يوميات أستاذ برتبة ضابط..مناســك الخـروج

بعد اجتياز امتحان التخرج ومناقشة البحوث الإجرائيـــة، لم يتبــق إلا التوقيع على محضر الخروج  الذي كان نقطة النهاية في حكاية موسم استثنائي شاق .. غادر سليم مدينة الزهور  صباحا خلال اليوم المحدد (21/07/2014) مستقلا سيارة أجرة من الحجم الكبير في إتجاه المحطة الطرقية "أولاد زيــان" بالدارالبيضاء ومنها إستقل حافلة للمسافرين  في إتجاه مدينة  الجديدة  من أجل التوقيع على محضر الخروج .. في الطريق مر كما تعود على ذلك عبر الطريق السيار البيضاء الجديدة  مرورا  بمحاداة "حد السوالم" و"البير الجديد" و"ثنين اشتوكة" و"أزمور" و"منتجع مازاغان" .. على طول هذا المسار عادت به الذاكرة إلى الوراء واستحضر لقطات متناثرة في موسم  إمتطى على صهوة الرحيل .. تذكر أسبوع الإستقبال، حكاية الوضعيات المهنية، رتابة الحياة في الداخلية، ناعورة الدروس النظرية في قلب القاعة الزرقاء، يوميات الوضعيات المهنية بالثانوية الإعدادية الإمام مسلم بمولاي عبدالله...

تذكر أيضا حي السعادة الذي كان يسعى إليه كل يوم رفقة "سليمان'' بحثا عن وجبة غداء أوعشــاء، وبعض الصور التي التقطت بالحي البرتغالي وشاطئ الجديدة  أو على مشارف ساحل مولاي عبدالله، استحضر الغرفة رقم "10" حيث يتقاطع التواضع  والرتابة والآهات،  عبر كل هذه المحطات العابرة .. استحضر يوميات الأستاذ "رامي" وكيف تحول إلى " السلطان سليمان" و"المتيم " الذي اكتسح بعفويته الإجتماعيات و"الإيس في تي" والرياضيات وحتى الأدب العربي ... تذكر أيضا حكاية "المتيم 2" وصورة"الموناليزا" التي كادت أن تشعل فتيل المواجهة بينــه وبين " سليمان"... وصول الحافلة إلى المحطة الطرقية بالجديدة  حوالي الساعة الحادية عشرة صباحا .. أوقف "نوستالجيا " الأستاذ "سليم" الذي ما إن نزل من الحافلة حتى صادف الأستاذ "هاشم" إبن الدارالبيضاء الذي كان بدوره مستقلا نفس الحافلة .. وغادرا معا مشيا على الأقدام يتبادلان أطراف الحديث حول "إمتحان التخرج" و"التعييـن" وأمور أخرى مرتبطة بظروف التكوين بصفة عامة .. إلى أن وصلا إلى المركز.. عرجا أول الأمر على "مكتبة محفوظ" حيث اشتريا نسختين من محضر الخروج .. لم يرغب محفوظ في استخلاص ثمن النسختين .. فقدما له الشكر وولجا إلى المركز من أجل مباشرة الإجراءات الإدارية المتعلقة بتوقيــع المحضر على أساس إنهاء المهمة في أسرع وقت ممكن، ثم العودة مجددا إلى الدارالبيضــاء قبــــل آذان المغـــــــرب ..

وجهتهما الأولى كانت " المدرج" .. ولجا إليه من الباب الخلفي .. كان غاصا بالمتدربين من مختلف المسالك والشعب إلى درجـة لا تعثر فيها على مقعد للجلوس، تبين له أن لائحــة تضمن بها أسماء المتدربين في انتظار دورهم من أجل مباشرة الإجراءات الإدارية الضرورية .. بادر و"هاشم" وكذا"صفوان " إلى تسجيل أسمائهم بإحدى اللوائــح في إنتظار دور قد يأتي وقد لا يأتي ..كانت هناك أكثر من لائحـة وكل لائحة تتضمن عشرات الأسمـاء .. مما كان يعني أن ذلك اليوم الرمضاني لن يكون سهـلا .. كانت الأصوات تتعالى بين أركان جنبات وأركان المدرج .. وبين الفينة والأخرى كانت تتم المنــاداة على بعض الأسماء من اللائحة .. ويسلمون ككباش العيد إلى العون "فتحي" الذين يقودهم إلى الإدارة بالطابق العلوي، حيث يسلم محاضرهم إلى سيدة صارمة تجاوزت عقدها السادس ترتدي وزرة بيضـــاء، كانت تفرض حراسة مشددة على البــاب ولا تسمح بمرور إلا من تتوفر على محضره .. كان يبــدو منظرا مخجلا يوحي بالناظر منذ الوهلة الأولى أنــه في باب سبتة أو مليلية المحتلتين .. أو داخل أسوار مؤسسة سجنية ..في الباب السفلي كانت تنتصب سيدتان  أخــريان كالصنم ولا تسمحان بأي شكل من الأشكال بالمـرور الى الطابق العلوي .. هؤلاء النسوة كن من عاملات النظافة .. وقد تركن مؤقتا "السطول" ومعدات التنظيف" بعد أن أسندت إليهن مهمة خاصة في يوم خــاص .. كن يباشرن المهمة المسنودة اليهن بكل صرامة .. ولم يكن يترددن في فرض أسلوب التسلط و"استعراض العضلات " ... بين المدرج وباب الإدارة بالطابق العلوي، كان العــون "فتحي" بجسمه النحيف، يتنقل ذهابا وإيــابا .. في مهمة لا كالمهمات ..

غادر "سليم" المدرج رفقة "هاشم" و"صفوان " بعدما تبين أن دورهم لا يزال بعيدا.. واتجهوا صوب قاعة المطالعة.. وجلسوا عند مدخلها زهاء الساعة من الزمن .. بلغ وقتها إلى علم "سليم" عن طريق بعــض الزملاء ، أن بعض الأصوات رفضت التوقيع على محضر الخروج شريطة الحصول على "منحة يوليوز" لكن الإدارة سرعان ما احتوت الأصوات المعارضة تفاديا لاتساع رقعة العصيان وسط الصفــوف .. وقد تطلب ذلك من المدير إلقاء كلمة بالمــدرج أمام جميع المتدربين .. مـرر حسب ما وصله من أصداء، خطابات تتقاطع فيها سبل الصرامة والتهديد الناعـم .. ونجح من خلالها ذات المسؤول في تطويــق الأزمة وكبح جماح العصيان في المهد .. بعــد أن أكد للحاضرين أنهم سيتسلمون منح الشهر الجاري بداية شهـر غشـت ... في نفس السياق، أبلغ الأستاذ "سعدان " المجموعة بمعلومات غير مؤكدة، تفيد أن المتدربين بمركز مكناس تسلموا منح يوليوز نقدا، وأن متدربي مركز "طنجـة " بصدد مقاطعة عملية توقيع محاضر الخروج، في محاولة منهم إرغام الإدارة على تسليمهم مستحقات شهر يوليوز ..

وعقبها عاد "سليم" ومن معه إلى المدرج كان لا يزال غاصا بالعشرات من المتدربين كانت العشوائية سيدة الموقف ، وهذه الصورة المخجلة عادت به إلى أسبوع الإستقبال غضون شهر دجنبر من سنة013 ، حيث كان الإرتجال  العنوان البارز .. كان الأمل أن يتم الإعداد لعملية الخروج بشكل مسبق يجعلها تمر في أجواء لائقة وبشكل إنسيابي وسلس،  لكن واقع الحال خرج عن المتوقع وانحرف الأمل عن القاعدة وأصبح موعد الخروج أشبه ما يكون بسوق عكاظ أو سوق من الأسواق الأسبوعية، حيث الكل يغني على ليلاه  والكل يبحث عن أية طريقة ملتوية من أجل مباشرة الإجراءات والمغادرة  في غياب تام للإدارة  .. وبقليل من الحكمة والتبصــر، كان من الممكن أن تمر هذه العملية بكل أريحية وانسيابيـــة باعتبارها آخر محطة وآخر ذكرى .. فمثلا كان بالإمكان تقسيم الأفواج  حسب المسالك ( تأهيلي / إعدادي / ابتدائي) وتخصيص مكتب أو شباك لكل مسلك، بــدل جميع كل الأفواج في مـدرج واحد بطريقة غير مبررة وغير مقبولة ..وماكان يثيــر الإستغــراب  هو أن كل متدرب وحتى يتسنى له إستكمال "مناسك الخروج " من المركز، كان عليــه أن يتنقل بين أكثر من مكتب، حيث يتعيــن عليه بعد أن يحظى بشرف الخروج من المدرج، التوجه إلى الطابق العلوي حيث تؤشر له المكلفة بالخزانة على المحضر، ثم يغادر إلى المصلحة الاقتصادية التي تبعد بخطوات، حيث يؤشر على المحضر كل من المقتصد والحارس العام للداخلية، وعقبها يعود المتدرب أدراجه إلى الإدارة، لتسليم المحضر إلى إحدى الموظفات ويتسلم بالمقابل شهادتي الباكلوريا والإجــازة  ويغادر إلى حال سبيله .. والقيام بهذه العمليات جميعها قد لا يتطلب خمس دقائــق ..

لكن وفي ظل حالة الإرتباك والعشوائية، فقد تطلب ذلك ساعات طوال .. وبعد طول انتظار داخل المدرج رفقة كل من "سليمان" و"هاشم" و"صفوان''، نجح"هاشم" من تجاوز اللوائح الطويلة، واستطاع أن يلج إلى الطابق العلوي وبالتالي التأشير على المحضر من طرف الموظفة المكلفة بالخزانة، بعد أن أوهم السيدة /الحارسة المرابطة أمام الباب أنه باشر الإجراءات بالمدرج ولم يتبق له سوى خاتم الخزانة، ومهما يكن من أمر، فإن تلك الطريقة الملتوية، مكنته من إتمــام بقية المناسك خلال نفس اليوم، ودون أن يضطر إلى الرجوع خلال اليوم الموالي ، لكن "سليم" شأنه شأن مجموعة من الزملاء ومن ضمنهم "سليمان" لم يتمكنوا من إنهاء العملية، وكان عليهم الرجوع إضطراريا خلال اليوم الموالي ، وقرر العودة الى مدينة الزهور بخفي حنين .. على أساس أن يعاود الكرة من جديد صباح اليوم الموالي ... في تلك الأثناء كان مجموعة من المتدربين الذين أنهوا المناسك، قد جمعوا أمتعتهم وغادروا إلى ديارهــم بدون رجعـة .. أما الذين لم يفلحوا في ذلك فقد كان ينتظرهم قضاء آخر يوم في مازاغان خلال اليوم الموالي ...

 


شاهد أيضا

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.