تُلقي ظاهرة الهدر المدرسي بظلالها المقلقة على المنظومة التعليمية في المغرب، حيث تكشف الأرقام والإحصائيات عن واقع صعب يتمثل في انقطاع مئات الآلاف من التلاميذ عن الدراسة سنويًا، مما يشكل تحديًا اجتماعيًا واقتصاديًا كبيرًا. وفي مواجهة هذا الوضع، أعلنت وزارة التربية الوطنية والتعليم الأولي والرياضة عن إطلاق خطة عمل طموحة تستهدف تقليص هذه الظاهرة المؤرقة إلى النصف بحلول عام 2026، في خطوة تعكس إدراكًا لأهمية الحفاظ على الثروة البشرية للبلاد.
وترتكز هذه الخطة الحكومية على مقاربة متعددة الأبعاد، يتصدرها توفير مسارات تعليمية وتكوينية بديلة. ومن أبرز هذه المسارات، توجيه ما لا يقل عن 80 ألف تلميذ، خاصة في السلك الإعدادي حيث يتركز جزء كبير من الانقطاع، والذين يعتبرون مهددين بالهدر، نحو ما يُعرف بـ "مدارس الفرصة الثانية". هذه المؤسسات لا تهدف فقط إلى إعادة استقطاب المنقطعين، بل تسعى بشكل أساسي إلى تزويدهم بتكوين حرفي ومهني يتناسب مع ميولاتهم واحتياجات سوق الشغل، مما يفتح أمامهم آفاقًا للاندماج المهني الناجح، أو حتى يمنحهم فرصة للعودة إلى المسار الدراسي التقليدي بعد اكتساب الثقة والمهارات اللازمة.
وبالتوازي مع توفير البدائل، تعمل الوزارة على تحسين جاذبية وجودة التعليم داخل المؤسسات القائمة، لا سيما من خلال تعميم تجربة "إعداديات الريادة". هذه المقاربة تركز على تقديم دعم بيداغوجي فعال ومخصص داخل الفصول الدراسية لمواجهة صعوبات التعلم، بالإضافة إلى تنظيم أنشطة موازية متنوعة تشمل المجالات الرياضية والفنية والثقافية كالموسيقى والمسرح. الهدف من هذه الأنشطة يتجاوز الترفيه، ليشمل بناء شخصية التلميذ، استعادة ثقته بنفسه، وتعزيز ارتباطه الإيجابي بالمدرسة كفضاء للتعلم والتفتح.
ولضمان التدخل المبكر قبل فوات الأوان، تُفعّل الوزارة آليات للرصد والمواكبة، عبر إحداث خلايا متخصصة للتتبع النفسي والتربوي. تعتمد هذه الخلايا بشكل كبير على المعطيات الدقيقة التي توفرها منظومة "مسار" الإلكترونية لتحديد التلاميذ الذين تظهر عليهم مؤشرات خطر الانقطاع الدراسي. وبناءً على هذا الرصد، يتم توفير تدخل فردي ومباشر، يشمل الدعم النفسي، والتوجيه التربوي، وإدماج هؤلاء التلاميذ في الأنشطة الموازية، بهدف معالجة الأسباب الكامنة وراء رغبتهم المحتملة في مغادرة مقاعد الدراسة.
وإدراكًا منها بأن العوامل المادية والاجتماعية تلعب دورًا حاسمًا، خصوصًا في المناطق القروية والنائية، لا تُغفل الخطة الحكومية أهمية تعزيز برامج الدعم الاجتماعي. يشمل ذلك توسيع نطاق خدمات النقل المدرسي للتغلب على مشكلة البُعد الجغرافي، وتوفير وجبات غذائية بالمطاعم المدرسية، وتأهيل وتوسيع دور الطالب والطالبة (الإيواء). يُستهدف هذا الدعم بشكل مباشر تخفيف الأعباء المادية عن الأسر ذات الدخل المحدود وضمان عدم تحول الظروف الصعبة إلى عائق أمام استمرار أبنائهم في التعليم.
في المحصلة، تأتي هذه الجهود المتكاملة كمحاولة جادة لمواجهة الأسباب الجذرية والمتعددة لظاهرة الهدر المدرسي، والتي غالبًا ما تكون متشابكة بين الوضع السوسيو-اقتصادي الهش للأسر، وصعوبة الوصول المادي للمدارس في بعض المناطق. ومع ذلك، يبقى نجاح هذه المقاربة الشاملة وتحقيق أهدافها الطموحة رهنًا بقدرتها على الانتقال من مرحلة التخطيط والتنظير إلى التنفيذ الفعال والمستدام على أرض الواقع.
إن كبح جماح هذه الظاهرة يتطلب بالفعل ما هو أبعد من إطلاق الشعارات ووضع الخطط؛ إنه يستلزم التزامًا راسخًا بالتطبيق العملي، وتوفير الموارد المالية والبشرية الكافية، والمتابعة الدقيقة لضمان وصول التدخلات إلى الفئات المستهدفة وتحقيق الأثر المنشود على مستقبل أجيال المغرب.