هي ثاني أكبر حواضر الصّحراء بعد العيون، سميت الداخلة، بسبب دخولها في المحيط الأطلسي، بمسافة أربعين كلم، يطلق عليها البعض، غزلاً، ”لؤلؤة وادي الذهب“، بينما يأبى الناقمون على وضعها الهش، إلا أن يُسموها ”الجُرف الملعون“.
سؤال يكفي لإماطة نقاب الهشاشة
الهشاشة صارخة بالمدينة بما لا يدع مجالاً للنكران؛ هشاشة بنيتها التحتية، تنضاف إلى واقع آخر أكثر بؤساً، كما عايناه، في مدينة حباها الله ببحرٍ وافر العطاء، ونشاط فلاحي مزدهر.
حميد، شاب رماه البحث عن لقمة العيش، من ”بني ملال“، إلى ”الداخلة“، نادلاً بمقهى، في حي السلام، يقول في دردشة مع ”بلبريس“: ”الصحراويون حتى هم يشتكون من التهميش وسوء البنية التحتية، وانعدام المرافق الإجتماعية“. مضيفاً، ”كنت أظن أن جمال مدن الصحراء ما بعده جمال، حسب ما تروجه القنوات الرسمية، والحقيقة أنه بلا استثناء، كل المدن تعاني من مشاكل لا حصر لها“.
الداخلة.. أغلى الأسعار في المغرب
من المشاكل، والتي لا حصر لها على رأي النادل الشاب، تصدمك الأسعار، في المواد الغذائية، هنا في هذه المدينةِ المعفيةِ من الضرائب، إذ يبلغ ثمن لترٍ من الحليب ثماني دراهم، وثمن كأس اليوغورت درهمين ونصف الدرهم، عند كل محل بقالة، الذي يعلل البائع فيه، الثمن المرتفع، بسبب النقل، وبعد المدينة عن المركز، ومئات الكيلومترات التي تقطعها الشاحنات بالساعات، فالمسافة بين الداخلة وأكادير تتجاوز الألف كلم، ويتطلب قطعها ثلاثاً وعشرين ساعة.
وتبلغ اللحوم هنا تسعين درهم للكلغ الواحد، وثلاث وعشرين لكلغ الدجاج، أما الفواكه والخضراوات، فالأثمنة تزيد درهماً وتنقص من بائع لآخر، إذ يتراوح ثمنها ما بين ثمانية إلى عشر دراهم، باستثناء الطماطم، فهي تترنح من واحد لآخر بين عشرة وإثني عشر درهماً، والغريب أن البعد والمسافات التي يعلل بها البقالون غلاء الأسعار، لا يمكن أن تُسقط على الطماطم، فالمدينة تتوفر على ضيعات تنتجها، وتبعد عنها بحوالي ستة كلم بمنطقة تسمى ”تاورطة“.
ويؤكد الجميع، أن بعد المسافة، وغلاء المحروقات، حجة واهية، لأن المدينة تعرف انخفاضاً في أسعار المحروقات، فثمن ”الليسانس“ يصل تقريباً إلى 07،11 درهم، أما ”المازوت“ فيصل إلى 07،24 درهم، وأغلب الشاحنات تعبأ صهاريجها من مدن الصحراء المدعومة، ما يكفيها لرحلتي الذهاب والإياب، لكنها تنكر ذلك، مستغلةً الفارق كهامش ربح، أمام صمت مطبق لهذا.
حماية المستهلك: التاجر هدفه الربح وغياب المنافسة يدفعه
في السياق، يقول محمد الجناتي، رئيس جمعية ”حماية المستهلك“، غير الحكومية، بالداخلة، لصحيفة ”بلبريس“، أن مرد إرتفاع الأسعار في الداخلة، لغياب المسؤول الذي ”لا يراقب ولا يواكب هذا الأمر“، مضيفاً أن ”الدولة تدعم المحروقات؛ لكي توازي الأثمنة، من أجل توفير المواد للمستهلك“.
ويؤكد الجناتي، في حديثه مع ”بلبريس“، أن الدولة “تتحمل المسؤولية في تحرير الأسعار بدون قوانين ورقابة، مكتفية بمراقبة الجودة والسلامة الصحية، دون ضبط للأسعار، حتى أصبح القطاع غابة، تغيب فيها المنافسة، بقد أعطت للتجار سلاحاً يفعلوا به ما أرادوا”.
الألبان.. شركتان تحتكران القطاع
ويرد الجناتي، إرتفاع ثمن الحليب، في لؤلؤة الجنوب، إلى الإحتكار، مشددا على أن ”غياب المنافسة يلهب الأسعار، بسبب تحكم الشركتين المتواجدتين في الجهة، بقطاع الألبان «الجودة وسنطرال»، وهذا يقتل المنافسة، وقد أجهض مشاريع لتعاونيات محلية، مثل «تعاونية حليب واد الذهب»، والتعليل مصاريف النقل، مع العلم أن المسافة هي نفسها من أكادير شمالاً مع مدن أخرى، وجنوباً نحو الداخلة، ومناطق الشمال غير مدعمة المحروقات، ومع ذلك فالشركة في المركز، تقول أن الثمن موحد من طنجة إلى لگويرة“.
الخضروات.. غياب سوق الجملة
وأفاد الفاعل المدني، الجناتي، ”بلبريس“، بأن مشكل غلاء أسعار الخضروات الأساسي، هو افتقار الداخلة لـ”سوق الجملة“، الذي يؤدي إلى الإحتكار.
ويؤكد المتحدث، أن ”الجمعية في لقاءات مع المهنيين، تبين لها أن السوق المسمى بسوق الجملة، والذي تم بناؤه منذ سنوات عديدة، بالقرب من الحي الصناعي، يفتقر لمعايير سوق الجملة، بل لا يكاد يكون قيسارية ذات محلات صغيرة“.
في ذات المنوال، ورداً على استفسار ”بلبريس“، عن سبب غياب ”سوق الجملة“، في ثاني أكبر إقليم بالصحراء، يقول محمدالجناتي: ”النزاع السياسي، بين الموالاة والمعارضة، في المجلس البلدي، جعل هذا الموضوع؛ محلاً لمزايدات سياسوية، لا تهدف لحلحلةٍ فعليةٍ، عن طريق إحداث سوق جملة، حقيقي بالمعايير التي تتوفر في مثله من الأسواق الوطنية، التي تستجيب لمتطلبات المهنيين“.
سلع المساعدات تباع علانيةً وبالجملة
داخل ”سوق السلام البلدي“، تصادفك صناديق السكر والزيت المرصوصة هنا وهناك، جناً إلى جنبٍ مع أكياس الدقيق، علب الحليب المجفف ”نيدو“، وجبن ”البقرة الحسناء“ الذي لا يعرف إلا هنا.
وهي المساعدات المخصصة لساكنة مخيم الوحدة، من أجل بقائهم في الصحراء، وهم المواطنون الذين أتت بهم الدولة للمدينة، على غرار العيون، بوجدور السمارة، من مناطق مختلفة من شمال البلاد، لتعمير المنطقة، ذات العدد القليل من السكان.
وقد خرجت هذه المساعدات، التي كتب عيها بخط غليظ، ”الأقاليم الصحراوية“؛ عن سكة مسارها الصحيح، وصارت بضائع غير مزجاة، يعاد بيعها بلا حسيب ولا رقيب.
ووقفت ”بلبريس“، خلال جولتها بالسوق البلدي، على محلاة تكاد لا تبيع سوى هذه المساعدات،علب الشاي، والقطاني، رغم أنها مواد ليست للبيع.
وحسب ما استقيناه من معلومات، فهذه السلع، المساعدات، يعيد سكان حي ”الوكالة“، بيعها، لسد بعض المصاريف اليومية، لكن ما يبيعه المواطنون لا يشكل حتى عشر المتواجد هنا، بل تستفيد منها ”مجموعات ريعية“، تنهج طرقاً غير واضحة في السيطرة على مساعدات السكان، ويتم بيعها بالجملة، كما رصدت ”بلبريس“، في المحلات المكتظة بها، علماً أن حصة كل أسرة، لا تتجاوز كيس دقيق، خمسة لترات من الزيت، وخمسة قوالب من السكر، وتختلف أحياناً حسب عدد الأفراد في الأسرة.
ويؤكد الجميع، أن سبب هذا، هو إستغلال الفراغ الرقابي، من طرف المشرفين على هذه المساعدات، الموجهة لهؤلاء المواطنين، ويتم التلاعب بها من طرف أرباب الفساد المستشري في المنطقة.
الداخلة.. التناقض الصارخ
لا يكل المسؤولون هنا، عن ترديد أسطوانة المشاريع والتنمية، لتتخيلها ورشة مفتوحة، صَبْحَ مساءٍ لتصبح ذات مقومات المدن الحديثة.
الداخلة، مدينة صغيرة تكفي ”الميزانيات المصروفة فيها هدراً، لتبني فوقها مدينة أخرى“، هكذا يحتج هشام، شاب من أبناء المدينة، التي تتلفع أزقتها وشوارعها بالحفر، باستثناء واحد، ذلك الذي يؤدي للميناء، كما عاينت الصحيفة.
وتعتبر ”الوكالة“، الخزان الإنتخابي الأكبر في المدينة، وهو الحي الذي شيد سنة 2008، لينتقل نحوه المواطنون الذين كانوا يعيشون بمخيم الوحدة، منذ سنة 1991، رغم حداثته إلا أنه تجلٍ جلي لبؤس المدينة، وفقر أهلها، فجل المنازل هناك، لا زالت متشحة واجهاتها بلون الياجور الذي بنيت به.. فأهل ”الوكالة“، وإن كان فيهم من يشتغل في البحر، إلا أن السواد الأعظم، لا زال يعيش على المساعدات التي تقدمها الدولة، لمن قدموا في مخيم الوحدة.
وفي ذات السياق، جدير بالذكر، أنه مع عوز المدينة، لبنية تحتية متينة، ينضاف غياب لأبسط فضاءات الترفيه، اللهم إن كان المواطن، يملك سيارة وخرج نحو فضاء الطبيعة التي حبى الله بها واد الذهب.
فحي ”الوكالة“، الذي يفتقر إلى أغلب المؤسسات العمومية، والطرق التي شيدت فيه، والغير صالحة للمسير، توجد به حديقة، تم تشييدها في ظرف أربع سنوات، لكن تم أيضاً إغلاقها، لأنها لاتزال غير مؤهلة، حسب ما أفادت به بعض الساكنة لـ“بلبريس”.