هل ما زال حل الدولتين مقبولا ؟

ميلود العضراوي

القدس مدينة مقدسة وقبلة الأديان السماوية ، انطبعت بخصوصية القداسة على مر تاريخ الشرق القديم وما شاكله من أحداث وصراعات متنوعة ومختلفة .بعد معركة حطين التي انتصر فيها صلاح الدين الأيوبي لم يغلق هذا القائد المسلم العظيم باب القدس على خصوصيتها الإسلامية بل تركها مدينة مقدسة مفتوحة الأبواب وقبلة كل الحجاج من مختلف الديانات السماوية. قرار صلاح الدين كان حلا أبديا لمكان القداسة السماوية للأديان الثلاثة ومكانتها الجغرافية لا تقبل التقسيم ولا تقبل التدويل ولا يستأثر به دين سماوي عن آخر ولا دولة عن أخرى. ملك انجلترا ريتشارد قلب الأسد الذي قاد الحملة الصليبية الثانية في الشرق اعترف بهذا الحل الذي انهى الصراع بين الشرق والغرب وآخر حملة صليبية في الشرق ؟

القدس الآن تعيش أطوار الانتفاضة الفلسطينية الرابعة وثالث انتفاضة للقدس العربية المسلمة بعد انتفاضة سنة 2000 عندما زار ارييل شارون الحرم القدسي. اصطدم حينها المتظاهرون مع قوات الأمن الإسرائيلي ،وكانت اسرائيل متحفظة على استعمال الرصاص الحي ضد المتظاهرين كما تفعل اليوم ، والسبب ان اسرائيل كانت ما تزال تقيم للعرب حسابا واعتبارا وتخاف من ردود فعل الدول العربية والإسلامية الحليفة ان تنقلب عليها وتسحب سفاراتها أو تقطع معها العلاقات الدبلوماسية.

الآن تتحدى اسرائيل القانون الدولي وتتحدى احتمالات ردود الفعل من قبل الخصوم العرب والمسلمين، وتجرب بمؤشر الجريمة ضد الإنسانية والقتل العمد، موقف العرب من اطلاق الرصاص الحي على المتظاهرين الفلسطينيين العزل وموتهم بالعشرات في اليوم الأول للانتفاضة. تقول الأمم المتحدة على لسان الناطق باسمها في الأردن انه "ليس هناك من مبرر لاستعمال الذخيرة الحية من قبل اسرائيل ضد المتظاهرين الذين اقتربوا من الجدار ". التدخل الإسرائيلي يومي 15 و16 ماي 2018 خلف 61 قتيلا من الشباب الفلسطيني ومئات الجرحى، والمستشفيات المفتوحة في الضفة الغربية وفي غزة ، تستعد لاستقبال المزيد من الضحايا اذا ما استمرت المظاهرات أياما أخرى. ولاشك أن كيد أن المظاهرات ستستمر حتما لأن الشباب متحمس والقيادات الفلسطينية تذكي هذا الحماس بخطاب التحفيز والشجب والغضب وتألب صدور المسؤولين في البيت الأبيض ضدها باستعمال مصطلحات لم يعد لها مكان في الدبلوماسية الجديدة للولايات المتحدة الأمريكية ولا في فهمها الخاص لمحتوى القضية وتعاملها الحالي مع اشكالية الصراع في الشرق الأوسط، وقد سمعنا تدخل مندوبة الولايات المتحدة الأمريكية هذا اليوم في اجتماع مجلس الأمن استجابة لدولة الكويت التي طالبت بصيغة أمنية لحماية الفلسطينيين من القتل اٌسرائيلي، لقد بررت المندوبة الأمريكية جرائم اسرائيل وحملت المسؤولية بكاملها لحماس.

لقد تم بجلاء توضيح الموقف الأمريكي من القضية الفلسطينية التي تعبر عنها بالصراع في الشرق الأوسط والتعاطي مع القضية الفلسطينية، صار يختلف شكلا ومضمونا عن ذي قبل ، لقد تعامل في السابق  رؤساء أمريكيون مع القضية الفلسطينية الإسرائيلية بنوع من المرونة السياسية والدبلوماسية يسوفون الإسرائيليين ويماطلون الفلسطينيين، دون ان يقدموا على قرار فاصل ينهي الصراع الحاصل في قضية السلام بين اسرائيل والعرب.

الفهم الحالي للوضعية من قبل أمريكا لا يختلف عن فهمها لمجموع القضايا العالمية العالقة في السياسة والاقتصاد والاستراتيجية، وهو فهم براغماتي صرف، فقرار الرئيس "ترامب" بنقل السفارة إلى القدس، أخرج أمريكا من الاصطفاف السياسي والدبلوماسي حول القضية الفلسطينية وصمت الدول الغربية اتجاه ما يجري يبارك السياسة الأمريكية في المنطقة. الموقف الأمريكي يحمل خلاصة للوضع ونتائج مرحلة بكاملها من التفاوض والحوار وهو ما يغيب الآن عن العرب وعن السلطة الفلسطينية في رام الله وعن حماس في غزة، التي ما تزال تتشبث بحل المقاومة ولغة الخشب التي يستعملها قادتها في خطاباتهم الرسمية، الشيء الذي يعبئ طاقات الشباب الفلسطيني ويدفعها إلى المحرقة التي باتت وشيكة كما يترقبها القادة العسكريون في اسرائيل. العرب الذين شاركوا في قمة عمان بالأردن المنعقدة في28 من مارس سنة 2017  يدركون جيدا أن القضية الفلسطينية اتخذت مسارا آخر وأن خيوطها هربت من بين ايديهم وأنهم ليسوا قادرين على اتخاذ أي قرار رادع ضد اسرائيل وأن الولايات المتحدة الأمريكية لم تعد ورقة رابحة بالنسبة لهم. الرئيس الجديد لأمريكا عرف كيف يتسلط على القرار العربي في هذ الشأن ويفرغه من محتواه وذلك بضرب القوة الأولى الممانعة في الشأن الفلسطيني وهي السعودية باعتبارها الوصي عن المقدسات الإسلامية ومن بينها القدس الشريف ، بتهديدها وتحميلها خسائر حرب الخليج التي تعد بالمليارات ، مما جعل السعودية تستبق الحدث وتقيم عرسا دبلوماسيا كبيرا للرئيس "ترامب" في شهر ماي من السنة الماضية بالعاصمة الرياض وتقدم له منحة بحوالي 400 مليار دولار. الرضا الأمريكي على السعودية جعل منها جرما صغيرا يدور في الفلك الإسرائيلي ويركع تحت اقدام الصهيونية العالمية بقيادة الولايات المتحدة الأمريكية ويقبل بحل الدولة الواحدة والاندماج حسب اتفاق مؤتمر القمة في شهر ابريل 2016 بعمان. مصر التي تعتبر القوة العسكرية الضاربة للعرب تتخبط في مشاكلها الداخلية وتعاني معاناة شديدة في حماية حدودها مع اسرائيل، حيث تستثمر هذه الأخيرة وجود مليشيات اسلامية في المنطقة تمدهم بالسلاح والعتاد والتمويل لمهاجمة مصر وبذلك تقوم بشعل فتيل الصراع بين مصر وحماس ، لم يعد لمصر ولا لسوريا دور في القضية الفلسطينية ولا في القضية العربية ككل، وقريبا سوف تنقل مصر سفاراتهما إلى القدس وتفتح السعودية سفارة في اسرائيل .

الخلاصة أن سياسة اللعب على الحبلين من قبل أمريكا وحلفائها العرب ، قد انتهت وكشف النظام الدولي الجديد أوراقه في الشرق الأوسط وأصبح حل الدولتين شيء من ماضي التاريخ. القرار الآن بيد الفلسطينيين وحدهم، وأبو مازن عليه ان يعتدل في خطاباته السياسية التي تعتمد لغة الخشب والاستفزاز التي تؤدي إلى نتائج سلبية . عليه أن يدخل في جولة جديدة من المفاوضات للبحث عن حل موضوعي للقضية الفلسطينية ككل، على القيادة في رام الله وفي غزة ايقاف المذبحة وانهاء التظاهرات التي لن تنتج شيئا سوى التضحية بشباب الشعب الفلسطيني الذي يموت بالعشرات أمام انظار العرب والمسلمين في كل مكان.

انهار القرار العربي وانتهى الوقت القانوني للعبة ومفاوضات أربع وثلاثون سنة حول القضية الفلسطينية باءت كلها بالفشل والحل في بيد اسرائيل والفلسطينيين لا بيد العرب والمسلمين، والدخول في جولة حوار اكثر جدية وموضوعية هو المنتظر بعيدا عن التصلب الفلسطيني والتعنت الإسرائيلي وبعيدا عن الوساطات الأجنبية أيضا.


شاهد أيضا

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.