أتابع استعدادات الطلبة لمباراة التعليم، وأجد نفسي مشفقا عليهم، لقد تم إغراقهم "بخوردة" النظريات والمقررات، فيظلون طيلة سنة، وهم يتصارعون مع هذا الكم الهائل من المعلومات، التي سينسونها بمجرد تعيينهم. واقع حالهم مثل شاب ظل يقرأ تحفة العروس، ويوم الامتحان فوق مسرح العمليات، وقف حمار الشيخ في العقبة. أن تنجح في مباراة التعليم لا يعني انك ستنجح في معركة التعليم، التي ستدوم سنوات طويلة، والتي تتطلب تكوينا في مدرسة الحياة.
احكي لكم قصة أستاذ متعاقد نجح بضربة حظ في التعليم لم يحفظ حرفا واحدا، اتكأ على ما بقي في ذهنه لسنوات، كان يحب التعليم، ويحلم بامتهان هذه المهنة، وله تجارب متنوعة في العمل الجمعوي والثقافي. في سنته الأولى شارك في احتجاجات ضد "التعاقد الذي فرض على الأساتذة".
لم أر أستاذا يرافقه التلاميذ خارج القسم سواه، خلق حالة فريدة في الثانوية. شاب لا يتجاوز سنه الثلاثين، أنيق الملبس، مبتسم الثغر، وسيم المحيا. حضوره يرسل طاقة عجيبة في النشاط والإبداع. أسس ناديا تربويا سماه: "الإبداع الفني والأدبي". قام بثورة حقيقية داخل الثانوية. وكان دما جديدا في شريان المؤسسة. ينظم كل أسبوع سهرة سينمائية، يحضرها الأساتذة والتلاميذ، لمناقشة فيلم من الأفلام العالمية. لن أنسى ذلك النقاش الرائع حول الفيلم الأمريكي SILENCE للرائع مارتن سكورسيزي. تطور النقاش إلى قضايا ذات أبعاد فلسفية ودينية. يتحفنا ناديه كل شهر بمسرحية متميزة، كشفت عن مواهب تمثيلية فريدة، لن أنسى مسرحية "المراهق"، التي تحكي قصة أب نسي مراهقته المتمردة، ويمارس سلطته على ابنه المراهق. لكن الذي كان يمتعني، أمسيات الطرب الجميل. اكتشف هذا الأستاذ صوتا جميلا لتلميذة، لقبت بأم كلثوم. ومن محاسن الصدف، أن من بين أساتذة المؤسسة من يتقن العود، والعزف على الكمان، والضرب على الطبل. وكان أحد الأساتذة متفقها في اغاني أم كلثوم، ما إن تنهي التلميذة غناءها، يشرع في الحديث عن المقامات الموسيقية، وتاريخ القصيدة المغناة، فتتحول المتعة إلى لقاء في التثقيف الموسيقي.
كنت أستمتع باللقاءات الأدبية، عند استضافة الروائيين المغاربة، وقد استضفنا عبد الكريم الجويطي، وحسن أوريد، ومحمد برادة...
اقرأ أيضا
هذا الأستاذ المتعاقد، كأنه مبعوث من السماء، لإحياء ثانويتنا المباركة، حيث عزز الحضور الثقافي والتربوي للأستاذ خارج القسم، فتعلق به التلاميذ، وأحبوه حبا غريبا.
أما ما كان يصلني من أخبار عن أسلوب تدريسه لمادة الفلسفة في قسمه، كان يثير شغفي، لأحضر معه ساعة واحدة، لأتشارك متعة الاستماع إليه مع تلامذته. أتذكر أنني حضرت نقاشا في حصة الثانية باكالوريا حول مفهوم الدولة. فوجئت بذلك الانضباط المهيب، الذي كان يبسط رداءه على التلميذات والتلاميذ، ينصتون، يشاركون. الكل حاضر. علّم تلاميذه أخلاق الحوار البناء، وإن تكلموا بغير اللغة العربية. حضوره في القسم مهيب، حديثه أنيق بلغة فاتنة، حركاته متزنة، نظراته مشجعة، هندامه محترم، يبدو مثل فيلسوف قادم من بعيد.
بصراحة، وإن كنت متقدما في المهنة، غير أنني تعلمت منه الكثير. رحب بي في قسمه، وفرح لحضوري. غادرت القسم بعد انتهاء ساعة الدرس، لكن التلاميذ لا يريدون تركه يذهب إلى منزله، بل رافقوه في الطريق، يسألونه، ويجيبهم دون كلل أوملل. إنه أستاذ حاصل على شهادة الدكتوراه في فلسفة جيل دولوز، إذا حضر في قاعة الأساتذة، فرض هيبته المعرفية، وناقش بعمق كل القضايا، وأرى في أعين بعض الأساتذة غيرة مبررة.
منذ أن التحق بثانويتنا، لم نسمع أنه وقع في خصومة مع تلميذ أو تلميذة. بل إنه كان يمارس دورا لحل المشاكل التربوية والنفسية والاجتماعية للتلاميذ، وأسس ناديا للإنصات، وتدخل لحل مشاكل بعض التلاميذ المادية، عبر التنسيق مع بعض الجمعيات، ووفرملابس الدخول المدرسي، والكتب...وفي فصل الشتاء يوفر اللباس الدافئ..
لم أسمع هذا الأستاذ يشتكي من شيء، بل كان إيجابيا في كل شيء، ويحفز على العمل، ويزرع روح التفاؤل في الجميع.
ثانويتنا لم تنظم رحلة جماعية، منذ مدة طويلة، لكن بعد مجيء هذا "الأستاذ المتعاقد"، نظم رحلة جماعية إلى إفران، لن تنسى أبدا. اكتشفنا نحن الأساتذة بعضنا البعض، وربطنا علاقات إنسانية متميزة مع التلاميذ، وظهرت مواهب جميلة في هذه الرحلة، بداية من الأستاذة التي تجيد فن الحكاية إلى التلميذ الذي غنى أغنية الراب، تحكي معاناة مراهق مع مجتمعه.
تعلق التلاميذ بهذا الأستاذ، وظل اسمه يتردد في كل مكان. ولا تحلو جلسة الأساتذة في قاعة الاستراحة إلا بحضوره، اكتشفنا حس الدعابة لديه، إنه مكتبة من النكت، بمختلف ألوانها. لم أر أسنان بعض الأساتذة إلا يوم مجيئه إلى ثانويتنا. كان محبوبا من الأستاذات، لكنه خجول في الحديث معهن.
لم أكن أتخيل أن يحبه أساتذة التربية الإسلامية، الشائع أن هناك جدلا قائما بين الفلسفة والتربية الإسلامية، لكنه استطاع أن يقدم أستاذ الفلسفة بشخصية المتميزة، فهو مواظب على الصلاة، تجده في مسجد الثانوية باستمرار، وقد فاجأني، يوم ألقى موعظة بعد صلاة العصر، وكانت مؤثرة. كان يتحدث كصوفي متأمل في الوجود، بلغة عرفانية رائعة.
إنه بيننا مثل رسول بعث لإحياء ثانويتنا، كان متفائلا، إيجابيا، أنيقا، متفوقا، جامعا، مبدعا...
يؤمن بالواجب أولا، والتفاؤل ثانيا، والتضحية ثالثة، ويختم رسالته، لا أسألكم أجرا. أكد أن نضاله لم يكن خبزيا.
ذكرتني قصة هذا الأستاذ بأستاذي الذي درسني اللغة العربية في الإعدادي، من شدة حبه لتلاميذه. لازلت أتذكر أنني لم أفهم درسا في المبتدأ والخبر. فطلب مني، أن أزوره في المقهى. كان كريما، اشتري لي بيمو بدرهمين، واشربني "كافي كريم"، وظل يشرح لي الدرس إلى أن استوعبته. لم أتخيل أن تتطور علاقتي به، حين سألني عن مهنة أبي.، فجاءني بحذاء، لازلت أتذكر لونه البني. وظل يشجعني في دراستي. يوم علمت بوفاته، زرته في بيته فوجدت الكثير من تلاميذه قد حلوا بمنزله، وظلوا يرددون مناقبه العظيمة. كانت جنازته عظيمة، كان الناس يسألون، من الميت؟ فكانت الإجابة: أستاذ عظيم.
أما أستاذة اللغة الفرنسية، أهدتني رواية Les Misérables لفكتور هوجو، وظلت تشجعني على الدراسة، فغرست في حب هذه اللغة، وكانت تختار أجمل العبارات لتحفيز التلاميذ. ولازلت أتذكر أنها نظمت حفل عشاء بمنزلها للتلاميذ المتفوقين، وعرفتنا بصديقتها الفرنسية، وأخذنا صورة رائعة، خلدت لحظة جميلة لا يمكن ان تنسى.
كان هؤلاء ولازالوا يمارسون هذه المهنة، بدافع رسالي، لا يعتبرون أنفسهم موظفين يتقاضون أجرا عن عملهم. كانوا يقدرون مهنة بناء الإنسان. ولا يلقون باللوم على الدولة والوزارة، كان يهمهم العمل، وليس النقد غير البناء.
إن زمن اجتياز المباراة ومضة برق. وما تحضره وستدرسه في مركز التكوين، لا علاقة له بالواقع. إنك امام جيل من المعطوبين نفسيا وفكريا وثقافيا وأخلاقيا، يحتاجون منك، لا أن تدرسهم المادة، فهذا جزء بسيط، يحتاجون منك، ان تعيد لهم إنسانيتهم المهدورة.
لن تنجح إلا إذا كنت إنسانا. أما إذا كنت معطوبا مثلهم، فانتظر الجحيم.
إن مشكلة مدرستنا ليست تعليمية بل تربوية وقيمية..، وهذه المشكلة هي أخطر مباراة مع التاريخ، يجتازها المغرب. ما أسهل بناء المدارس وشراء الطاولات، واستراد المناهج..، وما أصعب بناء الإنسان معلما ومتعلما!.
الاستاذ الذي نريد، أستاذ مثل الشمعة يحترق لينير الظلام. يجد نفسه وحيدا، مثل نبي في قومه، ولو تخلى الجميع عن واجبه. بهذا نهضة الأمم.
ما نعيشه اليوم، مجرد حملة توظيف كبيرة، حفظا للسلم الاجتماعي. ولذلك، على الاستاذ الذي تم إنقاذه من البطالة ان يفهم الرسالة، فينقذ التلميذ من الرسوب، حفظا للامان الاجتماعي. ينسى الاستاذ الرسالة المشفرة، فيجد نفسه في ورطة.
الاستاذ الذي نريد ما زال في علم الغيب ، وإذا بعث سيكون غريبا في قومه، وسيوصف بالمجنون، لا لأنه يطالب بحقوقه، بل لأنه يقوم بواجبه بحسب مقام النبوة.
مصطفى بوكرن..كاتب وباحث مغربي