الطريق المختصر للجنون في مسرحية " قميص حمزة "

احتفاء باليوم الوطني للمسرح قُدمت مسرحية " قميص حمزة  " لمؤلفها "عبدالاله السماع "، و إخراج " مراد الجوهري"، و من أداء "أحمد بلال " التي عُرضت بسينما " أبيدا " بالعرائش يوم 21 ماي من السنة الجارية بحضور نوعي احتضنته جمعية " فضاءات ثقافية " للكاتب "عزيز قنجع ".

وفي مساحة الصمت بزمن يناهز الساعة  كشف  الركح، و تحدثت الخشبة مع المونودراما في زوايا الكشف وضحالة الوجود، و الرغبة في الصراخ تصل حد السخرية من العالم لشدّة واقعية اللوحات المحتشدة بخطاب البؤس و السواد  و الموت في اختبار للعقل و مخيلته ، حيث يُجسد ( يونس و حمزة وذات المؤلف/الضمير/الروح ) عنوان سريع و متحول من جوانب المأساة تتوزع بين طبيعة السلوك البشري و خطاب الحياة ، مما جعل ضيق الكراسي و وجوه الجمهور في حالة نفور من الوجود مع نوتات تكتسي الآهات بموسيقى أشبه ما تكون ارتداد للصدى في الخلاء تمكن  من خلالها "نور الدين الخاتر " أن يكشف العتمة بصوت جسده بياض أنثوي لـ " نهال سحنون " مفعم بالإيحاء يزيد من الاستفهام في لوحات العرض حيث افتقد الزمن في حواشي المابعديات والواقع.

في مسارات انتقالية تتفرع بين الزمن الدائري و المتقطع تحفز الغضب و القلق تقترح علينا أننا هم و هم نحن ، لكون المؤلف و المخرج  استبعدا التقليد و أقحموا عوالم نفسية تخوض في العقل و تخلخل قواعد التمثيل المونودرامي في مفارقات تحمل اللاثمتيل و الثمتيل في الحكي و السرد و التقمص بتشخيص متقن ، أُحكم فيه غرق الجمهور مع كل لوحة عن طريق اختراقه و دعوته الى الانتباه ، بعمل ساحر أصبح فيه الجهور مُمَثلا و  ضحية في آن لصالح النص المسرحي و أدائه .

تحكي مسرحية  " قميص حمزة " عن الضمير الانساني مجسدا في نطاق المابعديات في البعث بعد الحياة  ليتحول الى "يونس" و "حمزة" و رموز تحمل القضية الفليسطنية في ثناياها و الفاشية في مسارها و العنف في سياقها و الوجود في ماهيتها ، في بنية صراع حارق للإنسانية وُضعت على مشرحة النقد مُتجاوزة التفاصيل الصغيرة مُبرزة الاحالات الواقع في عنف المحتل ومسألة التزييف و التعتيم الذي يشهده العالم بإخفائه في مسودات " القميص "  الذي يعري الحقائق و يوسع مراوح الرؤيا بيننا كنحن و الخفاء ، و لعل كذلك أنّ العرض أكد نفسه من خلال اللوحات المتنوعة في إعادة تذكيرنا بالمهام المطلوبة هي عبارة عن تلميحات بجزئيات تضمحل و تعود  في شحنة صدامية عاطفية لا يمكن تفادها في هذا العمل المسرحي ضد التطبيع مع أعداء الانسانية بجرأة سيكولوجية تتفجر ، بالتالي تستغور العقل بصرخات مخفية فيما  العجز و صور الالغاء من الوجود بطرق غير مبررة  تسيطر و تشكل حقيقة ثابتة في العمل ، لأنه يحكي عن أشياء جرت أحداثها في الماضي و مستمرة مستقبلا و في كل امتداد زمني بدا معه شكل التقطيع الى لوحات عدّة تحول للشخصية حيث برزت فلسفة المسرحية و مراحل التحول هذه .

إن " عبدالاله السماع " المؤلف و الكاتب نجح بشكل مختصر اختصار الطريق المؤذية للجنون بما تضمنه النص من تجاوز رشيق  ل "تشيخوف " أو "جون جوني" في البعد التراجيدي مسخرا في هذا العمل اللغة العربية الفصى معبرا عن الخصوصية و الانتماء  و التكوين و التكامل في التأليف لنص من نوعية المونودراما ، إلاّ أن "مراد الجوهري " المخرج جمع الجوانب المشكلة للنص على المستوى النفسي و التناقضات مُوازنا التقاطعات الحاصلة للإنسانية مخاطر بالعمل التأليفي في الظاهر لكنه تفرد في الاعداد للمتعة الفكرية و الحسية ، فعلى طول العرض تشعر بالقراءة السيكودرامية المفتقدة بأعمال من هذا النوع حيث تهرب الدلالة و تتفكك ثم تتقدم في استدعاء للميت (الضمير الانساني/الروح  ) مجسدا الحاضر تتمازج فيه الازمنة و تذوب ، تُمْعن الابحار في العقل و النفس مانحا المشخص تعدد الخطاب و التواصل مع الجمهور بشكل متفرد متجها اليهم بأوراق يتفحصنها معا بقوله: "ما تفهموش" ، طارحا تساؤلات عدّة حول ما إدا كانت الروح تحتج و تنتفض ،  رابحا معادلة جديدة تطرح على الخشبة ..  متجاوزا بما يعتقده البعض المقدس في العمل المونودرامي ، لكن ثمة و قفة خاصة في هذا العمل النادر اضافة الى التميز و التفرد هو احكام السيطرة من طرف المخرج على المشخص دون الاحساس بتضخم الانا أو الاقتصار على الحكي و الصراح ، بأدوات فنية متكاملة  للفعل الدرامي دون التورط في اللعب الأوحد داخل الركح ، فالجمهور أولا كما تمت الاشارة و تعدد الشخوص دون الدخول في عملية التعويض التي تفرضه غالبا المونودراما و كدا الاصوات الغنائية ، مما أعطى الجمالية و الحيوية و الابداع النابعة من قوة النص و رؤية المخرج الخلاقة الذي ترجمها ، فيما ابتلاع  الممثل " أحمد بلال"  الدور بالتناص و استجابته المطلقة  لما خلق من أجله في ارتقائه بالأداء وجدانيا مع التقلب و التحول حيث يصبح الباطن مكشوفا عنده و المكشوف باطن ببداية العمل الى نهايته

بالمحصلة العرض انطوى على خلجات انسانية عميقة من حب و غضب و ألم ... كأنما "عبد الاله السماع " استنطقنا جميعا بكافة هواجسنا و تناقضاتنا الداخلية في المكاشفة مع الذات ... و اتضاح  الادراك الجامع للمخرج و تراكمه من خلال الاستعانة " بدارالفنان" التشكلي "محمد الحراق " التي تعكس ريشته جمالية ذوقه الرفيع سواء من حيث الاشراف على السينوغرافيا أو كسر التحولات الزمنية في العرض ببراعة دقيقة بطريقة ذكية و عبقرية في الاضاءة المواكبة للتعاقب من خلال فرض أسلوب _المخرج_ لعناصر أخرى مثل الجدران المتكسرة و الأحذية العتيقة التي أرادها كمشاهد للمأسوية مع شجرة منسدلة تأخذ الحيز الجانبي الأيمن بدت كسلطة دينية تفرض الموت و الاحياء مدعومة بإضاءة بنفسجية و خضراء وزرقاء وحمراء وسوداء تبلور عوالم الانسان من اشكالية الوجود النفسي المضطرب و المناخ العالمي الممزوج بالدم .

إن حالات التعدد و التكثيف في مسرحية " قميص حمزة " سواء من حيث اشتغال المخرج على مساحات المؤلف و المشخص للمساحتين ، خلق حالة من التجسير للمهام الرسالية المتوخاة من العمل في الواقعية المفقودة المهدورة بعالم العبث و الفوضى و الرمزية في الاغتراب و فقدان البوصلة و المتاهات اللامتناهية و الرمادية ... بتوظيف العرض في صورة مشبعة بالدلالات السيمولوجية  أغنته من خيال محسوس وتجانس ... تجعل العقل على حافية الهاوية و الجنون لتأسيس عناصر الجمال في واقع بائس  .


شاهد أيضا

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.