يبدأ الاستعداد لاستقبال عيد الأضحى في العاصمة العلمية فاس منذ شهر رمضان المبارك حيث يتداول مثل شعبي بين السكان الأصليين للمدينة "قرون الكبش كيبانو فالزلافة دالحريرة" حينها تبدأ الأسر البسيطة والمحدودة الدخل وحتى الميسورة بتوفير ثمن الأضحية التي تكون عبارة عن كبش أقرن أو ثور أرعن.
استعدادات الفاسيين للعيد بين الأصالة والمعاصرة
تصر الأسر الفاسية العريقة كلما اقترب عيد الأضحى المبارك على إحياء طقوسها الخاصة للاحتفال به والإستعداد لكل العمليات التي اعتادت القيام بها منذ عقود من أجل التحضير وفق ترتيبات خاصة لهذه المناسبة . فبمجرد إعلان وزارة الأوقاف والشؤون الاسلامية عن رؤية هلال ذي الحجة أي 10 أيام قبل العيد تتسارع النسوة في الاستعداد لاستقباله بتحضير أطباق ووصفات لن تجدها إلا في البيت الفاسي.
10 أيام قبل حلول يوم العيد،تمر بأزقة فاس الضيقة تشتم رائحة التوابل التي تسهر النسوة على تحضيرها في المنزل بحرص وعناية شديدة، تسمع خلالها صوت المبروك وهو يصدع في الأرجاء،و الأطفال بدورهم يغتنمون فرصة انشغال ذويهم ، يلعبون ويمرحون وتتعالى أصواتهم بفرح وبهجة.
كنت قبل سنوات، إن أردت المرور بسوق العطارين أو سوق الحنة تضطر إلى المشي بشكل منحرف من كثرة الإزدحام، الكل يتسابق لشراء المستلزمات أو الذهاب عند الخياط الذي بدوره تجد باب دكانه مكتظا بالزبائن الذين ينتظرون أن تجهز ملابسهم التقليدية والتي يحرصون في كل مرة أن يخيطوا واحدة جديدة تليق بالمناسبة.
عادات في طريقها إلى الزوال رغم تشبت العوائل الفاسية المتبقية بالمدينة، تغيرت العطارين وأصبحت سوقا لأصحاب الهواتف الذكية ومستلزماتها إلا بعض الحوانيت التي أبى أصحابها إلا أن يحافظوا على تجارتهم الأصلية، وتغير الناس وتبدلت أفكارهم وطريقة احتفالهم.
أيام قليلة على العيد..حالة استنفار قصوى
كما جرت العادة مع فاتح ذي الحجة من كل سنة،تفتح الأسواق في وجه المواطنين، لشراء أضحية العيد،كل حسب قدرته واستطاعته،لتعلن النسوة بذلك حالة الإستنفار القصوى، في كل سطح بيت أو فناءه تجد إناءا مملوءا بالسمسم أو "الزنجلان" وإناءا آخر لحبات اللوز المقشر والمغسول يجفان في الظل لإستعمالهما في تحضير حلويات العيد "دواز أتاي"كعب الغزال والغريبة البهلة والفقاص البلدي وغريبة العقدة، من أهم الثوابت التي لا يمكن لأي ربة بيت الإستغناء عنهم، تضرب أم الغيث مع لالة ربيعة الصقلية موعدا بعد صلاة العصر لإنجاز كيلوغرامين من كعب الغزال، يرتدين ملابسا تقليدية كما لو أنهما يتستعدان للذهاب إلى إحدى حفلات الزفاف، يشكلن كعب الغزال بطريقة هندسية تنم عن براعة وتمرس،يتسابق الفتية على أول حبة تخرج من الفرن لتذوقها، يمر اليوم الذي يمكن أن يمتد الى ساعات متأخرة من الليل إن لم يكملا ما اتفقا عليه، حيث أن للغد برنامج آخر.
يـأتي الصباح وتستمر أم الغيث عبر مكالمات هاتفية مسترسلة في تحفيز بناتها المتزوجات والمستقلات في بيوتهن من أجل القدوم إلى بيت العائلة ومساعدتها على التحضير لهذه المناسبة بكل ما يليق بها من حفاوة على اعتبار أنها المناسبة التي يجتمع فيها شمل العائلة ويعود الأبناء المستقلين بزيجاتهم من مدن أخرى لقضاء أيام العيد مع الوالدين رفقة الزوجات والشقيقات والأولاد .
ورغم تقدمها في السن تشرف أم الغيث على كل صغيرة وكبيرة في عملية تنظيف المنزل وترتيبه ، وتتكلف بهذا العمل كل من بناتها الأربعة حيث يشرعن في الكنس والغسل والتنظيف من السطح نزولا والفناء إلى عتبة البيت حيث يقال "يمارت الدار على باب الدار" ، وإعادة ترتيب الأفرشة مع تخصيص عناية أكبر للمطبخ وأوانيه باعتباره الفضاء الذي تقضي فيه أم الغيث وبناتها أكبر وقت طيلة أيام العيد في تحضير وإعداد (الشهيوات) والوجبات الخاصة بهذه المناسبة .
صبيحة العيد.. فرحة وبهجة و استحضار للسنة
يشكل "العيد الكبير " مناسبة دينية هامة في حياة ساكنة المدينة، لما له من رمزية في التضحية والفداء،استحضارا لقصة نبي الله ابراهيم،وطاعة اسماعيل لأبيه،تنفيذا لأمر الله تعالى،في صبيحة يوم العيد،وقبل ساعات على آذان الفجر تستيقظ أم الغيث بدون أن تزعج أبناءها الذين حضروا لتمضية العيد برفقتها،تبدأ في تحضير عجين الخبز المنسم بالزنجلان والنافع وبخلاف عيد الفطر تغيب "المختمرين" عن مائدة الفطور حيث ينتظر أهل الدار إلى أن تذبح الأضحية ليفطروا بالكبد عملا بالسنة النبوية.
تتوجه أم الغيث برفقة أسرتها الكبيرة إلى المصلى القريب من منزلها وهو مصلى باب فتوح، لأداء صلاة العيد مع طلوع الشمس، ليعودوا إلى ديارهم لنحر أضحية العيد،بحضور كل أفراد العائلة، إلا من أرغمته ظروف العمل أو البعد عن الوطن ، هي تقاليد دأب عليها الأجداد، لكنها لم تعد تغري الأجيال الحالية.
وبعد الانتهاء من عملية الذبح والسلخ،يتم تهييء وجبة الغذاء، التي تتكون من "بولفاف"، وهو قطع من الكبد ملفوفة بالشحم،و الشاي المحضر باتقان ليلائم والوجبة الدسمة.
وخلال الفترة المسائية، تتم عملية تبادل الزيارات، بين الأقارب والأحباب،لتبادل تهاني العيد،وتوجيه الدعوات بالمناسبة، وخلال اليومين المواليين للعيد، هدفها الأساسي هو أن تجتمع العائلات فيما بينها، لتجديد عملية إحياء الرحم بحضور كل أفراد العائلة ، والتصالح مع الذات والأقارب.
وإذا كان الاحتفال بعيد الأضحى بفاس هو شبيه بشكل ما من خلال عاداته وتقاليده مع مختلف الجهات الأخرى بالمملكة فإن أم الغيث ترى أن أهل فاس يتميزون بإعدادهم لوجبات خاصة يتم تحضيرها من لحم الأضحية مثل طهي رأس الخروف ببعض الملح والكامون وتبخيره، وكذا المروزية التي يتم إعدادها عبر تحضير قطع من مفاصل لحم الخروف ( خاصة التي يغلب عليها العظم ) ومزجها بتوابل خاصة قبل طهيها باللوز والزبيب ، وتحضير الشوا والمحمر وما إلى ذلك من أشهى الاطباق والوصفات.