اشتعل سجال حاد داخل الأروقة التشريعية حول مشروع قانون المسطرة الجنائية الجديد، واضعاً وزير العدل، عبد اللطيف وهبي، في مواجهة مباشرة مع رئيسي مؤسستين دستوريتين بارزتين: الهيأة الوطنية للنزاهة والوقاية من الرشوة ومحاربتها، والمجلس الاقتصادي والاجتماعي والبيئي. وبلغ الخلاف ذروته خلال يوم دراسي نظمته فرق المعارضة الاتحادية بمجلس النواب، حيث عبر الوزير وهبي عن رفضه القاطع للانتقادات الموجهة لمشروعه من قبل المؤسستين المذكورتين.
وأكد وهبي بلهجة حاسمة أن تدخلات هيئة بنعليلو ومجلس اعمارة لا تندرج ضمن اختصاصاتهما، مشدداً على أن البرلمان هو السلطة الوحيدة المخولة بتعديل التشريعات والقوانين. وتساءل الوزير بشكل استنكاري: "هل للمؤسسات الدستورية الحق في توجيه البرلمان أو المطالبة بتعديل نصوص قانونية؟"، معتبراً أن مشروع المسطرة الجنائية نص معقد يجب أن يُفهم ككتلة متكاملة تُحترم فلسفتها الموحدة، وليس بالانتقاء.
في المقابل، وكما أوردت يومية "الصباح" في عددها ليوم الخميس 24 أبريل 2025، لم يتردد محمد بنعليلو، رئيس هيئة النزاهة، وعبد القادر اعمارة، رئيس المجلس الاقتصادي والاجتماعي، في التعبير عن اعتراضهما القوي على فصول رئيسية دافع عنها وهبي، وذلك خلال مداخلات لهما في يوم دراسي آخر (أو نفس اليوم الدراسي حسب رواية "الصباح") بلجنة العدل والتشريع. ووجه المسؤولان رسائل مباشرة لوهبي، محذرين من مغبة "التشريع الانفعالي"، في إشارة ضمنية لتلميحات سابقة حول سعي الوزير لحماية بعض المنتخبين من "ابتزاز" جمعيات وصفت بأنها "تشتغل خارج القانون".
وكانت المادة 3 من المشروع، التي تقيد حق الجمعيات في تقديم شكايات مباشرة للنيابة العامة للتبليغ عن شبهات الفساد المالي، محور الانتقادات الأبرز. ودعا بنعليلو إلى مراجعة شاملة لـ 12 نقطة في المشروع، مستحضراً التوجيهات الملكية الداعية للضرب بيد من حديد على المفسدين. وأكد أن مكافحة الفساد الكبير والمعقد تتطلب آليات تتجاوز مجرد تتبع "رشوة 10 دراهم"، وتستدعي الجمع بين التشريع الوطني والاتفاقيات الدولية، مشدداً على أن الهدف ليس الزج بالناس في السجون بقدر ما هو البحث عن الحقيقة وعدم الإفلات من العقاب.
وانتقد بنعليلو بشدة ما وصفه بـ"التقييد المزدوج" لتحرك النيابة العامة في المادة 3، التي تشترط تلقي تقارير رسمية قبل التحرك وتكبل في نفس الوقت دور المجتمع المدني المسؤول دستورياً عن التبليغ عن الجرائم. كما اعترض على حصر مدة التقادم في جرائم الفساد بنفس آجال القضايا العادية (4-15 سنة)، معتبراً أن ذلك يخدم المفسدين ويتيح لهم محو آثار جرائمهم، مطالباً بمراجعة الأمر إسوة بدول ألغت التقادم أو تحتسبه من تاريخ اكتشاف الجريمة.
من جهته، شدد اعمارة على ضرورة الإبقاء على حق الأفراد وهيئات المجتمع المدني في التبليغ عن جرائم المال العام، مع تحصين هذا الحق ضد الاستعمالات غير المسؤولة، مؤكداً أن ذلك يتماشى مع التزامات المغرب الدولية ويعزز حماية المال العام. كما نبه إلى أهمية ربط مراجعة المسطرة الجنائية بمراجعة القانون الجنائي، وفق برمجة زمنية وموارد مالية كافية لضمان التنزيل الفعال للإصلاحات.
وهكذا، يجد مشروع المسطرة الجنائية نفسه في قلب تجاذب قوي بين رؤية وزير العدل التي تركز على السيادة التشريعية للبرلمان وضرورة التعامل مع النص ككل، وبين رؤية مؤسسات رقابية ودستورية تشدد على ضرورة تعزيز آليات مكافحة الفساد وإشراك المجتمع المدني، محذرة من أي تراجع عن المكتسبات في هذا المجال.