في زمن تراجع مؤشرات المواطنة واتساع دوائر اليأس والإحباط وانسداد الأفق وتنامي موجات الاحتجاج والاحتقان والرغبة الجامحة في الهجرة والهروب.. في زمن تراجع منظومة التربية والتكوين والقيم والأخلاق.. في زمن فشل مؤسسات التنشئة الاجتماعية (أسرة،مدرسة،دور الشباب والطفولة والرياضة،جمعيات المجتمع المدني،أحزاب سياسية ...) في الاضطلاع بوظائفها التربوية والتأطيرية .. في زمن انتشار ثقافة الميوعة والتفاهة والانحطاط والانحراف .. في زمن تردي المستويات الإدراكية للتلاميذ والعزوف عن القراءة واستفحال العنف المدرسي .. في زمن "العبث "و"التفاهة" تبرز "الجودة" و يطفو "التميز" ويحضر "التحدي" .. "تحدي القراءة العربي"، وتحضر التلميذة المغربية "مريم أمجون" بطلة مسابقة "تحدي القراءة العربي" في نسختها الثالثة التي انعقدت قبل أيام (30/10/2018) بإمارة دبي بدولة الإمارات العربية المتحدة (2018)، في حفل ثقافي كبير ترأسه الشيخ "محمد بن راشد آل مكثوم" نائب الرئيس الإماراتي حاكم دبي، بحضور وازن لعدد من الشخصيات الرسمية ووفود الدول المشاركة ومن ضمنها الوفد المغربي، وهذا التميز الذي شكل مفخرة لجميع المغاربة واعتراف عربي بالمدرسة العمومية، يسمح بإبداء الملاحظات التاليـــة :
- أن التلميذة "مريم" لا يتجاوز عمرها التسع سنوات، ولا شك أن ما وصلت إليه تقف وراءه أسرة تضطلع بأدوارها التربوية، وطاقم تربوي (أساتذة) وإداري أدرك قدرات "مريم" فاحتضنها وشجعها ورعاها إلى أن وصلت إلى قمة التحدي، وهذا معناه أن "المدرسة" عمومية كانت أو خصوصية لايمكن أن ترتقي ،إلا في ظل أسرة مستقـرة تضطلع بكامل أدوارها التربوية والتوجيهية ومتعاونة ومتفاعلة مع الوسط المدرسي ومتناغمة معه، ولا مناص من القول أن "أسرة مستقرة" و"متوازنة" تعطي "طفلا/متعلما "مستقرا" و"متوازنا" تربويا وأخلاقيا ونفسيا وذهنيا، وهذا من شأنه أن يساهم في تيسير العمليات التعليمية التعلمية وتحقيق أهدافها ومقاصدها.
- أن التلميذة صاحبة التحدي، تدرس بالمدرسة العمومية ،و بتحديها ترد الاعتبار للمدرسة العمومية التي تزخر بالطاقات والمواهب، وترد الاعتبار أيضا لرجل التعليم الذي يعد أساس وأس العملية التعليمية التعلمية، سواء من خلال والدها الذي ينتمي إلى أسرة التربية والتكوين أو من خلال أساتذتها الذين أطروها واحتضنوها وآمنوا بقدراتها وواكبوها إلى أن وصلت إلى قمة التحدي والتميز.
- أن الارتقاء بالمدرسة العمومية يمر قطعا من بوابة "التعليم الأولي" و"الابتدائي" ، وهذه المرحلة هي مرحلة بناء أساس "الثوابت" (المعرفة،القيم،المواطنة)، مما يفرض إيلاء أهمية بالغة للتعليمين الأولي والابتدائي (مناهج، برامج، بيداغوجيات،وسائل ديدكتيكية ...)، بدليل أن واقع الممارسة يثبت أن بعض التلاميذ في المرحلة التأهيلية يجدون صعوبات في قراءة نص من أربعة أسطـر، فضلا عن محدودية مستوياتهم الإداركية، مما يعمق هوة الهشاشة والرداءة .
- لامناص من الاهتمام بالقراءة في المرحلة الابتدائية وتحفيز المتعلمين عليها ، لأنها قناة لامحيدة عنها لتغدية العقل وتنوير الفكر، والدليل أن تصريحات البطلة "مريم" أمام بعض القنوات الإعلامية (قناة العربية نموذجا)، عكست "قوة الشخصية" رغم صغر سنها وسلامة لغتها وثقافتها وشجاعتها وشغفها بالكتاب .. وهذا معناه أن "التميز الدراسي" لايمكن أن يمر إلا عبر "محبة الكتاب" و "شيوع ثقافة القراءة".
- ما حققته "مريم" يفرض الاهتمام بالمدرسة العمومية التي لابد أن تجدد نفسها وتغير من مناهجها وبرامجها وطرق تدريسها، وأن تتيح للمتعلم(ة) زمنا مدرسيا يسمح بإبراز الطاقات والميولات والمواهب والقدرات، مع الحرص على الإيمان بفلسفة "التعلم الذاتي" كقناة من قنوات التعلم، ولا أدل على ذلك أن "مريم" قرأت حوالي 200 كتاب وشاركت بستين كتاب وتمكنت من منافسة آلاف التلاميذ وطنيا وعربيا، وأن ما وصلت إليه من مستوى إدراكي مثير للإعجاب مقارنة مع أقرانها، هو ثمرة للتعلم الذاتي، وهي بذلك تعطي رسالة واضحة أن الوصول إلى مدارج التحدي والتميز، يفرض التضحية والإخلاص والمثابرة والاجتهاد ، فطفلة/تلميذة صغيرة عمرها تسع سنوات التهمت حوالي "مائتي"(200) كتاب، لا يمكن مقارنتها قطعا مع طفل(ة)/تلميذ(ة) متهاون يقضي معظم أوقاته أمام التلفاز أو الهاتف النقال أو الحاسوب أو الطابليط .
- الحديث عن "مريم" لا يمكن أن يحجب الرؤية عن مجموعة من التلاميذ من مختلف المؤسسات التعليمية الذين انخرطوا في مسابقة "تحدي القراءة العربي" عبر التراب الوطني، و هذا الانخراط الواسع النطاق على فعل القراءة، يقف وراءه أطقم إدارية وتربوية تستحق الثناء و التقدير، وهي مناسبة تدعو إلى إعادة الاعتبار لرجال ونساء التعليم، بتحفيزهم ماديا ومعنويا وتمكينهم من مناخ مدرسي سليم يسمح بإبراز الطاقات والمواهب والقدرات ...
- كل تلميذ(ة) يمتلك قدرات ومواهب وطاقات، لايمكن إبرازها أو صقلها أو تطويرها إلا في ظل مناخ مدرسي سليم محفز ومشجع على الخلق والإبداع والابتكار، وهنا تكمن أهمية "الأندية المدرسية" في إبراز الطاقات وصقل المواهب و احتضان ورعاية القدرات، لكن وجب التأكيد أن هذه الأندية المدرسية لابد أن تحاط بما يكفي من الدعم والوسائل، وتفعيلها على أرض الواقـــــع يفرض وبإلحاح "التقليص من زمن التمدرس" (العبرة ليست في الكم) ، بشكل يسمح بالاشتغال في الأندية المدرسية القادرة على دعم وتقوية التعلمات في جميع المجالات من قراءة وشعر وقصة ومسرح وسينما و بيئة وتنمية ومواطنة وتراث ورياضة وغيرها، وهذا من شأنه أن ينزل مفهوم "مدرسة المواطنة" و"مدرسة الحياة" على أرض الواقع.
خلاصة القول، أن التلميذة "مريم أمجون" بتألقها وتميزها أصبحت "قدوة" بالنسبة لأقرانها من التلاميذ، ولابد من استثمار تجربتها من أجل تطوير ممارسة القراءة وسط المتعلمين والمتعلمات، والتحفيز على التعلم الذاتي وتعبئة المدارس والتلاميذ للانخراط في المسابقات الوطنية أو الدولية ذات الصلة بالتربية والتكوين وفي طليعتها مسابقة "تحدي القراءة العربي" ، وإعادة الاعتبار للأندية المدرسية (نادي المسرح، نادي الشعر، نادي القصة، نادي الصحافة،نادي المواطنة وحقوق الإنسان، نادي التنمية والتراث ...) بشكل يجعل المدرسة العمومية مدرسة للمواطنة والحياة، وهذا "التميز" -الذي يعد "فلتة" في زمن التفاهة- يفرض علينا توجيه البوصلة نحو عدد من الشباب المغاربة الذين شرفوا المغرب على المستوى الدولي في عدد من التظاهرات كما هو الحال بالنسبة لبعض المسابقات الدولية في تجويد وحفظ القرآن الكريم ، ولا يلقون ما يستحقون من اهتمام إعلامي ، في الوقت الذي تركز فيه "الميكروفونات'' و''عدسات الكاميرا" على ثقافة التفاهة والانحطاط (رقص، غناء ...)، وأخيرا يحق لنا الافتخار كمغاربة بالتلميذة "مريم أمجون" التي تميزت في واقع تسيطر عليه التفاهة والانحطاط، وردت الاعتبار للإبداع الراقي بكل تعبيراته، وأعطت صورة مشرقة لمدرسة عمومية تستحق الاهتمام ولأساتذة لا يستقيم إصلاح بدونهم، وقبل هذا وذاك قدمت صورة رائعة لمغرب "ممكن" .. لجيل قادم من الأطفال والشباب يبنون الوطن بالتعليم والثقافة و المعرفة والقيم والإبداع والرقي... فهنيئا للكتكوتة "مريم" التي صنعت مجدا وتميزا في زمن التفاهــة وهنيئا لأسرتها ومؤسستها وبلدتها المنسية (تيسة) ... وكفى من رعاية "العبث" و احتضان "الانحطاط" ...فكل"عبث" أو "انحطاط" هو إساءة للوطن