غياب الأحزاب والنخب عن النقاشات المجتمعية جعل''التفاهة'' ''la médiocratie''تَتَسَلْطَن

يعيش المغرب على إيقاع معادلة صعبة الفهم ، دستور متقدم ، ملك حكيم واستراتيجي يقود البلاد نحو التموقع في النظام الدولي الجديد بحكمة وتبصر جعلت المغرب يحظى بتقدير جل قادة وشعوب دول العالم ، إصلاحات بنيوية وهيكلية عميقة تعرفها البلاد ، مجتمع دينامي منفتح يقود نقاشات قضايا مجتمعية ويطرح أسئلة فكرية كبرى ، لكن مقابل دينامية المجتمع ، يلاحظ حضور باهت ل''الأحزاب'' في هذه النقاشات ، وتراجع خطير للنخب في تأطير هذه النقاشات المجتمعية .

صمت الأحزاب وتراجع النخب للوراء نتج عنه فراغ معرفي رهيب، أفرز خطابا سطحيا بئيسا وتافها ، برز فيه ''أشباه السياسيين والمثقفين'' وكثير من ''التافهين''، استغلوا هذا الفراغ ليوجهوا الرأي العام ويؤثروا فيه ، وليشوهوا النبوع المغربي في كل تجلياته.

هذا الوضع ، ذكرني بما قاله المفكر والفيلسوف الكندي، آلان دونو ''Alain Denautl''، في كتابه "نظام التفاهة" ''La médiocratie'' : ‘’إن التفاهة قد بسطت سلطانها على كافة أرجاء العالم. فالتافهون قد أمسكوا بمفاصل السلطة، ووضعوا أيديهم على مواقع القرار، وصار لهم القول الفصلُ والكلمة الأخيرة في كل ما يتعلق بالخاص والعام’’.

وقد دق دونو في كتابه هذا ناقوس الخطر للعواقب الوخيمة المترتبة عن هذه السيطرة المحكمة للتافهين في كل المواقع، وقد شرح بشكل مفصل كيف مدت التفاهة أذرع سيطرتها في كل اتجاه وفي كل ميدان; من الميدان الأكاديمي، إلى السياسي، فالاقتصادي والتجاري، والمالي، والإعلامي، والفني.

وأكاد أجزم أن ما تضمنه كتاب "نظام التفاهة"'La médiocratie'' ينطبق على الوضع العام المغربي اليوم ، خصوصا على مستوى تراجع أدوار النخب ، وصمت الاحزاب السياسية أمام النقاشات المتداولة بالمشهد الوطني ، وعدم استيعابها للتحولات الفكرية المتسارعة التي يعرفها المغرب .

تراجع أدوار النخب في تعميق النقاش العمومي

عرف المغرب بعد مرحلة ''الانتقال الديمقراطي'' تراجعا مخيفا لحضور النخب في النقاشات المجتمعية وتأطيرها، وقد نتج عن هذا التراجع سيطرة ''التافهين'' على كل مفاصل الحياة الفكرية بالبلاد ، وبدأ ذلك ما يسميه دونو بتراجع الفضاءات المعرفية والأكاديمية وهي الجامعات والكليات ومعاهد ومراكز الأبحاث عن صناعة وانتاج النخب والقيادات، وتأطير النقاش العمومي وتوجيهه.
ونشير بالمناسبة الى ان ظاهرة تراجع النخب للوراء لا تخص المغرب ، بل أصبحت ظاهرة عالمية، حيث أصبحت جل الفضاءات العمومية رهينة ''التفاهة'' و''التافهين''..

وكما قال دونو في كتابه السابق الذكر لقد رجع المثقف والحكيم والعالم للوراء، واصبح يعيش على الهامش، ويراقب بحسرة تحكم ثقافة الإغراءات والضغوطات والمصالح الشخصية وسلطة المال في الفكر والمعرفة وتأطير وتوجيه الرأي العام بفكروخطاب ومعرفة
مشوهين.

في الجهة المقابلة، وكما قال دونو :’’ نجد الخبير (الاختصاصي والبروفيسور والدكتور). والفرق الجوهري بين الخبير والمثقف، أن الخبير يبيع كلمته وضميره، خدمة لمصالحه الخاصة الضيقة، وذلك على حساب الحق والحقيقة، وإعلاء لحساب الذين يرتبط بهم بمصالح. فالخبير مستعد أن يكيف ويحور ويؤقلم -وحتى يزوّر- الحقائق العلمية خدمة للفئات التي تحتكر السلطة والمال والنفوذ. والخبير (بخلاف المثقف) على استعداد تام لخداع وتضليل الرأي العام، مستخدما في سبيل ذلك ما يحظى به من مكانة واحترام بنظر عامة الناس.’’

مضيفا، هكذا جرى: "تتفيه" الأكاديمية، وإفراغ ميادين الأبحاث والدراسات العليا من مضمونها، حتى صارت السيادة للسخافة والسفاهة، حيث كان من المفروض أن تسود الحكمة والعلم والحق والأخلاق. ولم يعد من المهم أن يكون المرء مبدعا وموهوبا حتى يتسنى له الصعود في الدرجات الأكاديمية، فالمهم أن "يؤدي اللعبة"، ويتقن فنون التملّق والتزلّف والاحتيال والرضوخ لنظام التفاهة’’.

وصدق دونو القول: ‘’إن كل ما يحصل هو خدمة للسوق ولعالم يتحكم به أصحاب المليارات من الممسكين بزمام السلطة. الأكاديمية خضعت لقانون السوق. والعلم أضحى خادما ذليلا لدى المال’’.
وعليه، وبتراجع الجامعات والكليات والمعاهد ومراكز البحث في انتاج النخب والعقو التي من المفترض أن تصنف في خانة مضادات الرداءة، وفي مقدمتها الجامعة، أمست لبنة أساسية في نظام التفاهة الذي نعيش في ظله.

وعليه، لم تعد هذه الفضاءات أي الجامعات تضطلع بأدوارها التنويرية وإنتاج النخب المتفاعلة فكرياً مع: ''القضايا والأسئلة المجتمعية الملحّة، بل أصبحت تنتج ما سماه دونو بالخبراء أو "أشباه الخبراء" الذين يحاولون إضفاء الشرعية على الأوليغارشية الاقتصادية المهيمنة والتعمية على تجاوزاتها. فالخبير، كما يؤكد على ذلك إدوارد سعيد، يدفع له لكي يفكر بطريقة معينة.''

وأكيد ان تراجع النخبهذا ، قد ترك فراغا فكريا وإيديولوجيا عجز عن التعاطي مع الأسئلة والنقاشات المجتمعية الحالية بنوع من العمق المنهجي والمعرفي ، الامر الذي جعل التفاهة تسيطر على هذه النقاشات وتؤطرها بفكر تافه.

الحضور الباهت للأحزاب في تأطير النقاش العمومي

يمر المشهد الحزبي بالمغرب بأسوأ مراحله، ممارسة وخطابا وسلوكا وتواصلا، حيث ان الأحزاب السياسية كالنخب طلقت مهامها الدستورية المحددة في الفصل 07 من الدستور الذي نص على أن : ‘’ تعمل الأحزاب السياسية على تأطير المواطنات والمواطنين وتكوينهم السياسي، وتعزيز انخراطهم في الحياة الوطنية، وفي تدبير الشأن العام، وتساهم في التعبير عن إرادة الناخبين، والمشاركة في ممارسة السلطة، على أساس التعددية والتناوب، بالوسائل الديمقراطية، وفي نطاق المؤسسات الدستورية.
تُؤسس الأحزاب وتُمارس أنشطتها بحرية، في نطاق احترام الدستور والقانون.
نظام الحزب الوحيد نظام غير مشروع.
...........
............
يجب أن يكون تنظيم الأحزاب السياسية وتسييرها مطابقا للمبادئ الديمقراطية.
.............’’
تخلي الأحزاب السياسية عن الالتزام بمهامها الدستورية في التأطير والتكوين والتدبير المؤسساتي والديمقراطي ، جعلها معاقة في التفاعل مع التحولات والنقاشات المجتمعية المطروحة اليوم، تاركة ''التافهين السياسيين'' وأشباه ''السياسيين'' يميعون الفعل الحزبي والشأن السياسي.

ونشير - هنا- ان عدم قيام الأحزاب بمهامها الدستورية كان موضوع عدة انتقادات ملكية حادة،حيث ما فتئ جلالة الملك يتحدث عن الأعطاب الحزبية في أكثر من خطاب سامي ، مؤكدا جلالته أنه : ''غير مقتنع بالطريقة التي تمارس بها السياسة، وبأنه لا يثق في عدد من السياسيين”.
وعليه ، فمن الثابت ان الاحزاب السياسية تعيش - اليوم- مرحلة ''الموت السريري'' ،بعد فقدان مصداقيتها وجاذبيتها و عجزها عن تأطير النقاشات المطروحة اليوم،والتفاعل مع القضاياوالتحولات الفكرية والتقنية التي يعرفها المجتمع المغربي في ظل الثورة التكنولوجية المتسارعة.
ان تخلي الاحزاب السياسية عن تاطير المواطن المغربي تركته ضحية لافتراس التفاهة السياسية الشرسة ، وفي هذا الصدد نقول ان نقد جلالة الملك للاحزاب السياسية هو تنبيه لها لتجاوز تراجعها اللافت ، خُصوصا بعدما تخليها عن تأطير المواطنات والمواطنين وتكوينهم السياسي، وتعزيز انخراطهم في الحياة السياسية، وفي تدبير الشأن العام، والمساهمة في التعبير عن إرادة الناخبين، والتداول في ممارسة السلطة، على أساس التعددية والتناوب، بالوسائل الديمقراطية، وتسييرها وفق المبادئ الديمقراطية.
وفي نهاية هذا المقال ، ليس هناك احسن ما اختتم به الان دونو كتابه "نظام التفاهة"'La médiocratie'' انه يعوّل: ''على الدور الذي من الممكن أن تؤديه النخب المثقفة، التي عجز عن سحقها نظام التفاهة، فنأت بنفسها عن مؤسساته، وانسحبت من أكاديمياته. هذه النخب، على الرغم من قلّتها وندرتها وتشرذمها، ما تزال قادرة على أن تفعل شيئا في وجه التدمير والتخريب الممنهجين لكوكب الأرض، إنسانيا واجتماعيا واقتصاديا وبيئيا وأكاديميا وفنيا''