من سيدي شيكر: حكاية رجل ومقلاة ومهنة تحتضر بصمت

بعيدا عن صخب المدن وضجيجها، وفي عمق منطقة أحمر حيث لا تزال الأعراس تتنفس برئة التقاليد، هناك قلب نابض لا يراه الكثيرون.

في غرفة جانبية متواضعة بمركز سيدي شيكر، في منطقة احمر، حيث رائحة الطين المبلل تمتزج بأهازيج الفرح، يحكي عبد السلام لـ"بلبريس" التي التقته في عرس بالمنطقة، قصة حياة لا تشبه الا عجينه، تارة تنتفخ بالأمل وتارة تنكمش تحت وطأة الظروف.

يجلس بوقار أمام مقلاته السوداء، تلك الرفيقة التي ليست مجرد وعاء، بل هي ذاكرة من حديد وشاهد صامت على رحلة كفاح بدأت منذ أكثر من اربعة عقود.

ويواصل الحكي، مسترجعا شريط البدايات في اوائل الثمانينيات بمدينة تارودانت. هناك، قرر شاب عصامي أن يتعلم لغة العجين وحده، دون معلم.

«صاحب المقهى علمني درسا واحدا لم انسه»، يقول عبد السلام، «قال لي: ان لم يعجب هذا السنفج الزبون، فأعد له ماله».

هذه الثقة هي التي صقلت يديه، وحولت معاركه الخاسرة مع العجين الى اتقان لافت، لدرجة أن حكى لنا ان صاحب المقهى طلب منه ان يجلب أبناءه ليستقر في تارودانت لكن والده حينها رفض.

في عام 1987، عاد الى بلدته في سيدي شيكر، حاملا معه صنعته التي أصبحت هويته. لكن دفء المقلاة لم يكن كافيا لصد رياح الحياة القاسية.

في عام 1997، اتخذ اصعب قرار في حياته. أطفأ النار، وترك مقلاته، واتجه للعمل اجيرا في بعض الشركات. لعشرين عاما كاملة، يداه اللتان اتقنتا مداعبة العجين، تعلمتا اللغة الخشنة للآلات وارضيات المصانع.

عشرون عاما من الغياب، لكن الحنين، كالعجين، يختمر في صمت. في عام 2017، لم يعد قادرا على المقاومة. عاد. لم تكن عودته مجرد تغيير في مصدر الرزق، بل كانت عودة الروح الى الجسد. عاد إلى مقلاته التي انتظرته، وإلى النار التي تعرفه، وإلى الحرفة التي تسري في دمه.

اليوم، عبد السلام ليس مجرد حرفي، بل هو رحالة. مقلاته هي رفيقته في السفر بين مواسم المنطقة وأسواقها؛ من جمعة سيدي شيكر، واثنين هديل، مرورا بايغود والدواوير البعيدة التي يطلبه أصحابها بالاسم لإحياء أفراحهم. في كل يوم عمل، تخرج من تحت يديه حوالي 300 قطعة سفنج، كل قطعة تحمل قصة كفاحه.

يحكي بحرقة عن الأيام الحالية، خاصة مع ارتفاع سعر الزيت الذي أضاف معاناة جديدة وقلص هامش الربح الضئيل اصلا. «اصبحنا نعمل من أجل لا شيء تقريبا»، يقول بصوت خافت، «لكن لا يمكن أن نتوقف».

لكن عبد السلام لا يحارب من أجل رزقه فقط، بل يحارب ضد النسيان. ويضيف بنبرة يمتزج فيها العتب بالأمل: «هناك معلمون كبار ماتت المهنة معهم، رفضوا توريثها. انا لا. علمت أبنائي، وأبناء المنطقة الذين يريدون تعلم الصنعة، لم يتبق في المنطقة سوى 5 ممن أعرفهم يزاولون المهنة».

إنه يقوم بدور لم تقم به أي جهة رسمية.

فوزارة السياحة، التي من المفترض أن تحتفي بهؤلاء الحرفيين، لا تعرف شيئا عن عبد السلام أو أمثاله الذين يحرسون هذا التراث من الاندثار في صمت.

وهو يجلس هناك، في تلك الغرفة المؤقتة، يغطس قطعة عجين في الزيت المغلي، تدرك انك لا تشاهد مجرد رجل يعمل.

انت تشاهد قصة الكفاح العصامي، والمقايضة المؤلمة بين الحرفة والوظيفة، وقوة العودة الى الجذور.

انت تشاهد رجلا تحول من أجير الى معلم، ومن عامل الى حارس ذاكرة، يرفض أن يترك النار تنطفئ مرة اخرى.