عقدت أمانة “بوليساريو” اجتماعها الأخير بالرابوني، في جو مشحون. فهي المرة الأولى التي تتجه فيها قيادة هذا التنظيم إلى مؤتمر بهذا الكم من التشتت والانهيار الداخلي، فخلافات قادته باتت حديث الساعة في كل زوايا المخيم، وعلى مكتب شنقريحة شخصيا، لدرجة أن صحراويي المخيمات، الذين عايشوا تدحرج “بوليساريو”، منذ التأسيس يجمعون على أنه يمر بأصعب فترة بين مؤتمرين، إذ ظهر إلى العلن انشقاق لا يمكن إخفاؤه، وتباين في الرؤى والمواقع أثر بشكل كبير على صورته وحوله إلى قبائل متصارعة متطاحنة غير قادرة على ضبط الإيقاع الداخلي.
فأحداث مخيم العيون والكركرات وحرق الجيش الجزائري لشباب المخيم، والاعتداء على قائد أمن “بوليساريو”، والاستيلاء على سيارته، وفقدان غالي لمجموعة كبيرة من القيادات التي كانت تحيط به كسيد أحمد البطل وعبد الله الحبيب ومحمد خداد ممن كانوا يمتصون الصدمات، قبل أن تصله شخصيا، كل هذا شكل مربعا جديدا في مسار هذا التنظيم.
اجتماع الأمانة الذي كان يرجى منه أن يبت في الطريقة التي ستخرج بها الحركة من عنق الزجاجة، الذي دخلته منذ تولي إبراهيم غالي زعامتها، كان منتظرا أن يتناول المقترحات القادمة من الندوات السياسية في كل فروع “بوليساريو”، وأن توضع فيه اللمسات الأخيرة لعقد مؤتمرها، الذي لا يختلف اثنان في المخيم على أنه مجرد مسرحية تحاول قيادة الرابوني، بمؤازرة آلة الدعاية الجزائرية، الاستثمار فيها، لأجل اكتساب شرعية مفقودة، غير أن الاجتماع طغت عليه الوضعية السياسية التي يعيشها التنظيم، ولم يجد إبراهيم غالي بدا من الفرار إلى الأمام، واستعمال لغة الخشب، إذ اندهش جميع الحاضرين عندما نوه في كلمته بالانسجام السائد داخل صفوف الحركة بينما رسائل رفاقه لا تزال تملأ صفحات التواصل الاجتماعي وهم يوبخونه ويلومونه بل ويحملونه مسؤولية الوضعية المزرية التي توجد عليها الحركة، إذ كان آخرهم أبي بشراي البشير الذي استقال من منصبه، مرجعا السبب إلى ديكتاتورية غالي و تعامله الفظ مع القيادات.
ما رشح عن هذا الاجتماع هو أن إبراهيم غالي وإبراهيم بيد الله “كريكاو”، رفعوا كل النقاط الخلافية إلى المؤتمر دون أن تتم مناقشتها في هذا الاجتماع، لتجنب التصادم ومحاولة الخروج ولو بنصف إجماع على استمرارية غالي على رأس التنظيم.
ورغم أن شرط التجربة العسكرية يعتبر حجر عثرة أمام عبد القادر طالب عمر للترشح للرئاسة، ففشل غالي في إدارة “بوليساريو” بات حديث الساعة، ولم يعد يخفى على أحد تعدد اجتماعات من لا يريدونه أن يستمر على رأس الحركة، لكن الجميع يدري أن مرجع الأمر بيد الجزائر، التي تخلت عن إدارة المخيمات مباشرة لمجموعة من صغار ضباط مخابراتها، وهو ما أفقد الحركة بوصلتها وتوازنها الداخلي، في ظل ضبابية الدور الجزائري وتماطل شنقريحة في إعادة ضبط مسار وتوازن القصر الأصفر بالرابوني.
هذا الاجتماع كان فرصة أيضا ليعبر طيف واسع من قادة التنظيم عن امتعاضهم من الطريقة التي يعاملهم بها الجزائريون خلال الأربع سنوات الماضية، خصوصا بعد فرض المخابرات الجزائرية على قيادة الجبهة استصدار إذن خروج من الجزائر مع كل رحلة، وقد تطرق البشير مصطفي السيد، إلى هذه النقطة بإسهاب وحمل سفير “بوليساريو” بالجزائر مسؤولية هذا التدني في العلاقات، واصفا الجزائريين بالجمل في ثقافة “البيظان”، فهو رهن الإشارة ما دمت فوق سنامه، واقترح أن تكون هذه النقطة على رأس أولويات زعيم “بوليساريو” المقبل، لأنه ليس من المعقول، حسب البشير، أن ينفذ التنظيم أجندات جزائرية، التي تمتنع عن تلبية أدنى شروط التمييز لقادة الحركة.
وقد صبت خرجة البشير مصطفى السيد في اتجاه تأكيد فرضية تكوين تحالف ضد إبراهيم غالي يقوده كل من البشير مصطفى السيد، ومحمد لمين البوهالي وعبد القادر الطالب عمر وأبي بوشرايا البشير، الذي لم ينطق ولو بكلمة خلال اجتماع الأمانة، بعدما تعمد زعيم الجبهة عدم إثارة مسألة استقالته من منصبه ممثل لدى الاتحاد الأوربي.
ولم يخل الاجتماع من الملاسنات بين الخصوم، خصوصا المحسوبين على إبراهيم غالي، الذين استماتوا في الدفاع عنه، محملين من أسموهم النائمين في كنف القبلية مسؤولية تشويه وتسويد صورة زعيم الحركة، بينما طالب ولد عكيك، مع احتدام المواجهة بين الإخوة الأعداء، بإعفائه من مهامه رئيسا للأركان، نظرا لظروفه الصحية، قبل أن ينضم سالم البصير والعزة ببيه أيضا إلى سيل المعلنين عن مغادرة قيادة “بوليساريو”، مشهرين عزمهم عدم الترشح خلال المؤتمر المقبل لعضوية الأمانة الوطنية.
لم يحمل الاجتماع الأخير لأمانة “بوليساريو” أي مفاجأة، وسيذهب التنظيم إلى مؤتمره، الذي سيكون غالبا الأخير في تاريخه، بهذا الكم من التناقض والانكسار، ليؤكد أن التنظيم ليس بخير، وأن واقعه الداخلي رهين بالواقع الجزائري الذي حول “بوليساريو”، خلال السنوات الأخيرة، إلى كمشة من البشر التائهين في حمادة تندوف بدون حاضر ولا مستقبل.