ضرورة الرفع من مستوى النقاش العمومي

يمر مغرب اليوم، بمرحلة صعبة على مستوى النقاش العمومي، حتى أصبح البعض يتساءل عن مدى وجود نقاش عمومي – أصلا-  بالمعنى الدقيق للكلمة بالمغرب، لأن كل ما يتم تداوله على الساحة العمومية اليوم من نقاشات عمومية، وشعارات، وقضايا لا يمكن تصنيفها في خانة النقاش العمومي لارتباطها بما هو خاص، أكثر بما هو عام، ولارتباطها بجوانب خصوصية بالفاعلين، أكثر من ارتباطها بجوانب عمومية تهم المواطنين.

والأكيد أن هذا الوضع جعل النقاش العمومي في وضعية شاذة، نتيجة التراجع الخطير لثقافة المنطق، والعقل التي تؤطر النقاشات العمومية، بعيدا عن النقاشات الذاتية، والعقائدية، والسياسوية الخاصة البعيدة كل البعد عن الطبيعة العاقلة بدلالتها الكونية الكانطية.

السياسة وتدني النقاش العمومي: تتميز النقاشات السياسية بالمغرب بكثير من الرداءة المفاهيمية، والمنهجية والمعرفية، رداءة تؤكد عجز الفاعل السياسي على بدل أي مجهود فكري، أو معرفي يتجاوز المتداول في السوق السياسي، أو السوق الإعلامي، وحتى عندما يتم تناول نقاش حول موضوع ما، فغالبا ما يتناوله بكثير من الحيطة المفرطة، وبكثير من الخوف، وبكثير من العجز للتفكير خارج خريطة الأجندة المسطرة له مسبقا، حتى أصبح الموضوع الرئيس للنقاش السياسي بالمغرب هو التسابق لنشر الفضائح، والتشهير، والإشاعات، والتركيز على الحيلة الشخصية للفاعلين، والسب، والقذف، والتشهير دون إعطاء أي اعتبار للسياسة، أو للنقاش العمومي كأخلاق، وكمبادئ، وكقيم .

النقاش العمومي بين الكم والكيف: يعج المشهد السياسي، والإعلامي بكثير من السياسيين، وبكثير من المهتمين بالشأن السياسي، مما جعل النقاش العمومي يخضع لمنطق الكم، وليس لمنطق الكيف، الأمر الذي حتم على النقاش العمومي أن يكون تحت قبضة سياسيي، ومحللي، ومثقفي الخدمات، والأجندات، أكثر من منتجي المعرفة والفكر، بل إن النقاش العمومي أصبح ضحية الكثير من التأويل مقابل القليل من التحليل، الأمر الذي أفرز فضاء مؤثثا بكثير من المؤولين، وبقليل من المحللين.

وفي هذا الصدد، أتفق مع موقف "سعيد ادوارد" الذي تحدث عن "الخيانة الثقافية"، ويقصد بها تحول المثقف إلى أداة طيعة في يد طبقة، أو هيئة، أو مؤسسة، أو سلطة تتوسل إليه لكي تحقق من خلاله "أجندتها " عبر التحكم فيه  وجعل فعل تفكيره  مجرد ملحق ثانوي لتأثيث الواجهة، وبهذا المعنى، يفقد المثقف مقاومة هيمنة السلطة السائدة بمختلف أنماطها المادية، والاجتماعية والسياسية، والرمزية التي تحتكر البنية الفوقية للمجتمع، والسياسة، وتحول النقاش العمومي إلى قضية كم، وليس قضية كيف، إلى قضية واجهة، وليس قضية جوهر.

النقاش العمومي بحاجة لثورة ثقافية : مستوى النقاش العمومي بالبلاد أصبح مقلقا شكلا، ومضمونا حيث وصل إلى مستوى لم تعرفه النقاشات العمومية حتى في أحلك المراحل التي عرفها المغرب، ومن مخاطر انحطاط النقاش العمومي نفور المواطن من الثقافة، ومن النقاشات العمومية، والسياسة، وترك الفراغ أمام ‘’التطرف’’ و’’الإرهاب’’ الفكريين، وتزييف الحقائق، وتعويم النقاشات الأمر الذي يمثل خطرا على المعرفة، والثقافة، والمجتمع، ويعرقل كل مشاريع الأمم وخياراتها الاستراتيجية.

وفي هذا السياق، يرى "روجيه دوبريه" بأن المحطات التاريخية الكبرى للأمم  بحاجة لما يسميه " بالمثقَّفين التنويريين"  ويقصد بهم أولئك الذين لا يخونون نصَّهم الإبداعي، معتبرا التفكير جوهر الإبداع، لكون الإبداع ثورة على الواقع المستغل من طرف سلطة، أو مؤسسة، أوهيئة بمشاركة ‘’مثقفين خائنين’’ لا يفكرون خارج الإيديولوجيات السياسوية، والأجندات المحددة لهم سلفا.

وهذا النوع من المثقفين يكرههم "سعيد ادوارد" لكونهم فاقدين لمبدأ المقاومة، أمام إغراءات السلطة، والمال، والمواقع، مضيفا أن فقدان المقاومة، والنقد وجعل سلطة الثقافة تحت رحمة سلطة الأجندات، تحول المثقف إلى مؤثث "للفضاء الإعلاني" publicitaire" أكثر منه "للفضاء العمومي" public".

بصفة عامة، يمر مستوى النقاش العمومي بالمغرب بمرحلة صعبة بعد تحويله من نقاش منتج لمعرفة، ولأفكار، إلى نقاش عامي، فارغ من النظريات، والأسس المعرفية، من نقاش عمومي، تنافسي، إلى نقاش بئيس، بؤس الواقع، وبؤس النخب، ومن نقاش مبني على قيم، إلى نقاش تمييع، وتهريج، وقذف أكثر منه نقاش أفكار، وقضايا ومقاربات.

الأمر الذي أفرز نقاشا عموميا فارغا على مستوى مناقشة البرامج، والأفكار والنظريات، تحول معها الفضاء العمومي لخانات فارغة، وشعبوية زادت من تلويث نقاشات الفضاء العمومي، فقد فيه المثقف القدرة على طرح "الأسئلة المحرجة"، وبعثرة ‘’خطط السلطة المبيتة’’، التي تحاول أن تجعل فعل التفكير، ومن النقاش العمومي مجرد ملحق ثانوي لتأثيث الواجهة كما يقول "ادوارد سعيد".

 


شاهد أيضا

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.