استقبال الملك للسفير الفرنسي.. بوادر إنفراج الأزمة الصامتة

بعد أن خيمت أزمة المغرب مع الحليف الغربي التقليدي، والتي امتدت منذ أكثر من سنة ونصف، يبدو أن مستقبل العلاقات الفرنسية-المغربية يشهد انفراجا، شكلت ملامحه مجموعة من المؤشرات، تمثلت في استقبال هرم الدولة للسفير الفرنسي بالمغرب لتسلم أوراق اعتماده لمباشرة مهامه كقائم بالأعمال في المملكة.

الإبتزاز الفرنسي والثبات المغربي

تأتي ملامح انفراج الأزمة الدبلوماسية بين المغرب وفرنسا بعد سلسلة من التراشقات في المواقف السياسية والإعلامية شهدتها العلاقات بين البلدين، بدأت بالحملة التي تبنتها فرنسا في البرلمان الأوروبي ضد المصالح العليا للمغرب، والتي اتهمت فيها المغرب بالتجسس على رئيسها بواسطة برنامج التجسس الإسرائيلي “بغاسوس”، ناهيك عن إثارة ملفات حقوقية وما بات يعرف بقضية قطر غيث، وتقليص نسبة التأشيرات الممنوحة للقادمين من المغرب.

اعتبر المغرب هذه الادعاءات عارية عن الصحة في ظل غياب أدلة حقيقية تؤكد طرح فرنسا، واعتبر ملف حقوق الإنسان ليس إلا ابتزازا حقوقيا فرنسيا وتجارة سياسية بملفات حقوقية، بينما لا يوجد ما يحرك فرنسا ضد المغرب وشريكه الاقتصادي رقم واحد سوى احتدام المنافسة الاقتصادية بين المغرب وفرنسا في القارة الإفريقية.

نطاق المصادمة الفرنسية المغربية

برز المغرب كقوة اقتصادية قارية صاعدة عبر سلسلة من الاستثمارات التي دشنها العاهل المغربي الملك محمد السادس في القارة الإفريقية، من خلال تبني علاقات مغربية-أفريقية عنوانها البارز التوجه نحو الجنوب وتبني سياسة رابح-رابح، مما عزز من التواجد المغربي على الصعيد القاري كقوة إقليمية صاعدة.

مما شكل نقطة تأثير في موقف مجموعة من الدول المعادية للوحدة الترابية للمغرب، والتي سحب منها المغرب الاعتراف بسيادته على الأقاليم الجنوبية، مع تفعيل الدبلوماسية القنصلية، وجعل المغرب بوابة عالمية نحو إفريقيا، الأمر الذي يشكل تهديدا للمصالح الفرنسية السياسية والاقتصادية في القارة.

وهي دولة كانت بالأمس تخضع للحماية الفرنسية عبر شراكات استراتيجية، إلا أنها تمردت اليوم ضد التبعية المطلقة، وتبنت شراكات عالمية قائمة على التعدد، من أجل الوصول إلى مصاف كبريات الدول المتقدمة والنامية كقوة صاعدة، مما يؤكد فرضية الاستثناء المغربي في المنطقة.

الحكمة الدبلوماسية المتبصرة

جاء الرد المغربي على تلك الاتهامات المزعومة بتجاهل زيارة الرئيس الفرنسي المبرمجة إلى المغرب، وترك منصب سفير المغرب في فرنسا شاغرا، بينما خاطب المغرب المنظمات الدولية والإقليمية عبر مؤسساته الرسمية والحكومية والدستورية، من خلال تفنيد تلك الادعاءات ومطالبتها بتقديم حجج وبراهين ملموسة، مع الثبات على الموقف والتريث دون اتخاذ موقف هجومي ضد أي دولة أو منظمة.

بالإضافة إلى التشبث بالأعراف الدبلوماسية المغربية الرصينة وحسن العلاقات المبنية على الثقة والاحترام، مع افتراض حسن النية اتجاه فرنسا كدولة، لعلها مجرد سحابة سياسية عابرة نتيجة عقلية الرئيس المدلل “إيمانويل ماكرون”، الذي يتصرف أحيانا بعقلية الصبي العنيد المغرور، بينما المصالح المغربية-الفرنسية أقوى من أن تتأثر بفعل فتى لم يبلغ النضج السياسي لتقدير المصالح العليا لبلاده.

ثروات جزائرية مجانية تستثمر لصالح الفرنسيين وفقر يتفاقم

يرى المغرب أن الأزمة الحالية لا تعدو أن تكون مجرد تدبير فرنسي لأزمة الطاقة بعد العقوبات الغربية على روسيا في ظل الحرب في أوكرانيا؛ فرنسا تجد نفسها مضطرة للتزود بالطاقة من الجارة الجزائر بأسعار منخفضة، بينما يتفاقم الطلب العالمي على المواد الطاقية وتتصاعد المشاكل الاجتماعية والاقتصادية.

وفي هذه اللعبة الصعبة، يصبح المواطن الجزائري الفقير هو الضحية الحقيقية، إذ تستثمر ثرواته الهائلة عالميا لمصلحة أطراف أخرى، بينما يظل هو يعاني من التهميش والفقر، وسط صراع مصالح يضرب المغرب وشركاءه الدوليين.

علاقات اقتصادية متينة وشراكة استراتيجية وتأثير ملموس

رغم ذلك، العلاقات المغربية-الفرنسية مترابطة وقوية، وما يجمع البلدين أكثر مما يفرقهما؛ ففرنسا الشريك الاقتصادي الأساسي للمغرب، ورغم المنافسة في التجارة والاستثمارات، سجلت الواردات المغربية في فرنسا حوالي 18.3% منذ 2012 من المنتجات الصناعية، مقابل 12% تقريبا من قبل فرنسا، وتعتبر فرنسا المستثمر الأجنبي رقم واحد في المغرب في قطاع الخدمات بحوالي 11 مليار يورو من مجموع الاستثمارات الأجنبية المباشرة في المملكة.

كما أن المغرب وجهة رقم واحد للمستثمرين في القارة الإفريقية، بمجموع 950 فرعا للمنشآت الفرنسية، 30 منها ضمن مؤشر “كاك”، إلى جانب كونه أول مستفيد من تمويلات الوكالة الفرنسية للتنمية بما يفوق 13 مليون يورو ضمن مشاريع تهدف إلى تنمية الرأسمال البشري، وتقليص التفاوت المجالي، ودعم مشاريع البيئة والتنمية والطاقة المتجددة.

بالإضافة إلى تصدر الفرنسيين قائمة السياح الأجانب في المغرب بنسبة 33% من إجمالي الوافدين، أي أكثر من 4 ملايين سائح سنويا، فضلا عن كونه أول مساند للموقف المغربي داخل مجلس الأمن.

الموقف من الوحدة الترابية: البوصلة الدبلوماسية للمغرب

وسبق للمغرب أن عبّر عن امتعاضه من المواقف الضبابية لبعض الشركاء التقليديين والجدد تجاه الوحدة الترابية للمغرب، من خلال خطاب الملك بمناسبة ذكرى ثورة الملك والشعب، مؤكدا على الثابت المغربي في السياسة الخارجية المبنية على البراغماتية والوضوح في المواقف.

فضلا عن قياس العلاقة مع الدول الأخرى بناء على موقفها من الوحدة الترابية، واعتباره مرآة ينظر بها للعالم لحسم قضية عمرت طويلا، خصوصا مع تغير الخريطة السياسية لأقوى دولة في العالم وبناء علاقات دولية جديدة مع قوى إقليمية صاعدة، والتي تؤثث ملامح نظام عالمي جديد يتضح تدريجيًا مع بروز تحديات دولية كبرى.

وقد دفع هذا الولايات المتحدة للاعتراف بمغربية الصحراء من أجل تعزيز الشراكة الاستراتيجية مع المغرب بعد احتدام المنافسة بينها وبين القوى الأخرى في إفريقيا، ولم تجد سبيلا إلا التقرب من المغرب وتصحيح موقفها تجاهه، مما عزز دور المغرب كبوابة عبور نحو إفريقيا لكبح التوسع الصيني والروسي في القارة.

وكان لهذا الاعتراف أثر على السياسة الخارجية المغربية من خلال مواجهة الدول المتغطرسة بالذرائع الإنسانية ضد عدالة القضية المغربية، عبر تفعيل البراغماتية والضغط والحرج، مما أدى إلى سحب سلسلة من الاعترافات بمشروع الحكم الذاتي تحت السيادة المغربية، دشنته بعض دول الخليج، ثم تلتها إسبانيا وألمانيا، إضافة إلى إسرائيل بعد توسيع الشراكة معها على مختلف المستويات.

 

أخطاء فرنسا الدبلوماسية وتأثيرها على العلاقات مع المغرب

بالنسبة لفرنسا، ارتكنت في الزاوية دون مبالغة، لحساسية العلاقات معها ومع الجزائر في الوقت ذاته، نظرا لأهمية الثروة الطاقية الجزائرية، وهو ما خلف أزمة صامتة وباردة بين المغرب وفرنسا فجرها زلزال منطقة الحوز، حيث تحاشى المغرب قبول الإغاثة الفرنسية.

بينما سمح لأربع دول صديقة، الأمر الذي أدى إلى رد فعل فرنسي عبر حملة إعلامية مسعورة وتزييف للحقائق، وتحريض الشعب الفرنسي ضد النظام المغربي والهجوم على المؤسسة الملكية، الأمر الذي دفع المغاربة إلى التصدي لتلك الحملة بعد اكتشاف حقيقة فرنسا التي تخرج ورقة حقوق الإنسان كلما تكبدت ضربة موجعة من المغرب، وفضحت سلسلة الادعاءات الكاذبة ضد الملك والملكية.

تجاهل ملكي وفطنة مغربية اتجاه مكر فرنسا المعزولة

في خضم هذه الأحداث، تحدثت بعض المنابر عن رفض ملك المغرب لمكالمة هاتفية من الرئيس الفرنسي، كما تناقلت وسائل الإعلام تسريبات من المخابرات الفرنسية على طاولة قصر “الإيليزي” لضرب المصالح المغربية، إلا أنها باءت بالفشل بعد كشف الأوراق دون جدوى، بينما نفى المغرب وجود أي زيارة مبرمجة للرئيس الفرنسي إلى المملكة، رغم تصريحات وزيرة الخارجية الفرنسية عن زيارة مرتقبة.

في ظل التغيرات الأخيرة في الساحة الأوروبية والأفريقية من حروب وانقلابات والمنافسة الشرسة وبروز قوى جديدة، وجدت فرنسا نفسها مطوقة ومعزولة بسبب خياراتها المتهورة، وسقوط جبهات كانت تسيطر عليها لسنوات طويلة، وتنامي الوعي الأفريقي بالعقلية الاستعمارية الفرنسية، ما دفعها للإسراع لتصحيح مسارها بعد أن تأكدت من وزنها الحقيقي في العالم.

بوادر الإنفراج وتصحيح الأخطاء

بدأت بوادر الانفراج تتضح عبر مؤشرات عدة، منها: تمتيع كورسيكا بالحكم الذاتي تحت سيادة فرنسا، حضور الوزير المغربي المنتدب في الدفاع عبد اللطيف لوديي إلى جانب الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون في ذكرى تحرير الجزيرة، توشيح أحد الجنود المغاربة المشاركين.

بالإضافة إلى ذلك، زيارة وفد فرنسي للأقاليم الجنوبية للمغرب وإشادته بما تحقق من تنمية، واستقبال الملك للسفير الفرنسي لتسلم أوراق اعتماده، مع حديث عن وساطة إماراتية محتملة في صفقة أسلحة جوية.

في الختام، تبقى العلاقات المغربية-الفرنسية قوية وعميقة ومعقدة، تجمعها عوامل تاريخية وسياسية واقتصادية وثقافية وإنسانية، والأزمة الحالية عابرة، تنتظر فقط ضبط لغة المصالح والحكمة بين الدولتين، مع إدراك فرنسا أن مستقبلها مع المغرب مرتبط بالاعتراف بعدالة قضية الصحراء وقبول مشروع الحكم الذاتي المغربي الواقعي.

وهو مستقبل حتمي ومفروض على كلا الدولتين بسبب العزلة التي تعيشها فرنسا، مع ضرورة الحيلولة دون خسارة شركاء جدد، والبحث عن لغة دبلوماسية متوازنة لإعلان موقفها من الصحراء دون الإضرار بالجزائر، ودون الغموض والاعتراف الضمني فقط؛ إنما رسمي وصريح.

المقالات المرتبطة

أضف رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *