يوميات أستاذ برتبة ضابط..آخر يوم في مازاغان

خلال اليوم الموالي ، غادر الأستاذ "سليم" مدينة الزهور صباحا متن طاكسي كبير في اتجاه المحطة الطرقية أولاد زيان، ومنها استقل حافلة للمسافرين في اتجاه مدينة الجديدة، في ذاك اليوم الرمضاني وأثناء الرحلـة عبر الطريق السيار الدارالبيضاء الجديدة، إنتــابتــه نسائــم نوستالجية، جعلته يرتمي بكل أريحية في حضن الذكريات الراحلة .. عادت به الذاكرة الحية إلى يوميات موسم تكويني إستثنائي بكل المقاييس أوشك على الرحيل بدون رجعــة .. موسم لم يكن إستثنائيا فحسب، بل كان بالنسبة إليه موسما مفصليا في مساره المهنـي وحتى الشخصي، موسم كان كافيــا بأن يجهـــــز على آخر فلول مهنة الآهــات حيث لا صوت يعلو على صوت الأصفاد والمحاضر والتقارير والتعليمات والمهمــات التي لا تنتهي .. وأن يؤسس في ذاتــه المكسرة الدعامات الأولى للمهنة الجديـدة .. تساءل وقتها بعيون شاردة والحافلة تمر عبر "حدالسوالم" .. كيف حدث ما حدث؟ كيف تم هذا الإنتقال السلس من الأصفاد إلى الطباشير  ومن المحاضر إلى الجذاذات ومن "الكوميسارية" إلى" القسم"؟ وأية طاقة أو قوة دافعـــة جعلته يؤمن بإمكانية التغيير الذي كــان يبدو أقرب إلى المحال ؟

لما مرت الحافلة على مستوى "البير الجديد" كان "سليم" ينبش في حفريات الماضي بحثــا عن جواب مناسب لسؤال طائــش، وكلما حاول أن يمسك بخيط الجـواب، إلا وارتمى بسخـاء في حضن ســؤال آخــر.. وكل سؤال عميـق كان يقوده عنـــوة إلى سؤال أعمــق ...لكن وبالمــرور عبر منطقة "اثنين شتوكـة " ، أبى "سليم" إلا أن يتخلــص من لوعة الأسئلـة المعلنـة وحرقة الأجوبــة الخفيــة، عادت به نفس الذاكرة  إلى يوميات هذا الموسم الإستثنائي، توقــف عند شريط اليوميات صورة صورة .. لكنه توقــف عند كثير من المحطات والأحداث التي أبـى الا أن يستحضرها في ذاك اليوم الرمضاني الذي لم يكن سوى "آخر يوم في مازغــان" ...

أولها : حكاية يوم أو أسبــوع الاستقبال الذي طغى عليه الإرتجــال والعشوائيـة.

ثانيها: لم يتم تعريف المتدربين الجدد كما كان مبرمجا على مرافق المركـز ، ولعل ذلك كان له ما يبــرره على اعتبــار أن المركز ليس به مرافق تستحق الزيارة والتعريــف .

ثالثهـا : أن الحالة الداخلية للمركز كانت مزريــة للغاية وهي صورة كانت تبـدو أقــرب إلى الضيعة من المركز .

رابعهــا : أن المركز وطيلة موسم كامل، كان يشــرف عليه مدير "بالنيابة " وهذا الوضـــع إنعكس بشكل أو بآخر على السير العام للمركز، لا على مستوى تحسين البنيات والمرافق ولا على مستوى تدبير مشكل الوضعيات المهنيــة، وقد تعمقت الوضعيــة في ظل التنافس حول من سيظفر بمنصب المدير.

خامسها : تعيين مدير جديد للمركــز والذي لم يكــن سـوى أستاذ مكون من الطاقم التكويني لشعبة التاريخ والجغرافيـا وكان ذلك مفخرة للشعبــة، وقد بدأت وقتها تظهـر بعض ملامح التغيير داخل فضاء المركز، حيث تمت إزالة الحشائــش وتبليط بعض الممرات والجدران، وبما أن هذا الإنتقال قد تم في نهاية الموسم ، فقـد تعذر تقييـم عمل الإدارة الجديدة .

سادسهــا : أن المركز وغيره من مراكز التكوين، يطغى عليـه طابع "العسكرة " لا على مستوى الإدارة ولا على مستوى أطقم التكوين، إلى درجة أن العلاقة بين "الأستاذ المكون" و"الأستاذ المتدرب" كانت في "بعض الحالات" أقرب من علاقة "الأستاذ" ب"التلميذ" بكل ما حملته هذه الصورة أو هذه العلاقة غير المقبولة من تسلط واستبــداد "ناعم" وتهديد "خفي" تارة و"معلن" تارة أخــرى للمتدرب بشيء إسمه "النقطة" و"النجاح".

سابعها أن برنامج التكوين، كان غارقـا في الكــم، في وقــت كــان من المفروض فيه أن يتم التركيز على "الكيــف" والبحث عن طرائق تكوين عصرية تساهم في تكوين وتهيئـة أستاذ متفتح متمكن من كل طرائق التدريس الحديثـة والعلوم ذات الصلة من علوم قانونية وإجتماعية ونفسية وتنمية ذاتية ولغات وغيرهـا .

ثامنهــا : أن تجربة الممارسة الفصلية في إطار الوضعيات المهنية، أبانت أن "هوة" قد تطول وقد تقصـر بين "التكوين" و"واقع الممارسة الفصلية"، وهذا طرح ويطـرح سؤال علاقة "النظري" ب"العملي" أو"التطبيقي"، وكذا إلى أي حد يستجيب "الواقع" لما يتلقاه المتدرب من دروس نظرية داخل المراكــز؟ وإلى أي حد يمكن أن تتحقق نجاعة "تكوين نظري" في ظل "واقع عملي" مليء بالمشاكل والمطبات المتعـددة الأوجــه ؟

ما أن مرت الحافلة من جدار وادي أم الربيع على مشارع مدينة أزمور، حتى توقف "سليم" عنـد "مشكلة الوضعيات المهنية" التي كادت أن تجهز على هذا الموسم الإستثنائي كما لو كانت رصاصة الرحمة، لولا إتفاقات "آخر لحظة " التي حيكت بحي مولاي عبدالله فيما يتعلق بشعبة التاريخ والجغرافيا بمسلك الثانوي التأهيلي، تسـاءل "سليم" مبكــرا، كيف تعجــز "وزارة"عن ضبط عمـل مصالحها الخارجيـة ؟ ولمــاذا لم يتــم الإستجابة لمطالــب" الأساتذة المرشدين" باعتبــارهم قنـــاة لا محيدة عنها في منظومـة التكويــن ؟ بين الوزارة والأكاديمية والنيابة والمراكز الجهوية ومؤسسات التطبيق والنقابات، ضاعت الحقيقـــة لكن حضرت كل مظاهر وصــور"اللخبطة" و"الإرتجــال"و"العشوائيــة" ، في مضمار لا يعلو فيه إلا صــوت "الأنانية المفرطة "... وفي ظل هذه "الأزمة المفتعلة" كان "الأستاذ المتدرب" هو"الضحية" أو على الأقل" الحلقة الأضعـــف" في ذاك الصراع الخفي تارة والمعلن تارة أخرى، والوزارة الوصية كان بالإمكان أن تعمل على حل هذه الأزمة بسهولة من خلال الإستجابة للمطالب المادية للأساتذة المرشدين، وهي في مجملها مطالب مشروعة من شأنها أن تحفزهم  وتدفعهم إلى الإنخراط في هذا المسار التكويني بكل حماس ومسؤولية .

وصلت الحافلة إلى محطة الجديدة، غادر"سليم" مكانه الدافئ تاركا وراء ظهــره عشرات من التساؤلات التي تبحث عن صدى جـواب، واستقل سيارة طاكسي أجرة صغيرة قادتـه  إلى المركز ، كان يــدرك وقتها أنها ستكون آخر رحلة له نحو المركز في هذا الموسم وربما لن تتكرر الرحلة مرة أخــرى، ما أن وصل إلى بوابة المركـز ، ترجل نحـو الغرفة رقم 10 حيث ربــط الإتصال المباشر بالسلطان "سليمان" الذي كان على أهبـــة وإستعداد من أجل الرحيل بعد أن أدى مناسك الخروج قبل ساعة من الزمــن، غادر "سليم" الغرفة على عجل رفقة "سليمان" وتوجه نحو الإدارة حيث قام بما يلزم من مناسك الخروج وسحب شهادة الإجازة الخاصة بــه، ثم ترجلا معا إلى مكتب الحارس العام المكلف بالداخليـة وسلما مفتــاح الغرفـة، عقبهـــا قصدا الغرفة التــي كانت على إستعداد لمغادرتهما بدون رجعـة، ألقيـا نظرة أخيـــرة على تحت الأسرة والدولاب، قبــل أن يحملا العتاد ويغــادرا المكان تاركيـــن غرفة تئــن من شدة الفراق متمتمــة في صمت : من هنا .. من هذا المكان، مر سليم وسليمان .. من هذا المكان .. ولد السلطان والبورط فوليو والنافورة والأشجار الباسقة .. من داخل هذا المكان .. ولدت "يوميات أستاذ من درجة ضابط "... خروج "سليم" و"سليمان" من المركز ، كان إيــذانا رسميا بنهاية موسـم، وفي الأفــق كانت تلــوح حكاية أخــرى إسمهـا "التعييـــــــن" ...


شاهد أيضا

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.