الأزمة تتعمق: باريس تعيد النظر في إرث إيفيان وعلاقاتها مع الجزائر

في خطوة وُصفت بأنها تاريخية ومحمّلة بدلالات سياسية قوية، صوّت البرلمان الفرنسي مؤخرًا لصالح مقترح يدعو إلى إلغاء اتفاقية 1968 المنظمة لهجرة الجزائريين إلى فرنسا، وهي الاتفاقية التي منحت منذ أكثر من نصف قرن امتيازات خاصة للمواطنين الجزائريين في الإقامة والعمل والتنقل داخل التراب الفرنسي.

وجاء القرار بفارقٍ ضئيل للغاية، إذ حظي بموافقة 185 نائبًا مقابل 184، بناءً على مبادرة من حزب “التجمع الوطني” اليميني المتطرف، وبدعم من أحزاب يمينية أخرى كـ”الجمهوريين” و”آفاق”، رغم معارضة الحكومة والأغلبية الرئاسية.

ورغم أن التصويت لا يُلغي الاتفاق فعليًا في الوقت الراهن، إذ تبقى الكلمة الأخيرة للحكومة الفرنسية، إلا أن مراقبين اعتبروا الخطوة ذات رمزية سياسية عميقة تعكس تغيّر المزاج العام داخل فرنسا تجاه الجزائر، وتمهد لمرحلة من الضغوط السياسية قد تُفضي مستقبلاً إلى إنهاء الاتفاق رسمياً.

أزمة دبلوماسية جديدة بين باريس والجزائر:

القرار الفرنسي، الذي يُعتبر سابقة في تاريخ العلاقات الثنائية، يُترجم توتراً دبلوماسياً متصاعداً بين باريس والجزائر. فالاتفاق المذكور يُعدّ امتدادًا لاتفاقيات إيفيان الموقعة سنة 1962، وكان يمثل لعقود طويلة رمزاً للعلاقة “الخاصة” بين البلدين، رغم الأزمات المتكررة.

لكن السنوات الأخيرة شهدت تحولاً جذرياً بعد إعلان فرنسا دعمها الصريح لمبادرة الحكم الذاتي التي تقدم بها المغرب سنة 2007 كحل وحيد للنزاع حول الصحراء المغربية، وهو الموقف الذي أثار غضب الجزائر ودفعها إلى ردود دبلوماسية حادة وإلغاء زيارات رسمية، من ضمنها زيارة الرئيس عبد المجيد تبون إلى باريس.

ويأتي هذا التصويت أيضًا في سياق داخلي فرنسي مشحون، حيث تصاعد خطاب اليمين الذي يستغل ملفات الهجرة والعلاقات مع الجزائر كورقة ضغط انتخابية، ما ساهم في زيادة الفتور تجاه المستعمرة السابقة وتراجع نفوذ الجزائر في الساحة السياسية الأوروبية.

من مدريد إلى باريس.. خسائر متتالية للجزائر بسبب موقفها من الصحراء:

لم يكن الموقف الفرنسي الأخير حدثًا معزولًا، بل امتدادًا لمسار من الانتكاسات الدبلوماسية التي تواجهها الجزائر منذ سنة 2022، حين أعلنت إسبانيا دعمها الرسمي للمقترح المغربي للحكم الذاتي باعتباره الحل “الأكثر جدية وواقعية”، وهو ما أدى إلى قطع العلاقات الدبلوماسية والاقتصادية بين الجزائر ومدريد، وتعليق معاهدة الصداقة والتعاون.

ونتج عن هذا القرار خسائر اقتصادية معتبرة، بعد تجميد المبادلات التجارية وتراجع صادرات الغاز عبر أنبوب “ميدغاز” نحو أوروبا، في وقت حاولت الصحافة الجزائرية التقليل من وقع الأزمة عبر التركيز على الجانب الإسباني فقط.

واليوم، مع انتقال التوتر إلى باريس، تبدو الجزائر أمام خسارة جديدة أكثر كلفة، خصوصًا أن إلغاء اتفاقية 1968 سيؤثر مباشرة على مئات الآلاف من الجزائريين المقيمين بفرنسا، الذين استفادوا لعقود من امتيازات قانونية واقتصادية واسعة.

الصحراء المغربية.. نزاع أنهك الجزائر سياسيًا واقتصاديًا:

منذ اندلاع النزاع حول الصحراء المغربية قبل أكثر من نصف قرن، أنفقت الجزائر مليارات الدولارات لدعم جبهة البوليساريو، عبر التمويل المباشر، وتوفير العتاد العسكري واللوجستي، وتأمين تنقل قادتها في المحافل الدولية.

ووفق تقارير دولية عدة، بينها تقارير لوسائل إعلام جزائرية معارضة، فإن هذا الإنفاق الهائل على مشروع انفصالي فاشل تم على حساب التنمية الداخلية، وأدى إلى إنهاك الخزينة العامة في فترات الأزمات الاقتصادية.

وفي ظل تراجع التأييد الدولي لأطروحة الانفصال، وتوالي مواقف دول كبرى — مثل الولايات المتحدة وإسبانيا وفرنسا وبريطانيا — الداعمة لمقترح الحكم الذاتي المغربي، أصبحت تكلفة الدعم الجزائري للبوليساريو أكبر من أي مكسب سياسي محتمل.

وكشفت دراسة حديثة صادرة عن منصة Eurasia Review أن انشغال الجزائر المفرط بقضية الصحراء المغربية يشكل أحد أبرز العوائق أمام تطورها السياسي والاقتصادي، إذ يستنزف مواردها ويحد من قدرتها على لعب دور استراتيجي في المنطقة.

وبذلك، يتأكد أن سياسة الجزائر الخارجية المبنية على معاداة المغرب لم تعد تجرّ سوى الخسائر المتلاحقة، سواء على مستوى العلاقات الدولية أو على صعيد الاقتصاد الوطني، في وقت يواصل فيه المغرب ترسيخ حضوره كقوة إقليمية وفاعل أساسي في الاستقرار الإقليمي.

المقالات المرتبطة

أضف رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *