يوميات أستاذ من درجة ضابط..وقفة مع سليم وسليمان

..سماء مازاغان تبدو ساكنة .. وطلائع الحرارة أضحت تلوح في الأفق بعد قساوة برد الشتاء .. تغير كل شئ بين الأمس القريب واليوم .. بين المقدمات وبين الخواتم التي أخذت تلوح في أفق القاعة الزرقاء والأشجار الباسقة والأعشاب المتناثرة والحجرات الساكنة .. والنافورة المهجورة التي أضحت طللا صامدا .. وحدها العيون والخطوات والقهقهات .. تبت فيها الحياة وتضفي على وجنتيها ألوان الحب والأشواق .. تعود "سليم" كل عطلة نهاية أسبــوع ، أن يغادر "مازغان" ويشد الرحال إلى " المحمدية" مدينة الزهور ، ما أن يحل يوم الجمعة وينهي آخر حصة مبرمجة ، حتى يهرول إلى الغرفة رقم "10" ويجمع أغراضه الخاصة ، ويستقل أول سيارة أجرة صغيرة تارة في اتجاه محطة القطار ، وتارة أخرى في اتجاه محطة الحافلات بمركز المدينة إذا كان أمامه وقت كاف .. عطلة نهاية الأسبوع والعطل المدرسية ، كانت بالنسبة إليه.

فرصة للتخلص من رتابة الحياة بالداخلية ، ومن آهات أسبوع شاق بامتياز .. أما "سليمان" فقـد تعود كل عطلة نهاية أسبوع ألا يبارح الغرفة (رقم 10) نسج بينه وبينها أواصر حب جارف ليس له حد ولا آخـر ..لايغادر الغرفة إلا مرغما أيام العطل المدرسية والأعيـاد ... وقد كان "سليم" يمزح معه دوما قائلا : "ستكون أنت يا سلطان سليمان آخـر من يغادر أبواب المركز في آخر الموسم التكويني " ، وكان "سليمان" يبدو مزهوا منتعشا كلما سمع هذا الكلام ..

كل زوال و كل مساء ، كان "سليمان" يغادر المركز بخطوات متثاقلة وكأنه قديس يوزع صكوك الشوق على مريديه ، كان "سليم" يرافقه كالظل .. كانا يبدوان كالعود والوثــر .. كالشتاء والمطر .. وجهتهما المعتادة كانت "سوق السعادة" حيث لا صوت يعلو على أصوات باعة الخضر والفواكه والخبــز الساخن ، تارة كانا يستسلمان لنكهة الطاجين ، وتارة أخــرى تسرقهما رائحة الدجاج المحمـر ، وتارة ثالثــة يتسللان كما يتسلل العشق إلى الوجدان إلى محل خاص بالمسمن والحرشة والحريــرة الساخنـة .. عقب كل وجبــة غداء أو عشاء ، كانا يقومان بجولات بين الحوانيت المتراصة .. ويقتنيان ما يلزمهما من خبز و نعنــاع ، ثم يغادران و يعودان على عجـل إلى الغرفة رقم 10 كما لو كان كل واحد منهما متعطشا لاحتضان حبيبته بعد طول انتظـار .. كان "سليمان" كلما وطأت قدماه المركز .. إلا وهاجمته نسائم الشوق من كل صوب واتجاه ، ترغمه أن يخطو خطوات متثاقلة متبخترا كالطاووس الهائــم .. ينظر يمينا وشمالا كما لو كان يبحث عن طريدة أو فريسـة وسط غابة هائمة ..مزهوا يلقي ابتساماته العريضة على بعض الوجــوه .. تحس أنه راع يتفقد الرعية بعنفوان .. يتسلل إلى الغرفة خلسة كما يتسلل الهيام إلى دهاليز الشوق .. ويتربع على الأرض تاركا دفء السرير وكأنه يتأهب لتناول الكسكس .. بعد أن يكون قد هيأ براد شاي منعنع ساخن .. يبدو كشيخ وسط خيمة صامتة في قلب صحراء قاحلة ..

لا ماء فيها ولا هــواء ..وحدها شاعريته الحبلى برياح الهيام .. تضفي على الغرفة هالة من البهجة والحبور والسرور رغم سكون اللحظة .. هكذا تعود "سليمان" أن يعيش اللحظة مرفوقا برفيق دربه" سليم" ، لكنه تعود كل عطلة نهاية أسبوع ، أن يعيش نفس اللحظة بمفرده في غياب "سليم" .. أن يخرج ويعود للتو .. ألا يبارح المكان .. خلال كل هذه المدة .. ربط مشاعر حب مع الحجر والشجر .. مع النخل والزيتون .. مع النافورة .. مع الأشجار الباسقة .. تعود كلما مر بمحاداة النافورة .. أن يردد ترنيمة مطلعها .. من هنا .. من النافورة الزرقاء .. من أمام هذه النخلة والزيتونة .. بدأت الحكاية .. حكاية بطلها .. شاعر مبجل هائم .. إسمه .. السلطان سليمان زمانو...


شاهد أيضا

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.