وأوضح فريشمان أن التكنولوجيا تعيد هندسة البشرية بصفة جزئية عن طريق التأثير على القدرات البشرية وتشكيل قيمنا ومعتقداتنا بشكل نسبي أيضا، في حين أصبحنا نتجه تدريجيا إلى قبول واقع تحكم التكنولوجيا في حياتنا لنخاطر بذلك بفقدان مميزاتنا كبشر.
وحسب فريشمان، يتطلب التخلص من التكنولوجيا الرقمية تقديم تضحيات جمة، حيث إن الأنظمة الاجتماعية والاقتصادية والثقافية ترتبط بشكل كبير بهذه التكنولوجيا، وبالتالي فإن من الضروري مقاومة الضغوط الاجتماعية والتقنية والبحث عن فرص للتحرر من هذا الارتباط.
وفيما يتعلق بالعقود الإلكترونية التي تعيد هيكلة السلوك البشري على نحو مقلق، أفاد أستاذ القانون بأن قانون العقود يفترض تمكين الناس من ممارسة إرادتهم بحرية على المستوى النظري، لكنه يهدد الاستقلالية ويدفع الناس للتصرف كآلات من الناحية العملية.
وبشأن دعوته إلى إضفاء المزيد من التفاعل في صلب الأنظمة الرقمية بين طيات كتابه، أفاد فريشمان بأن التفاعل بين البشر وابتعادهم عن النصوص الجاهزة من شأنهما أن يمنحا العديد من الفرص لتطوير قدراتهم الضرورية لتحقيق الازدهار البشري.
ويتميز الإنسان عن الآلة بحاجته للاحتكاك بالآخرين، فنحن نحتاج إلى التفكير في أنفسنا والآخرين، كما نسارع إلى تعلم الطرق المناسبة لممارسة حقنا في تقرير مصيرنا، لكن البيئة الشبكية الرقمية تفتقر بالأساس إلى العلاقات الاجتماعية المبنية على الثقة.
وفي الوقت الذي يرى خلاله الكثيرون أن الآلات تجرد البشر من إنسانيتهم استنادا إلى اختبار تورينغ يعمد فريشمان إلى قلب أسس هذا الاختبار واعتماد اختبار مختلف تماما عن طريق دراسة التصرف البشري وتحديد مواطن الشبه مع الآلة.
إدارة تايلور العلمية للبشر
وأشار فريشمان إلى نظرية الإدارة العلمية التي تعرف باسم "منهج تايلور" والتي ترتبط بشكل وثيق بقدرة التكنولوجيا على هندسة الإنسانية.
يذكر أن فريدريك تايلور أحدث ثورة على مستوى العلاقة بين الإدارة والعمل من خلال ابتكاره طريقة العمل المنظم.
وحسب رأي الكاتب روبرت كانيغل في كتابه الذي يروي السيرة الذاتية لتايلور، كان فريدريك قائدا بلا روح، وسعى لسلب إرادة العمال وتضمينهم ضمن نظام عمل شبيه بالآلات "لقد كان راديكاليا لكنه غالبا ما يساء فهمه".
طور تايلور تقنياته ونظريته التي اعتمدت في الإدارة العملية للإنسان داخل أماكن العمل إيمانا منه بضرورة معالجة أوجه القصور داخلها والاستفادة القصوى من العمال، ليطور نظاما يزيد الكفاءة والإنتاجية وقابلا للتعميم.
ويعتبر منهج تايلور نوعا من التكنولوجيا التي تعتمد على البيانات، ويمكن توظيف هذه البيانات لاستخدامها في إدارة الأشخاص، لكن منتقدي هذا المنهج شددوا على كون تايلور اعتمد على حكمه الخاص أثناء تقييم الأشخاص.
وبين فيشرمان في كتابه أن الابتكارات التكنولوجية للقرن العشرين نجحت في تحسين قدرة المدراء على جمع البيانات واتخاذ القرارات بناء عليها، فمن غير المستغرب انتشار نظرية الإدارة العلمية داخل القطاع الصناعي وخارجه.
ووفقا لفريشمان، عملت شركة فورد على تطبيق نظرية الإدارة العملية في إدارة خط التجميع داخل مصانعها، مما تسبب في توليد بشر شبيهين بالآلات، حيث خفضت الشركة مساهمة العامل وجعلتها مقتصرة على حركات آلية لا تتطلب مهارة كبرى.
وأوضح أن كلا من "الفوردية" ونظرية الإدارة العلمية تشتهران بتحقيق الفائدة القصوى بالنسبة إلى المدراء والرأسماليين، وذلك من خلال الإشراف على عمال المصانع وإدارتهم بطرق مختلفة تسعى بالأساس إلى دفعهم للتصرف مثل الآلات.
وتنص نظرية الإدارة العملية على إيلاء الإنتاجية والكفاءة الأهمية القصوى، كما أنها تقود إلى اعتبار العمال مجرد أدوات ومدخلات إلى النظام، وسبق لفريدريك تايلور القول إنه "في السابق كان الرجل يحل في المقام الأول، وفي المستقبل سيحل النظام في المقام الأول".
وقد أدرك منتقدو تايلور مساوئ منهجه واعترضوا على آثاره السلبية على العمال، لكنهم تابعوا تبنيه في المدارس الحكومية والمستشفيات والمكاتب الحكومية عن طريق اعتماد جداول زمنية دقيقة وإجبار الناس على الالتزام بها، وهو ما يبين قدرة التكنولوجيا على إعادة هندسة البشرية.
ويرى فريشمان أن منهج تايلور أصبح جزءا لا يتجزأ من كيفية تصور المجتمع لجميع أصناف الإدارة في شتى المجالات، ويحيل هذا الأمر إلى التساؤل بشأن عواقب "تيلرة" العمل البشري بشكل كامل، وهو ما يعني إقرارنا بأن إدارة عمل الإنسان يعد أمرا يسير الفهم من قبل الآلات.
وتعتبر إدارة الموارد البشرية شكلا من أشكال تبني منهج تايلور، حيث تعتمد القرارات الإدارية في وقتنا الحالي على البيانات والخوارزميات، وهو ما يدفعنا للاعتقاد بأن المستقبل القريب سيشهد اعتماد التقنيات الذكية عوضا عن المدراء البشريين لتحقيق أقصى إنتاجية.
المصدر : إيكونوميست