"الشأن التربوي" في مرآة "اللجنة الخاصة بالنموذج التنموي"

بعد طول ترقب وانتظار، نصب جلالة الملك محمد السادس أعضاء "اللجنة الخاصة بالنموذج التنموي"، التي ستتحمل مسؤولية وطنية وتاريخية، في بلورة "نموذج تنموي جديد"، يعول عليه، لتقديم الحلول الناجعة للأعطاب والمشكلات التنموية القائمة منذ سنوات، والتي كرست مفردات الفقر والهشاشة والإقصاء، وعمقت بؤر الفوارق والتفاوتات السوسيومجالية،  وجعلت شرائح عريضة من المغاربة، خارج نسق التنمية، بشكل قوى أحاسيس اليأس والإحباط وانسداد الأفق  وفقدان الثقة في الدولة والمؤسسات، وهي مسؤولية شاقة وجسيمة، لابد أن تمر عبر تملك أعضاء اللجنة لمعايير "التجرد" و"القدرة على فهم نبض المجتمع" وما يحمله من انتظارات وتطلعات، في إطار استحضار "المصلحة العليا" للوطن.

 

خطاب الذكرى العشرين لعيد العرش المجيد، شكل الإطار المرجعي للنموذج التنموي المرتقب، كما شكل - إلى جانب خطاب الذكرى 66 لثورة الملك والشعب - "خارطة الطريق" التي ينتظر أن تؤطر حدود وهوامش تحرك وتدخل "اللجنة" التي لن تكون - كما ورد في خطاب العرش - "حكومة ثانية، أو مؤسسة رسمية موازية، وإنما هي هيأة استشارية، مهمتها محددة في الزمن"، وهي خارطة طريق، يمكن تحديد معالمها الكبرى على النحو التالي :

 

- ضرورة أن تأخذ "اللجنة" بعين الاعتبار، "التوجهات الكبرى للإصلاحات" التي تم، أو سيتم اعتمادها في عدد من القطاعات (التعليم، الصحة، الفلاحة، الاستثمار، النظام الضريبي ...).

- تقديم مقترحات بشأن تجويد هذه التوجهات الإصلاحية الكبرى التي طالت القطاعات المعنية.

- أن تباشر مهامها بكل تجرد وموضوعية، دون أن تتحكم فيها مرجعيات أو خلفيات معينة أو إملاءات.

- أن تتحلى بالجرأة، بأن ترفع "الحقيقة" لجلالة الملك، ولو كانت "قاسية" أو "مؤلمة"، من منطلق أن "التوجهات الكبرى" و"البرامج" تتأسس على "الحقيقة" وعلى "المعطيات" و"الأرقام" العاكسة لواقع الحال.

- أن تتحلى بالنجاعة والابتكار في اقتراح الحلول، دون إحداث أية قطيعة مع الماضي.

- أن تقوم بمهمة "ثلاثية الأبعاد" : "تقويمية" و"استباقية" و"استشرافية".

 

بالنسبة لقطاع "التعليم"، فاللجنة ستجد نفسها أمام "توجهات كبرى للإصلاح" دخلت في طور الأجرأة والتنزيل، تعبر عنها على التوالي "الرؤية الاستراتيجية" (2015-2030) و "القانون الإطار لإصلاح منظومة التربية والتكوين" الذي دخل حيز التنفيذ قبل أشهر، قد يقول قائل، أن أمر التعليم قد حسم، بعد تبني القانون الإطار الذي سيؤطر الإصلاحات، ويضمن لها الاستدامة العابرة للزمن الحكومي، لكننا نرى أن مهمة اللجنة، لابد أن تمر عبر بوابة التعليم لعدة اعتبارات منها :

 

- ما أشار إليه جلالة الملك محمد السادس في خطاب "ثورة الملك والشعب"، في كون "الحصول على الباكالوريا، وولوج الجامعة، ليس امتيازا، ولا يشكل سوى مرحلة في التعليم، وإنما الأهم هو الحصول على تكوين، يفتح آفاق الاندماج المهني، والاستقرار الاجتماعي".

 

- حجم المشاكل البنيوية التي لازالت تعتري القطاع، والتي تفرمل الإصلاح وتعيق عمليات تنزيله.

- التراجع المقلق لمهنة المدرس، قياسا لمهن أو وظائف أخرى، وهو واقع يقوي مشاعر اليأس والإحباط وفقدان الثقة، بل أكثر من ذلك، يكرس مهنة فاقدة تماما للجاذبية، أصبحت أبوابها مفتوحة على مصراعيها، لكل من فشل أو يئس في الوصول إلى الوظيفة.

 

- الهوة القائمة بين "الإصلاح" و"واقع الممارسة"، بشكل يجعل الرياح المرسلة للإصلاح، بعيدة عن حرم المؤسسات التعليمية.

 

- تجاوز المناهج والبرامج القائمة منذ سنوات، في ظل المتغيرات الوطنية والإقليمية والدولية، وقياسا للثورة الرقمية الهائلة، التي تقتضي إحداث ثورة ناعمة في المناهج والطرائق ...

 

- النتائج غير المرضية التي حققها قبل أيام، تلاميذ مغاربة في "البرنامج الدولي لتقويم التلاميذ"(PISA 2018)، وهي نتائج وضعت "النظام التربوي الوطني" في الواجهة، مقارنة مع عدد من التجارب التربوية المعتمدة في عدد من البلدان على الصعيد الدولي.

 

- صدور تقرير التنمية البشرية لسنة 2019، والذي وضع المغرب كما كان متوقعا، في مراتب متأخرة عالميا (الرتبة 121 مقابل الرتبة 123 سنة 2018)، وهو أمر يضع مرة أخرى قطاعات حيوية واستراتيجية في الواجهة، وعلى رأسها "التعليم" و "الصحة"، وهي وضعية تمس بسمعة البلد بين الأمم والبلدان، ويضرب عرض الحائط ما تم إنجازه من أوراش تنموية وبنيات تحتية كبرى.

 

وكلها معطيات وغيرها، تفرض على "اللجنة" اقتحام خلوة المنظومة التعليمية، بتجرد وموضوعية، دون مرجعيات أو خلفيات أو محاباة لجهة من الجهات، والتحلي بالجرأة والشجاعة في "قول الحقيقة" وإن كانت مرة أو قاسية، وتقديم الحلول الممكنة، التي من شأنها تقويم مكامن الضعف والمحدودية والقصور، بما يضمن تحقيق "النجاعة" المأمولة، وإذا جعلنا من التعليم "المدخل الأساس" لمهمة شاقة متعددة المستويات، يتقاطع فيها الاقتصادي بالاجتماعي والثقافي، والبشري بالبيئي، والحقوقي بالسياسي، فلأن "التعليم الناجع والفعال"وحده من يصنع "الثروة البشرية" القادرة على التأثير الإيجابي في الاقتصاد والمجتمع والسياسة والحقوق والثقافة والبيئة والإعلام ، والمواطنة والقيم والأخلاق وغيرها.

 

ولا غرابة، في أن البلدان التي حققت إقلاعا اقتصاديا وتنمويا خلال العقود الأخيرة، خاصة في جنوب شرق آسيا، وجهت كل سياساتها لتأهيل الموارد البشرية، عبر إرساء منظومات تربوية عصرية، انتجت "موارد بشرية" متشبعة بالقيم والأخلاق (المواطنة، المسؤولية، روح العمل، الجدية، النزاهة، التفاني، الاستقامة ...إلخ)، بشكل حرر الطاقات والقدرات، وأطلق العنان للخلق والابتكار والتميز والإبداع والجمال، وفي هذا الصدد، فالرهان على الاقتصاد وإرساء قواعد منظومة اقتصادية محفزة وجذابة، هو أمر لا بديل عنه، لكن، وفي غياب ثقافة المواطنة والقيم والإحساس بالمسؤولية، واحترام الدولة والقانون والمؤسسات، وتقديس المصلحة العامة والبعد عن ممارسات العناد والخلاف والأنانية المفرطة، لن يحقق الاقتصاد أهدافه التنموية، إذا لم توازيه منظومة قيمية متينة.

 

دليلنا في هذا الطرح، هو ما أصبحنا نعاينه بحكم واقع الممارسة، من مشاهد العبث والتهور والعنف، وتدني منسوب المواطنة وتراجع القيم وغياب روح المسؤولية والمبادرة، في بنيات مدرسية لازالت بعيدة عن الإصلاح، في ظل حضور مناهج وبرامج وطرائق وأساليب تقويم، لازالت مصرة على مخاطبة "الذاكرة" في زمن الثورة الرقمية الهائلة، ودليلنا أيضا، ما أضحى يعتري المجتمع من مظاهر انعدام المسؤولية والجنوح الأعمى نحو الأنانية المفرطة والتواكل والتقاعس، والتكالب بحثا عن المكاسب والمصالح، والتحايل على القانون، والخلاف والصدام، والتربص بالخصوم لاقتناص خطاياهم وزلاتهم، إلى درجة، لم نعد نجد حرجا في الإساءة لبعضنا البعض، ولم نعد نجد حياء في نشر غسيلنا أمام الملأ، مانحين الفرصة للمتربصين بنا، ليتطاولوا علينا، وينتهكوا حرماتنا، وكلها معارك جبانة، كلنا فيها خاسرون ومنهزمون.

 

وبالتالي، نحن نرى أن مهمة "اللجنة" لن تكون ميسرة، في ظل بنية اجتماعية معقدة مرتبكة، يصب الرهان عليها لكسب رهانات المرحلة القادمة، التي تحتاج إلى شروط "النزاهة" و"الاستقامة" و"المصلحة العامة" و"المسؤولية" و"التعاون" و"التعاضد" و"الالتفاف" حول ثوابت الأمة، وكدا في ظل تفاوتات سوسيومجالية، بلغت فيها "الهشاشة" مداها، في واقع لا يمكن فهم نبضه "عن بعد" انطلاقا من المكاتب المكيفة، ما لم يتم النزول إلى الميدان، لرصد حجم الخصاص وحجم المعاناة، في الأحياء الفقيرة والقرى النائية والجبال والمداشر، حيث لا يعلو صوت على صوت القساوة بكل امتداداتها.

 

وفي ظل هذا الوضع، وبالقدر ما تبقى "اللجنة" مدعوة لتقديم الحلول الممكنة القادرة على تحقيق الإقلاع الاقتصادي، بالقدر ما هي مطالبة بزحزحة قارات التعليم، لأن قوة الاقتصاد من قوة التعليم، وقوة ونجاعة التعليم، هي رافعة للاقتصاد وقوة محركة ومؤثرة في قطاعات وحقول أخرى، كالسياسة والثقافة والصحة والقضاء والأمن والقانون والبيئة وغيرها، فالسياسة مثلا، لن تكون إلا مقرونة بالعبث، في ظل غياب ثقافة الإحساس بالمسؤولية والمواطنة والمصلحة العامة، والقضاء، لن يكون إلا منظومة بدون حياة، في غياب قضاة تتوفر فيهم شروط النزاهة والاستقامة والتجرد والموضوعية، والأستاذ في قسمه، لن يلعب دوره التربوي والتعليمي، ولن يكون محركا للإصلاح وصمام أمانه، إذا غاب عنه الضمير المهني وفقد بوصلة القيم، وجرفته سيول الجشع نحو عوالم الساعات الخصوصية...، ويبقى الخيط الناظم الرابط بين هذه الحالات وغيرها، هو "التعليم" الذي يبني الإنسان/المواطن..

 

وقبل الختم، نشير إلى أن "اللجنة الخاصة بالنموذج التنموي"،  لابد أن تستحضر أنها أمام "مفهوم" متعدد الزوايا (التنمية)، يلامس عددا من القطاعات والحقول المعرفية على رأسها "التعليم" و"الاقتصاد" مرورا بحقل "الثقافة" و"السياسة" و"البيئة" وانتهاء بمجال "الحقوق" و"الحريات" وغيرها، ويرتبط بالمجتمع (التنمية الاجتماعية) كما يرتبط بالفرد (التنمية البشرية المستدامة)، وهذا يقتضي تملك "نظرة متبصرة" و"مقاربة تشاركية ومندمجة''، تسمح ببسط "اختيارات كبرى"،  نابعة من عمق المجتمع ومعبرة عن قضاياه وانتظاراته الآنية والمستقبلية، بشكل يساعد على بلورة "نموذج تنموي جديد" يعيد الثقة والكرامة المفقودة، ويحقق العدالة المجالية والمساواة الاجتماعية والرخاء والنماء، مع الحرص على إعادة النظر في "التعليم"، وتشريح وضعيته بجرأة وموضوعية، بما يضمن التقويم والتعديل والتجديد، عبر "زحزحة قارات"  الأنظمة البيداغوجية القائمة منذ سنوات، وإعادة الاعتبار لمهنة المدرس، وإرساء مناهج وبرامج عصرية، تؤسس لمنظومة تربوية متينة، يمكن التعويل عليها لإنجاح النموذج التنموي المرتقب، الذي لا يمكن تصوره إلا في ظل تعليم عصري ناجع وفعال يساهم في بناء "الإنسان"/"المواطن" الذي بدونه لا يستقيم إصلاح ولا تتحقق تنمية.

 

ونختم بالقول، أن المرحلة الراهنة، تقتضي التعبئة الجماعية، والتحلي بروح المواطنة والمسؤولية، والتنازل عن الأنانية المفرطة وتجاوز مفردات العناد والصدام والخلاف، من أجل الإسهام الجماعي، في بلورة نموذج تنموي جديد، من شأنه أن يشكل - كما أكد جلالة الملك في خطاب ثورة الملك والشعب - "قاعدة صلبة لانبثاق عقد اجتماعي، ينخرط فيه الجميع : الدولة ومؤسساتها، والقوى الحية للأمة، من قطاع خاص، وهيئات سياسية ونقابية، ومنظمات جمعوية وعموم المواطنين"، وفي هذا الصدد، وبروح مواطنة، لا يسعنا إلا أن نتمنى التوفيق والسداد، لأعضاء اللجنة، في بلورة "نموذج تنموي جديد"، يقطع مع مظاهر "الارتباك" و"الهشاشة" و"الإقصاء"، ومشاهد "الريع" و"العبث" و"الإفلات من العقاب"، يحقق "التنمية المأمولة"، ويضمن العدالة والمساواة والإنصاف في "المغرب الممكن"..

 


شاهد أيضا

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.