسيسًا لبعض القواعد القانونية، أو تأكيدًا على راهنيتها ووجوب الخضوع إليها. وسنحاول الوقوف على بعضها فيما يلي:

 

إن هذا القرار سيج السلطة التشريعية عندما تكون بصدد تناول تنظيم النظام العام في القوانين التي ستصدرها مستقبلًا إذ لم يبق ممكنًا أن ينص قانون معين على عبارة النظام العام بدون تحديد ضوابط موضوعية تحد من سلطة تقديرية لتحديد الحالات التي تمس هذا النظام العام. وهو ما يلاحظ في الحيثية الخامسة والسادسة من الفقرة المعنونة ب “في شأن المادة 17” التي ورد فيها ما يلي:

“وحيث إنه، وإن كانت حماية المشرع للنظام العام في مجال التنظيم الإجرائي للدعاوى المدنية، تشكل في حد ذاتها، “هدفًا مشروعًا لا يخالف الدستور، فإنه يتعين على المشرع، عند مباشرة ذلك، استنفاذ كامل صلاحيته في التشريع، “والموازنة بين الحقوق والمبادئ والأهداف المقررة بموجب أحكام الدستور أو المستفادة منها، على النحو الذي سبق “بيانه؛

 

“وحيث إن صيغة الفقرة الأولى من المادة 17 المعروضة، خلت من التنصيص على حالات محددة يمكن فيها “للنيابة العامة المختصة طلب التصريح ببطلان المقررات القضائية الحائزة لقوة الشيء المقضي به التي يكون من “شأنها مخالفة النظام العام، واكتفت بتخويل هذه الصلاحية للنيابة العامة المختصة، تأسيسًا على هذه العلة، ومنحت، “تبعًا لذلك، للنيابة العامة، طالبة التصريح بالبطلان، وللجهة القضائية التي تقرره، سلطة تقديرية غير مألوفة تستقل “بها دون ضوابط موضوعية يحددها القانون، بما يتجاوز نطاق الاستثناء على حجية المقررات القضائية الحائزة “لقوة الشيء المقضي به، ويمس بمبدأ الأمن القضائي، فيكون المشرع بذلك، قد أغفل تحديد ما أسنده له الدستور “في مجال التنظيم الإجرائي للدعاوى الخاضعة للمسطرة المدنية، ضمن النطاق الموضوعي للبند التاسع من الفقرة “الأولى من الفصل 71 من الدستور؛

 

“وحيث إنه، تبعًا لذلك، تكون الفقرة الأولى من المادة 17 المعروضة، غير مطابقة للدستور؛

 

إن القرار أكد على الطابع التقني الصرف للمكلف بالتبليغ، ورفع عنه أي سلطة سلطته تقديرية خاصة به يقرر بناء عليها من هو المؤهل في التوصل بالتبليغ. واعتبر أن إسناد للمكلف بالتبليغ هذه السلطة التقديرية هو مخالف للدستور. وهو التعليل المنصوص عليه في الفقرة المخصصة للمادة 84 من القانون.

إن القرار حسم بشكل واضح في مشروعية المحاكمة عن بعد. وأوقفها على موافقة الطرف المعني بالحضور مؤسسًا ذلك القرار على وجوب ضمان حقوق الدفاع من جهة، ومبدأ علنية الجلسات من جهة أخرى. كما اشترط لتطبيق المحاكمة عن بعد عندما يقبل بها الطرف المعني بها أن تتم تلك المحاكمة عن بعد بضمان التواصل المتزامن وثنائي الاتجاه بين8المحكمة ومكان حضور الطرف المعني، وكذا سلامة وتمامية وسرية المعطيات المرسلة، بما في ذلك من أمن تبادل وسائل الإثبات والوثائق وباقي أوراق الدعوى، وتنظيم حالات انقطاع التواصل عن بعد، والعودة إلى الشكل الحضوري.

إن القرار أخرج وزير العدل من الإجراء المنصوص عليه في المادة 408 وفي المادة 410 المتعلقة بالإحالة على محكمة النقض للقرارات التي يتجاوز فيها القضاة سلطاتهم، والإحالة من أجل التشكك المشروع. واعتبر أن وزير العدل بصفته عضوًا في السلطة التنفيذية التي تعتبر السلطة القضائية مستقلة عنها، لا يمكن أن يسند إليه اختصاصات تتعلق بسير الدعوى، لأن هذه الاختصاصات محصورة فقط في السلطة القضائية. بينما أبقى على صلاحية وزير العدل في طلب إحالة قضية على محكمة أخرى إذا تعلق الأمر بالأمن العمومي. المنصوص عليها في المادة 411.

لكن التساؤل الذي قد يطرح هو هل تم استحضار ما نصت عليه المسطرة الجنائية في المادة المستحدثة الحاملة لرقم 1-51 التي ربطت من جديد العلاقة بين رئيس النيابة العامة ووزير العدل الذي أصبح هو الذي يبلغ لرئيس النيابة العامة مضامين السياسة الجنائية التي تضعها الدولة لكي يسهر على تنفيذها هذا الأخير باعتبارها سياسة عمومية.

 

القرار أخرج وزارة العدل من تدبير النظام المعلوماتي الذي تسير به المحكمة منذ المدة السابقة عن قانون المسطرة المدنية. وهو النظام المعلوماتي الذي التزمت وزارة العدل على توسيعه وتقويته من أجل ربح رهان رقمنة عمل المحاكم بما فيها مطالبة المحامين بملائمة عملهم مع ذلك النظام بالتعود على بعث المقالات والمذكرات عبر ذلك النظام.

إن القرار قدم تعريفًا جديدًا للإدارة القضائية وهو التعريف الوارد في البند الثالث من الفقرة المتعلقة بالمادتين 624 و628 والذي ورد فيه ما يلي:

“وحيث إن حسن تدبير الإدارة القضائية يندرج في إطار الصالح العام، وإن الشأن القضائي لا يعد موضوعًا للتنسيق “بين السلطتين التنفيذية والقضائية، بل تستقل به هذه الأخيرة، ويمارسه قضاة الأحكام والنيابة العامة، دون تدخل “من السلطتين التنفيذية والتشريعية”.

وإنه إذا كان مفهومًا أن السلطة التنفيذية يجب أن لا تتدخل في تدبير الإدارة القضائية، وهو ما سبق للمحكمة الدستورية أن أكدت عليه عندما بثّت في القانون المتعلق بالتنظيم القضائي وميزت، عن صواب، بين الحالات التي تكون فيها الإدارة القضائية تابعة للمسؤول القضائي في المحكمة، وبين الحالات التي تكون فيها الإدارة القضائية تابعة لوزارة العدل، إلا أن القرار موضوع هذا المقال لم يوضح كيف منع السلطة التشريعية من التدخل في الإدارة القضائية. لأن مسايرة هذا الموقف سيفرض وضع السؤال حول من هي الجهة التي ستشرع وتسن القوانين المتعلقة بالإدارة القضائية وتحدد ماهيتها واختصاصاتها والممارسين لها إذا منعت السلطة التشريعية من التدخل فيها.

 

إن هذا ما قضى به القرار من اعتبار أن السلطة التشريعية يجب ألا تتدخل في الإدارة القضائية، يشبه ما سبق للمجلس الدستوري أن قضى به من كون السياسة الجنائية هي من اختصاص السلطة التشريعية. مع أن الأمر بخلاف ذلك. وهو ما أكدته المادة 1/51 من قانون المسطرة الجنائي المعدل.

 

الخلاصة

 

في نهاية هذا المقال يستحضر كل متتبع للفكر الدستوري الغاية الكبرى التي رمى إليها الدستور من عدم وجوب عرض القوانين العادية على المحكمة الدستورية في إطار الرقابة القبلية. وترك القوانين العادية خاضعة للرقابة البعدية في إطار الدفع بعدم الدستورية. لأن عرض القوانين العادية على المحكمة الدستورية يفترض أنها كلها أو بعضها مخالف للدستور. لذلك يتم اللجوء للمؤسسة التي أسند لها الدستور صلاحية التحقق من مدى احترام تلك القوانين للدستور.

 

فكيف للسلطة التنفيذية صاحبة مشروع القانون أن تشكك في دستورية القانون الذي شرعت له وصوتت عليه بأغلبيتها البرلمانية؟

للحديث بقية.

المقالات المرتبطة

أضف رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *